الأحد، 15 سبتمبر 2013

المواجهة الحضارية بين الشرق و الغرب في رواية ( السيدة فيينا ) ليوسف إدريس

المواجهة الحضارية بين الشرق و الغرب في رواية ( السيدة فيينا ) ليوسف إدريس **



د. يوسف إدريس


تعتبر رواية السيدة فيينا ــ فيينا 60 ــ للدكتور يوسف إدريس من روايات المواجهة الحضارية و التي 

ارتبطت بالغرب / الآخر ارتباطاً مباشراً ، ذلك الاتجاه الذي يرصد الصراع بين حضارة ( الشرق / 


الذات ) العريقة ذات التاريخ الحافل و التي تراجعت أمام حضارة ( الغرب / الآخر ) الاستعماري 


المتغطرس و ذلك من خلال الصراع الدائر بين أبطال الرواية الذين ينتمون للحضارتين أو يتعصب 


أحدهم لحضارة على حساب الأخرى ، و كان لرواية ( قنديل أم هاشم ) للأديب الكبير يحيى حقي 


فضل تسليط الضوء على هذا الصراع و التي فتحت الباب أمام العديد من الروايات الأخرى و التي 


اصطلح النقاد على تسميتها بروايات المواجهة الحضارية .




و الرواية التي بين أيدينا تعد إحدى هذه الروايات و إحدى روايتين لكاتبهما د. يوسف إدريس هما 


السيدة فيينا ــ فيينا 60 ــ و رواية نيويورك 80 ، و الأولى هي التي نعرض لها بالتحليل الآن كمحاولة 


لاستكناه ذلك الصراع من وجهة نظر كاتب عاش بالغرب فترة و تعلم فيه .

و قد دارت أحداث الرواية في قلب أوروبا / الآخر بعاصمة النمسا فيينا مدينة الأنس ، و بطل الرواية 

هو ( مصطفى ) أو ( درش ) كما هو شائع في المجتمع المصري ، موظف مصري ظل يكافح لمدة 

ستة أشهر كاملة ليوفد إلى هولندا في مهمة رسمية ، و تمَّ له الانتصار بعد كفاحه بكل الطُّرُق 

المشروعة و غيرها .

فالمهمة التي أراد الذهاب فيها لأوروبا رسميَّةً ــ اسماً ــ و لكنها للفسحة و التفرج في حقيقة الأمر و 

إذا كنت من المدققين فهى من أجل النساء الأوروبيات تحديداً !


( كان درش إذن قد انتهى من النساء في مصر ، و ذهب و في نيته أن يغزو أوروبا المرأة ) [1]


فدرش كان مهتماً بالنساء و له تجارب عديدة معهم ، فهوايته هي النساء ــ على حد تعبير د. يوسف 

إدريس ــ لكنه أراد أن يتذوق طعم ( المرأة الأوروبية / أوروبا المرأة / السيدة فيينا ) و ذلك محور 

الرواية كما سنرى .

فما كاد يُنهي مهمته بهولندا حتى أسرع إلى مدينة الأنس ليبحث عن سيدته ، و لأن درش قد ذهب 

إلى أوروبا جرياً وراء غرائزه و دون هدفٍ آخر حقيقي ، و لأنه كان ولِعاً بأوروبا مبهوراً بها ، كان و هو 

يبحث عن ضالته المنشودة في فيينا في ليلته الثالثة حائراً زائغ البصر .


( و ها هو ذا له يومان في فيينا ، و تلك هي ليلته الثالثة في مدينة الأُنس و الأحلام و لم يحدث 

شئ ، مع أن النساء أمامه و خلفه و حوله و في كل مكان ، نساء نمساويات فيهنَّ تتركز روح أوروبا 

، نساء من مختلف الألوان و الأعمار و الأشكال و كُلَّهنَّ بلا استثناء يتمتَّعنَ بقسطٍ وافرٍ من الجمال 

، حتى القبيحة لابد أن يكون جسدها جميل ، أو لابد أن تجدها صاحبة ذوق رفيع في اختيار 

ملابسها . كل واحدةٍ فيها شئ ، شئ من أوروبا ، و كل واحدةٍ لها ميزة . و عقله مشتت موزع ، و 

بصره لا يزال كما بدأ الرحلة حائراً زائغاً ) [2]



و مصر لا تمثل لدرش الوطن فقط ، بل تمثله بكلِّ ما فيه ..


( قرأ كلمة مصر ، و دقَّ قلبه بانفعالٍ فلابد أنَّ الجريدة تتحدث عن شئٍ حدث هناك ، و في 

غمضة خاطرٍ واحدةٍ كان قد احتوى مصر بكلِّ ما فيها خجولاً لا يكاد يطيق النظر لنفسه ، إذ كان 

لا يزال واقفاً في الميدان يُفتِّشُ بعينيه عن المرأة ) [3]



فمصر عنده ــ في ذلك الوقت تحديداً ــ هي زوجته أيضاً ، و ابنته الصغيرة ، و عادات و تقاليد 

مجتمعه ، و هي البراءة و الطهارة و العفَّة الشرقية التي جعلته خجولاً من تصرُّفاته في أوروبا .

و لأنه لا يهتمُّ سوى بالرغبة فتصرُّفاته دائماً تميلُ إلى الفوضوية ، و هو ما يجسده موقفه مع الفتاة 

النمساوية ذات الستة عشر عاماً حين أراد جذبها إلية عنوة تحت أثر السُّكر و الخوف من ضياع 

الوقت دون أن يحظى بلذَّته أوروبية المذاق . [4]


و تتكشَّف لنا شخصية درش خطوةً فخطوة ، فهو صاحب مبدإٍ في نظرته للمرأة ، فكما تخصَّص في 

البنات ( الخام ) في مصر كان يريد أن يتعرَّف على امرأةٍ أوروبيَّةٍ أصيلةٍ و ذات شخصيَّة ، تريده لذاته 

و لا تريده لنقوده و تمنحه نفسها بمطلق إرادتها . [5]

و تُطلُّ علينا أمريكا من حيث لا ندري ، فهؤلاء البحارة الأمريكان الذين نافسوه على المرأة الأوروبية 

قطعوا عليه كلَّ السُّبُلِ لممارسة هوايته ... و لكن لماذا أمريكا الآن ؟!

حتى هذا التَّساؤل طرحه درش و قد فعلت البيرة أفاعيلها في رأسه .


( و هكذا بدأ يُلقي بتحيَّات المساء ذات اليمين و ذات اليسار بصوتٍ مرتفعٍ ضاحكٍ ، غير مُبالٍ أن 

يردَّ عليه أحد . و إذا توجَّه بتحيَّةٍ إلى امرأةٍ و أشاحت بوجهها في استنكارٍ و تقزُّزٍ ، أخرج لها لسانه 

و كاد يقول : يلعن أبوكم . يعني ما ينفعش إلا الأمريكان ؟ ) [6]



و لكن هذه الرَّغبة التي يهتمُّ بها درش بل و التي سعى إلى أوروبا من أجلها كانت مُغلَّفةً بنفس إطارِها 

الشرقيِّ المعتاد عند درش نفسه ؛ فهو ينتظر من الفتيات اللائي تركنَ البحَّارة الأمريكان أن يبدو 

عليهنَّ أقَلُّ بادرةٍ حتى يُقدِمُ على إحداهنَّ ــ حتى و هو ليس في كامل وعيه ــ فمازالت شرقيته تطغى 

عليه . [7]


و لعلَّ هذه الشرقية التي مازالت مسيطرةً على تصرُّفاته من فوضويَّةٍ و أساليب قديمةٍ لإيقاع المرأةِ قد 

دفعته إلى شعوره الدَّائم بأنَّه غريبٌ ـــ خاصة في الأوقات التي يتسلَّلُ إليه فيها الإحباط ــ و دائماً ما 

يُعاوده الحنينُ إلى بلده . [8]

و قد يتجلَّى ذلك الصراع بين إحساسه بالغربة حين يتذكَّر زوجته و ابنته الصغيرة ببراءتهما المعهودة ، 

و بين ما يحاول هو بذله في فيينا من أجل تلك الرغبةِ و سعيه الحثيث وراء ذلك .


( و لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعاوده فيها إحساسه بالحنين إلى بلده و كلما شمَّ رائحة 

السجق و هو يُقلى ، كلما سمع رطانةً ألمانيَّةً لا يفهم منها حرفاً ، كلما حدَّق في سيِّدةٍ و لم تأبه له 

، عاوده الحنين إلى بلده و شقَّته المحندقة في شارع ابن خلدون ، و زوجته النقيَّة الصَّافية كدعوات 

المجاذيب في حيِّ الحسين ........ و هو هنا ، في قلب فيينا ، يبحث عن امرأةٍ يُجرِّبُ طعمها 

الأوروبي ، و الساعة قد جاوزت مُنتصف الليل ! ) [9]


و حاول درش أن ينسى كلَّ ما تذكَّره الآن عن وطنه و زوجته و طفلته ، حتى لنراه مُصِرّاً إصراراً 

عجيباً على أن يُحقِّقَ ما أتى إليه بعد شهورٍ من الجهد المتواصل ، و هذا يؤكِّد على أنَّ هذه الرغبة قد 

طغت على أهمِّ و أدقِّ تفاصيل للبراءة في حياته مما جعله يذعن لرغبته دونما تفكير .

و الغريب أن درش يريد أن يمارس التطهير مع ذاته عن طريق تأنيب الضمير و محاولات جلد الذات و 

التي لم تستطع الصمود أمام رغبته الجارفة في تذوق جسد سيدة أوروبية .

و أخيراً ..

وجد درش ضالته المنشودة / امرأته الأوروبية بعد سلسلةٍ من المتاعب و الإحباطات المتوالية ، و بعد 

أن مارس عليها سياسة فرض النَّفْسِ ذهب معها إلى بيتها برغبتها و بكامل إرادتها ، و لكن فوضويَّته 

الشرقية أبت أن ينتظر حتى يصل للبيت دون أن يُقبِّلَها في الطريق المظلم المؤدي لمنزلها ، و سرعان 

ما عقد مقارنةً بين نساء أوروبا و نساء مصر ـــ الشرقيات عامة ـــ ...


( و فارت الدماء في عروقه .. هذه هي المرأة و إلا فلا . النساء في الشرق جثثٌ لا نستطيع أن 

ننالهُنَّ إلَّا رغماً عنهنَّ ، حتى لو كُنَّ يذُبنَ غراماً فيك . لا يرضيهنَّ إلَّا أن يُؤخذنَ عُنوةً ، و لكن 

المرأة هنا ، يا سلام تُقبِّل المرأةَ فتقبِّلُك ، تحضنها فتحضنك ، تأخذها فتأخذك ، هذا هو الشغل 

المضبوط ، هذه هي المساواة الحقيقية بين الرَّجُلِ و المرأةِ . ) [10]


و هذه المقارنات السريعة و التي عقدها بين المرأة الغربية و نظيرتها الشرقية أثَّرت عليه بالسلب أثناء 

مُضاجعته لسيدته النمساوية من قلقٍ زائدٍ و خواطرَ مُتتاليةٍ غزت عقله كادت أن تُفسد عليه ليلته و هو 

على الفراش معها .

و على المقابل كانت رغبتها في مضاجعة أميرها الشرقي حلم يراودها من زمن أن سمعت عن الشرق 

و سحره مما أكَّد أنَّ النزوع إلى الآخر مُتبادلاً بين الطرفين ( الشرق و الغرب / الذات و الآخر ) .

و حين فشل درش في إقامة علاقة جنسية مع سيدته النمساوية ، بل حين توقفا للتدخين لم يستطع 

حتى أن يفكر فيها وهي تتمدد إلى جواره عارية تماماً ، بل حين لا يفكر فيها يشعر بالارتياح و يتذكَّر 

لحظتها زوجته ( أنيسة ) تلك المرأة البسيطة التي تأمن له و تحبه .

و يغمض عينيه حتى لا يرى سيدته النمساوية و يأمرها أن تُطفئ النور و هو مازال مغمض العينين ، و 

بعد أن اطمأنَّ بأنَّ النور قد أُطفئ لم يفتح عينيه أيضاً و كأنَّه لا يريد أن يرى إلَّا فراشه و ( نوسته ) ..


( و لبرهة خاطفة ظنَّ درش أنه يحلم ، و لكنه كان فعلاً يُحيطُ امرأةً بذراعيهِ و كان يُغمضُ عينيه ، و 

خاف لو تحرَّكت المرأة أن تطير " نوسة " من خياله فأمرها أن تتحرَّك .......و حتى بعد أن اطمأنَّ 

إلى أنَّ الظلمة قد سادت الحجرة لم يفتح عينيه . كان لا يريد أن يرى شيئاً ، فهو لا يرى إلا فراشه 

و " نوسته " ، و لا يسمع إلَّا همساتها الرقيقة له ، و أصوات بائعي الفول " الحراتي " حين ينادون 

عليه من بعيد في شارع ابن خلدون .) [ 11 ]



و استطاع كلٌّ منهما أن يقيم علاقة جنسية ناجحة مع الآخر في نهاية الأمر حين تخيَّل كلٌّ منهما أنه 

مع رفيقه / زوجه ، و أحس درش بأنه يودُّ مصارحة سيدته النمساوية بأنه لم يكن معها بل كان مع 

زوجته ، لكنه خجل من هذا حتى فوجئ بها وهي تقول له بأنها كانت مع زوجها لا معه على الفراش !

و قد ختم د. يوسف إدريس الرواية بقوله :


( و قبل أن يجتاز آخر بلوك في المبنى سمع درش جرس منبهٍ يدقُّ من بعيدٍ في إصرارٍ مكتوم . لا 

شكّ أنَّه منبهها ، و لا شكّ أنَّها تناضل إرهاقها و سهرها و الدفء ، و تحاول أن تغادر فراشها 

لتلحقَ بعملها و دنياها .و أحسَّ درش أنَّه لم يعد غاضباً على نفسه ، كلُّ ما أصبح يشغله في تلك 

اللحظة هو شعورٌ كان قد بدأ ينبثق في نفسه و حنينٌ غريبٌ جارفٌ إلى بلده .. و عائلته الصغيرة .. 

و الدنيا الواسعة العريضة التي جاء منها . ) [ 12 ]


و بهذا مارسَ درش التطهير بشكلٍ آخر غير تأنيب الضمير ، و ذلك عن طريق شعوره أنه لم يخن 

زوجته بل كان معها ، و لكن إحساسه الجارف بالحنين إلى بلده و عائلته الصغيرة هو الذي يؤكد نهاية التجربة .

بقيت مقارنة صغيرة بين درش و سيدته النمساوية ، أو بالأحرى نقاط التقاءٍ و تشابهٍ .. فهما :

( 1 ) كلٌّ منهما يبحث عن الآخر :

فدرش يبحث عن المرأة الأوروبية / السيدة أوروبا

أما السيدة النمساوية فتبحث عن أميرٍ شرقيٍّ يحلِّقُ بها في فضاء السحر و الخيال بعيداً عن المادية 

الغربية القاتمة .

( 2 ) كلٌّ منهما يعملُ موظَّفاً .

( 3 ) كلٌّ منهما طال غيابه عن رفيقه / زوجه .

( 4 ) كلٌّ منهما حين مارسَ الجنسَ مع الآخر تخيَّلَ ( رفيقه / زوجه ) للخروج من أزمة الفشل 

الجنسي .

و بهذا فليس درش وحده هو الذي يعبِّر عن انبهاره و رغبته و سعيه للآخر الأوروبي ، و لكن سيدته 

النمساوية – كنموذجٍ مُصغَّرٍ للسيدة فيينا / الغرب / الآخر – هي الأخرى تسعى في انبهارٍ إلى ( 

الآخر / الشرقي ) ، و إن كانت تلك الرغبة و ذلك الانبهار أقوى عند ( درش / الذات ) منه عند ( 

السيدة النمساوية / الآخر ) .

و كأن د. يوسف إدريس أراد أن يشير إلى ذلك الولع الشرقي بالغرب ، و لكنه و من طرفٍ خفيٍ أكَّد 

أن ذلك الغرب الأوروبي مازال منبهراً بالشرق و سحره ، فكلا الطرفين يسعى للآخر و يجد عنده ما 

يفتقده في حضارته التي ينتمي إليها .    






** بقلم / أحمد حنفي

الإسكندرية 2004

و المقال جزء من دراسة بعنوان ( الغرب في أدب يوسف إدريس ) - تعد حالياً للطبع




الهوامش


[ 1 ] رواية السيدة فيينا – فيينا 60 - ، د. يوسف إدريس ، طبعة مكتبة مصر . ص 79


[ 2 ] السابق ص 80


[ 3 ] السابق ص 81


[ 4 ] راجع الرواية ص 84

[ 5 ] راجع الرواية ص 86


[ 6 ] رواية السيدة فيينا ص 90

[ 7 ] راجع الرواية ص 91

[ 8 ] راجع الرواية ص 93

[ 9 ] رواية السيدة فيينا ص 94

[ 10 ] السابق ص 130

[ 11 ] السابق ص 157 ، 158

[ 12 ] السابق ص 160


الأحد، 5 مايو 2013

استراتيجيات الذات في إدارة صراع الدوال


الصورة و براعة الاستهلال

(استراتيجيات الذات في إدارة صراع الدوال)


( نص " تداخلات " للشاعر / أحمد عواد .. أنموذجاً )




 ( 1 ) النص :


( تداخلات )


عنيكِ زهرة دفا
و سنيني رعشة برد
مين فينا حيعدي الحدود ؟
مين اللي يقدر يدخل التاني ؟
و مين يعرف طريق الانفلات ؟
لسه السنين ..
بتخاف من الجاي و اللي راح
لسه الحروف متشرنقة
كل الكلام اللي انتهى ..
جايز ما يرجعش
و أنا لسه شايل بين حروفي فرحتك ..
و برتـلك ..
لحظة ما يبقى القلب بيخاصم عنيكِ ..
و ابدرك من أول التكوين ..
و انتهي لك ..
ألقاني بين لحظة جموحك ...
دمعتين ..
            و ســـؤال ...!

20 / 10 / 1998

[ ديوان : صهد البنفسج ، للشاعر / أحمد عبد الرازق عواد ، ص 65 : 66 ــ سلسلة كتاب راقودة ــ 13 ــ الطبعة الأولى ــ 1999 ]


( 2 ) براعة الاستهلال :


قديما ما بدأ شعراء العربية قصائدهم بما أطلق عليه البلاغيون بعد ذلك مصطلح ( براعة الاستهلال ) .. و التي تعد بمثابة العنوان الذي يدور النص في فلكه و يلقي بظلاله على معاني القصيدة ليغلفها بغلالته الشفيفة فلا نكاد نرى معنى إلا و لبراعة الاستهلال أثر فيه أو سبب لوروده أو نتيجة لحدوثه .
و كثيراً ما استخدم الشاعر العربي القديم اسم محبوبة وهمية كبراعة استهلال في فواتح قصائده ليكون اسمها هو المعنى الرئيس لقصيدته و هو الحدث الذي يأمل وقوعه و ربما يكون الملاذ الذي يرجوه للإفلات بحياته ؛ كما هو الحال في قصيدة ( بانت سعاد ) لكعب بن زهير الذي أهدر الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ دمه لما أحدث من أذى ؛ حيث تعرض للرسول الكريم بشعره مما جعله يشعر بضيق الدنيا أمام عينيه بعد أن رفضت القبائل أن تجيره و أنَّى لها ذلك و دولة الإسلام قد رسخت مبادئها في قلب العدو قبل الصديق و من ذا الذي يجير فرداً من دولة .. ؟! .. و من ذا الذي يدافع عن باطل أمام الحق .. ؟!
راح ( كعب بن زهير ) يسير متلفتاً في كلِّ اتجاه يترصده الموت أينما ذهب و حلَّ , يرفضه المجتمع العربي على اتساع جزيرتهم و يخشاه الصديق و ينكره الحكيم و يتربص به من سمع كلام الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أراد نوال رضائه طمعاً في شفاعته و غيرةً عليه و شفاءً لغليل ما لاقوه من عذاب و عنت قديم في مكة .
و هكذا تحولت حياته من لهو و مرح و ترف إلى جحيم و عذاب و وحدة يتوخاه الموت في كلِّ خطوة يخطوها و لم يجد بداً من المواجهة و الاعتذار و التلطف للرسول الكريم و التودد و التذلل لعله يلقى السعادة المفقودة حين يعفو عنه , هذه السعادة التي عبَّر عنها الشاعر و رمز لها في مطلع قصيدته باسم ( سعاد ).
( سعاد) أضحت هي الأمل الذي يرجوه و هي الخلاص الذي تبتغيه نفسه القلقة المتوثبة للطمأنينة .. ( سعاد ) هي السعادة التي بانت و فارقت قلبه و لذا فالشاعر حالفه الصواب حين بدأ قصيدته بقوله :

بانت  سعادُ فقلبي  اليوم  متبولُ       متيمٌ   إثرها   لم   يفد    مكبولُ
و ما سعاد غداة البين إذ رحلوا      إلا أغنُّ غضيضُ الطرف مكحولُ

 الآن نحتاج للدليل على أن هذه المرأة غير حقيقية و أن الشاعر جلبها تحديدا كبراعة استهلال بل نحتاج لدليل على أن ما فعله كعب بن زهير ليس مخترعاً و لا ظاهرةً انفرد بها عن باقي الشعراء , و الحقيقة أن القراءة الأولية للقصيدة و معرفة أين قُرِأت و أمام من و كيف لاقت من استحسان سنجد الإجابة على السؤال الأول ؛ حيث قرأها ( كعب ) أمام الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ و في مسجده بالمدينة و قد لاقت استحسان الرسول الكريم لدرجة أنه خلع بردته و ألقاها عليه و هو ينشدها .
و حين نطالع القصيدة نجدها و قد امتلأت بالوصف الحسي لحبيبته الوهمية , وصفا ليس ينبغي لنا أن نحمله على عين الحقيقة ؛ ذلك أن المقام لا يحتمل مثل هذا الوصف فالشاعر مهدر دمه , قلق , يقف أمام الرسول صاحب الحق الأول و الأخير في العفو عنه و يقف في مسجده و وسط صحابته من المهاجرة و الأنصار , يقف و لا يدري أمقتول بعد ذلك أم حر طليق يرفل في نسمات العفو , بالطبع المقام ليس للغزل و إنما للرجاء , فلم يصف أنثى اسمها ( سعاد ) و إنما وصف السعادة التي فارقته و يرجو وصلها من جديد .
و لم يكن ( كعب بن زهير ) أول من استخدم أسماء الإناث كبراعة استهلال لقصيدته و يبدو لنا ذلك من استحسان الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ للقصيده و استحسان صحابته , فهكذا كانت عادة العرب في أشعارهم .
و باستقراءٍ بسيطٍ للشعر قبل الإسلام نتأكد من قدم درايتهم بذلك الأسلوب البلاغي الذي اصطلح عليه بعد ذلك ببراعة الاستهلال و الذي لا نستطيع بدقة أن نقف على أوليته في الشعر العربي و الذي ربما لا يكون من درب المبالغة إذا اعتبرنا أولية هذه الظاهرة مصاحبة لأولية الشعر العربي .
و النماذج على تلك الظاهرة كثيرة في شعرنا العربي قبل الإسلام , و ربما يكون من المفيد أن نقف على نموذج آخر من شعراء عاشوا قبل ( كعب ) .. إنه ( المثقِّب العبدي ) و الذي وشى به أحد المقربين للملك ( عمرو بن هند ) حسداً له على مكانته عنده مما أثار قطيعة بينهما و أصبح ( المثقب العبدي ) بعيداً عن مجلس الملك , منبوذاً ـ على مكانته ـ , مقطوعاً بعد صلةٍ و قرب .
هكذا ثارت نفس الشاعر و انتابها ألم الفراق على تلك الصداقة بين الشاعر و الملك , ذلك الفراق الممزوج بوطأة الظلم ؛ ذلك أنه لم يرتكب بحق الملك ما يعكر صفوه تجاهه .
و تثور كرامة العربي داخل فلب الشاعر و يعترض إباؤه و شموخه على تلك المعاملة السيئة ؛ لتفيض مشاعره في قصيدة يريد من خلالها حسم هذه العلاقة التي شابها الاضطراب , إما بالوصل كما كانا و إما بالقطع و الاكتفاء بما حدث .
و كان على الشاعر الجري على عادة أقرانه في القول , و كان عليه اختيار اسم لحبيبة وهمية يُعبِّر عن حاله تلك , و تكون معادلاً موضوعياً للملك ( عمرو بن هند ) , يخاطبها فيخاطبه , و يعاتبها فيعاتبه , و يقسو عليها قسوة المحب فيؤنبه , و لم يكن ذلك الاسم ببعيد المنال عنه و عن شاعريته الفذة ..
فكانت قصيدته التي مطلعها :

أفاطمُ قبل بينك متعيني                 و منعك ما سألت كأن تبيني

إنـها إذن ( فاطمة ) .. و ( فاطمة ) في اللغة تطلق على المرأة التي فطمت رضيعها و قطعت عنه ثدييـها , و ( الفطم ) لغةً هو القطع و الحسم .
فماذا أراد ( المثقب العبدي ) إذن من ذلك المعنى بدلالته القاطعة الحاسمة ..؟
يبدأ ( المثقب ) قصيدته بأبيات يعنف فيها محبوبته الوهمية التي هجرته دونما سبب ، و التي تتلاعب بمشاعره النقية ، و هو على الرغم من ذلك لمَّا يزل يحبها و يحتفظ داخل قلبه لها بمشاعر دافئة جميلة .. يقول :

أفاطم  قبل  بينك  متعيني           و منعك ما سألت كأن تبيني
فلا تعدي مواعد  كاذبات            تمر بها رياح   الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي            خلافك ما  وصلت بها  يميني
إذن لقطعتها و لقلت بيني           كذلك  أجتوي  من  يجتويني

( كذلك أجتوي من يجتويني ) إلى ذلك الحد البعيد من الجفاء قد يصل الشاعر برغم حبه لها .. ذلك الحب الذي لي يقضي على كبريائه و شموخه العربي .
إنه يريد أن يحسم علاقته بها , ذلك الحسم الذي قد يصل به إلى القطع و البين و الفراق .. إنه لا يحدِّث أنثى حقيقية , بل يخاطب ( عمراً ) في هيئتها كنوعٍ من التأدب في مخاطبة الملوك , إنه يبث إليه كل ما يدور بخلده و قلبه .. و إنه ليعلم أن ( عمراً ) سيعي ما يقول و يبث .
و جرياً على عادة العرب في القول وصف رحلته إلى ( عمرو بن هندٍ ) في وصف يعد الأروع في تاريخ شعرنا العربي كما ذكر شارح ( المفضليات ) .
إلى أن وصل به المقام إلى مخاطبة ( عمرو بن هند ) صراحةً في آخر قصيدته .... يقول : 

إلى عمروٍ و من  عمروٍ أتتني           أخ النجدات و  الحلم الرصينِ
فإمَّا  أن  تكون   أخي  بحقٍ           فأعرف  منك  غثى من  سميني
و إلا   فاطَّرحني  و   اتخذني          عدوَّاً   ...  أتقيك   و   تتقيني
و ما  أدري إذا  يممت  أمراً          أريد     الخير     أيهما    يليني
أألخير   الذي   أنا   أبتغيـه           أم   الشر  الذي   هو  يبتغيني

هكذا ذكرها صراحةً , إما أن يكونا صديقين و أخوين بحقٍ فيعرف كلٌّ منهما حقوقه و واجباته نحو تلك الصداقة – مع مراعاة المقام بين الشاعر والملك - ، و إما أن يتركه و يطَّرحه بعيداً فيصيرا عدوين لدودين يتقي كلٌّ منهما الآخر .
أليس ذلك حسماً للعلاقة و قطعاً لها ؟
ذلك الحسم و القطع الذي ظنه الشاعر خيراً فسعى إليه ، و لا بأس إن كان شراً لم يقصده ، لكن نفسه الأبية ستهدأ حتماً بذلك القطع .
و بهذا صارت ( فاطمة ) عنواناً للقصيدة ، تلقي بظلالها على كل معانيها كما كانت ( سعاد ) عند ( كعب بن زهير ) .
و حريٌّ بنا أن نعيد قراءة شعرنا العربي قبل الإسلام في ضوء تلك الظاهرة البلاغية ـ براعة الاستهلال ـ مع الأخذ في الاعتبار أن هناك شعراء ذكروا أسماء إناثٍ حقيقية في قصائدهم ممن لم يلتزموا بعادة العرب في عدم التشهير بأسماء محبوباتهم و الذين نالوا جزاءً مراً من مجتمعاتهم بالطرد و التصعلك حتى و لو كانوا أبناء ملوك كامرئ القيس و غيره ، أو أن يكون ذا سطوةٍ و قوةٍ كعنترة العبسي الذي طالب بابنة عمه صراحةً كزوجة له و ترفع عن وصفها الوصف الحسي الذي يشهر بها ، و هو على الرغم من ذلك يتشكك الكثير من الباحثين في معظم قصائده و يظنونها منحولةً عليه كأغلب سيرته التي دوِّنت في مصر أثناء الحكم الفاطمي ، كما أنَّ قصيدة ( المتجردة ) المنسوبة للنابغة الذبياني منحولةً عليه هي الأخرى .
و هناك من الشعر ما اعتبره البلاغيون براعة استهلال ، من ذلك مطلع معلقة امرئ القيس :
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ و منزلِ

حيث وقف و استوقف ، و بكى و استبكى ، و ذكر و استذكر .... إلخ ، كذلك قول أبي تمام :

السيف أصدق أنباءً من الكتبِ        في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ و اللعب ِ

فكان مجمل ما سبق أن الشاعر إذا استهلَّ قصيدته بما يناسب الحال ، و بما يشير إلى غرضه كان ذلك براعة الاستهلال و التي تخاطب قلب و وجدان السامع فتجله متهيئاً مستعداً لأن يتقبَّل و يتفكَّر فيما سيلي ذلك من كلام.
و لمن أراد التوسع في ذلك عليه بقراءة كتاب ( براعة الاستهلال في فواتح القصائد و الصور ) للراحل د. محمد بدري عبد الجليل ، و كتاب ( النابغة الذبياني ) للراحل أ.د. محمد زكي العشماوي , و كتاب ( رؤية جديدة ) للأستاذ د. سعيد حسين منصور .

( 3 ) قصيدة العاميَّة و الشعر العربي ( نسب شرعي ) :


إنها لنقلةٌ زمنيةٌ كبيرةٌ بين ( المثقب العبدي ) و ( أحمد عواد ) نخوضها بحذرٍ و نحن نتعامل مع ظاهرةٍ بلاغية جمعت بينهما ، أو بالأحرى جمعت بين شاعرٍ معاصرٍ و أسلافه من القدماء .
هذه القرون تركت أثرها على الشعر العربي ، و من منا لا يعلم ذلك ؟! .. بل تركت أثرها على ثوابت أخرى لم يظن القدماء أنها ستتغير و تتبدل ، من لغةٍ و بلاغةٍ و طرائق تعبيرٍ و بنيةٍ إلى شكلٍ و أوزانٍ و تشكيلٍ بصريٍّ و مجانيةٍ و موضوعاتٍ لم تُطرق و ذائقةٍ مغايرةٍ .
و على الرغم من ذلك البون الزمني الشاسع إلا أننا وجدنا ما يربط الحاضر بالماضي و ربما حدَّثنا عن المستقبل ، وجدنا وشائج و صلات لا تنعت الجديد إلا بالابن الشرعي للقديم و أنه ليس محدثاً و لا مخترعاً .
هذه الوشائج و الصلات هي ذاتها ما ظنها بعض القدماء ثوابت لن تتغير ، و تعاملوا معها باعتبارها جماداتٍ لا تنمو لكن حقيقتها و واقعها أنها كائنات حية تنمو و تؤثر و تتأثر و تعتلُّ و تصحُّ و تتخذ أشكالاً شتى ليس من عصرٍ إلى عصرٍ و لا من إقليمٍ إلى إقليمٍ فحسب و إنما من قصيدةٍ إلى قصيدة .
إن ما يربط معاصرينا بأسلافهم هي اللغة ذاتها بيد أنها نطورت ، و البلاغة نفسها و التي ربما اتخذت أشكالاً أكثر ملائمةً للعصر و لغته ، و الذائقة عينها و التي تطورت تبعاً لما أحدثه العصر في اللغة و البلاغة ، و أوزاناً حالفها النصيب الأوفر من التجديد و الابتكار ، و هدفاً أسمى للقصيدة و التي تبحث عن متلقى لا يشعر أنها غريبة عنه و عن لغته اليومية و حياته المعقدة و ذائقته الجديدة .
فلا غرو إذن أن نعد ( قصيدة العامية ) من شعرنا العربي و من تراثنا الإبداعي ، و لم لا و هي التي أفسحت لنفسها ذلك المجال و زاحمت قصيدة الفصحى ؛ متخذةً منها شرعيتها و من الجمهور الذي ساندها مكانتها .
و إننا حين نتحدث عن قصيدة العامية فكلنا يقينٌ أنها لم تنشأ من قبيل المصادفة و إنما من قبيل التطور ، ذلك التطور الذي لا نُقيـِّمه و إنما نتعامل معه بكل ما يمنحه لنا من أدواتٍ و خصائصَ ليست من الشعر بغريبةٍ و لا منكرة .
و بالرغم من كل ما سبق فقد زاد حذرنا الآن و نحن نحاول جاهدين أن نرى كيف لشاعرٍ معاصرٍ يكتب باللهجة العاميَّة أن يوظف موروثه البلاغي و يطوره و يطوِّعه لخدمة نصه ، لا لهدم التراث كما يدعي البعض .

( 4 ) المقابلة التصويرية و براعة الاستهلال :

( 4-1 ) شغف البدء :


أصبحنا شغوفين الآن لرؤية قصيدةٍ تعانق القديم برؤيةٍ بلاغيةٍ جديدةٍ ، قصيدةٍ أدركت تراثها العريض و لم تتورط في التقليد و لم تقع فريسة التكرار .
بالقطع ليست قصيدة ( تداخلات ) للشاعر / أحمد عواد ، هي النموذج الأوحد الذي استخدم براعة الاستهلال إلا أنها تُعد النموذج الأوضح على ذلك ، و ربما سيتضح ذلك حين نقف قليلاً على صورتين استهلَّ بهما قصيدته ، صورتان تنتمي أولهما إلى الصور الإيحائية ، بينما الأخرى تنتظم في سلك الصور التقريرية ، و ليس ذلك فحسب بل إنَّ بينهما مقابلةً في المعنى :

( عنيكِ زهرة دفا
و سنيني رعشة برد )

( 4-2 ) الصورة الإيحائية و الصورة التقريرية :::


لن نطيل كثيراً في وقفتنا أمام الفرق بين الصورة الإيحائية و الصورة التقريرية ، لكننا سنعرض لنموذجين من الشعر العربي يوضحان لنا الفرق بينهما ، يقول ( السَّريُّ الرَّفَّاء ) :

و كأنَّ الهلال نونٌ لجينٌ           غُرقت في صحيفةٍ زرقاءِ

هذه الصورة السابقة لم تتعد كونها صورة فوتوغرافية شبَّه الهلال بحرف النون و لونه الساطع المتلألئ بلون الفضة المسالة و السماء بالصحيفة الزرقاء .
أي أنَّه شبَّه شيئاً بآخر يماثله دون أن تكون له رؤيةً خاصةً تجاه هذه الأشياء ، و ليس هناك ثمة تفاعل بينه و بينها ( تشبيه تمثيلي ) ، و ذلك مثل قولك ( الجندي كالأسد ) أو ( البناية كالجبل ) .
أما ( أبو العلاء المعري ) حين تعرَّض لذات البيئة نراه يقول :

كأنَّ نجوم الليل زرق أسنَّةٍ         بها كلُّ مَن فوق التراب طعينُ

فهو يشبه النجوم بالرماح الحادة المصوبة تجاه جميع الموجودات فوق الأرض تطعنها و تنال منها ، و هنا تتجلَّى فلسفة ( المعري ) تجاه الكون ، ذلك الكون المبني على الألم ، إنَّ نظرة المعري و رؤيته تُجمعان على عبثية الحياة ، و أنَّ هذه الحياة شقاء ، ألم يكن هو القائل :

هذا جناه أبي عليَّ         و ما جنيت على أحد

إنَّه ينظر إلى أنَّ أباه سببٌ في شقائه إذ كان سبباً في مجيئه لهذا الكون / الجحيم ، و هذا ما تجلَى في قوله :

كلٌّ على مكروهه مُبسلُ           و حازمُ  الأقوام  لا ينسلُ
فسلٌ   أبو   عالمنا   آدمٌ           و نحن  من  والدنا   أفسلُ
لو تعلم النحلُ بمشتارها            لم  ترها  في   جبلٍ  تعسلُ

و لهذا حين يُشبِّه النجوم بالرماح المشرعة نحونا و تطعننا جميعاً فهو يريد ما هو أكثر من تشبيه النجوم بالرماح ؛ إنَّه يبثُّ إلينا رؤيته كاملةً و فلسفته في تلك الصورة الإيحائية ، و التي تعدت كونها صورةً فوتوغرافية / تقريرية .
مثال آخر على الصورة التقريرية يتجلَّى في صورة تقشير التفاح بقصيدة ( أمل دنقل ) " خطاب غير تاريخي " ، يقول :

( نم يا صلاح الدينْ
نم .. تتدلَّى فوق قبرك الورودُ ..
كالمظليينْ !
و نحن ساهرون في نافذة الحنينْ
نُقشِّر التفاح بالسكينْ
و نسأل الله القروض الحسنه !
فاتحةً :
        آمينْ )

لكن هناك تفاحة أخرى تنتظرنا عند ( نزار قباني ) في قصيدته ( من علمني حباً .. صرت له عبداً ) و هي مثال على الصورة الإيحائية المحملة بفلسفة و رؤية صاحبها ، يقول :

( من علَّمني
كيف أُقشِّر كالتفاحة قلبي
حتى تأكل منه نساء الأرض جميعاً
كنت له عبداً )

و سأترك لكم التأمل في هاتين التفاحتين ، أقصد بين هاتين الصورتين لتتلمسوا بأنفسكم الفرق بين التقرير و الإيحاء ، و كيف بثَّ نزار فلسفته في تلك الصورة ، و كيف كان دنقل موفقاً أيضاً في ذلك التقرير المضيئ .

( 4-3 ) تحليل نصَّيّ :


يبدأ الشاعر قصيدته مخاطباً أنثاه قائلاً :

( عنيكِ زهرة دفا )

هكذا كانت البداية ، يصف عيني محبوبته بأنهما ( زهرة دفا ) ، و هو تركيب يعتمد في بنائيته على المضاف و المضاف إليه ، هذا المزج المبتكر بين الزهرة و الدفء ولَّد معانٍ جديدة لعينيها ؛ فهما في جمال و رقة و خجل الزهر ، و فيهما من الدفء و الحب و الحرارة و الطمأنينة ما يكفي لغمر الذات الشاعرة بكل دوال الرومانسية التي ينفتح عليها هذا التصوير الإيحائي .


الشاعر / أحمد عواد


هاتان ( العينان / زهرة الدفء ) لم يصفهما الشاعر بذلك الوصف إلا من خلال تاريخ قديم بينهما استحال إلى هذه الصورة الإيجابية في نظره .
و سرعان ما يضعنا الشاعر على طرفٍ نقيضٍ و ذلك حين يلتفت لذاته واصفاً عمره الذي يمضي و لمَّا يزل يحياه ، بقوله :

( و سنيني رعشة برد )

و هو تركيب اعتمد في بنائيته هو الآخر على المضاف و المضاف إليه ، و معروف أن ( الرعشة ) إحدى تنويعات دالة ( البرد ) و إحدى نواتجه الطبيعية ، و حين يصف سنينه بهذا التصوير إنما يقرر واقعاً حسيَّاً ملموساً ، و تكون صورته التقريرية تلك مقابلةً لصورة عيني حبيبته السابقة .
و للشاعر هنا براعةٌ عجيبةٌ حين وضعنا أمام حالين متناقضتين منذ بداية النص ؛ و هما – و على الرغم من تناقضهما – ليستا متنافرتين ؛ بل نرى أن إحداهما و هي الأولى بكل ما تحمل من دوالٍ ( إيجابيةٍ / رومانسية / دفء / جمال ) قادرة على أن تجذب إليها الثانية بكل ما تحمل من دوالٍ ( سلبيةٍ / واقعية / برودة / قسوة ) ، و هو الأمر الذي يبدو طبيعياً و منطقياً ، لكن الشاعر يفاجئنا بأن القوتين تنتابهما الشكوك و تحيط بهما علامات الاستفهام ، فنراه يتسائل :

(مين فينا حيعدي الحدود ؟
مين اللي يقدر يدخل التاني ؟
و مين يعرف طريق الانفلات ؟ )

لينشأ بذلك صراعٌ بين دوال ( الدفء / الرومانسية / الإيجابية ) و دوال ( البرد / الواقعية / السلبية ) ، ذلك الصراع الذي يمثل الحالة العامة للنص ، و الذي استهلَّ به الشاعر قصيدته بصورتيه المتقابلتين .
لكن ذلك الصراع الناشب ليس بين برودة سنين الشاعر و عيني محبوبته ؛ ذلك أنهما مطمحه و مطمعه ، لكننا نرى أحد طرفي ذلك الصراع و هو الذات الشاعرة و التي مازال حاضرها يخشى من ماضيها و يهاب مستقبلها ..

                                        ( لسه السنين ..
بتخاف من الجاي و اللي راح )

و ليس من المرجوِّ أن ينشأ تفاوضَ بين ( رعشة البرد ) التي تحياها الذات الشاعرة و بين ( زهرة الدفا ) التي تنعم بها عينا محبوبته ؛ و ذلك لأن لغة الحوار لم تولد بعد ..

( لسه الحروف متشرنقة
كل الكلام اللي انتهى ..
جايز ما يرجعش )

و لربما وقفنا على الطرف الثاني للصراع ، و هو الماضي الذي يحول بين الذات الشاعرة – تلك التي تقف على الجانب السلبي – و بين رغبتها في الفكاك و الالتحام مع دفء زهرة عيني محبوبته – تلك التي تقف في الجانب الإيجابي .
و برغم ذلك الماضي ، و برغم تلك الأحداث - المسكوت عنها في النص – يخاطب الشاعر حبيبته قائلاً :

( و أنا لسه شايل بين حروفي فرحتك ..
و برتـلك ..
لحظة ما يبقى القلب بيخاصم عنيكِ ..
و ابدرك من أول التكوين ..
و انتهي لك .. )

و كأنَّ حبيبته جزء من ذلك ( الماضي / الطرف الثاني للصراع / المسكوت عنه ) لكن حبه لها يأبى إلا أن يرتلها كترنيمةٍ مقدسةٍ لحظة أن يغض طرف قلبه عن عينيها الدافئتين .. لينتهي إليها ثانيةً .
و لكنه ينتهي على حالٍ ليست من البرودة في شيء ( دمعتين ) و تكون هي في حالٍ ليست من الرومانسية في شيء ( جموح ) فيحدث تبادلاً في الأدوار و تستحيل الذات الشاعرة إلى ( دمعتين حارتين / عينين دافئتين ) و تستحيل محبوبته إلى ( جموح ) و قسوة و هياج ؛ ليبقى في نهاية النص ( سؤالاً ) سرمدياً لا إجابة له .
و على المستوى الدلالي للقصيدة كان هناك صراعاً موازياً بين دوال الدفء مثل ( زهرة / دفا / فرحتك / برتلك / عنيكِ / القلب / انتهي لك / دمعتين ) ، و دوال البرد مثل ( رعشة / برد / الحدود / الانفلات / بتخاف / راح / متشرنقة / انتهي / مايرجعش / بيخاصم / جموحك ) .
ذلك الصراع الموازي الذي استمدَّ وجوده منذ اللحظة الأولى للقصيدة من خلال التقابل التصويري الذي يُعد بمثابة براعة الاستهلال ؛ لاحتوائه على الحالة الرئيسة التي ألقت بظلالها على كامل النص ، و دارت معانيه في فلكها .
و هكذا نجحت أداة ( أحمد عواد ) التصويرية في عرض حالتين متناقضتين ، و صراعٍ مبتكرٍ لا نشعر إلا بنتائجه دون مقدماته و أحداثه ، و تحوّلٍ في الأدوار يدفعنا حتماً إلى قراءة النص ثانيةً في ضوئه .

( 5 ) خاتمة :


ها قد انتهينا إلى أن قصيدة العامية لا تقدم شيئاً منفصلاً عن تراثنا الشعري ، و إنما تقدم لنا وجهة نظرها لذلك الموروث ، إنها جزء من نسيجه لا يكاد ينفصم عنه و عن جمالياته و بلاغته ، إنها باختصار .. ( أدب عربي )
                                                                                                                                      



 أحمد حنفي الإسكندرية الإثنين - 22 أبريل 2013 12 جمادى الآخر 1434