الخميس، 4 فبراير 2016

مقدمة كتاب: تحولات الذَّات

مقدمة كتاب:
تحولات الذَّات
أنماط الذَّات في قصيدة العاميَّة السكندريَّة المعاصرة
تأليف: أحمد حنفي


أحمد حنفي
تعتبرُ الذَّاتُ بعلاقاتها الثلاث (الذَّات والآخر/ الذَّات والموضوع/ الذَّات والعالم) من الموضوعاتِ التي شغلتني – ولمَّا تَزَل- لِما لها من علاقةٍ وثيقةٍ ومباشرةٍ بالرؤيا التي يطرحها الشاعر.
ويبدو أنَّ النَّقدَ بمفهومِه القديمِ قد فقدَ دورَه الذي سُمِّيَ من أجلِه نقداً؛ فلا نجدُ الآنَ قراءةً نقديَّةً تخلصُ في نهايتِها بحكمٍ قاطعٍ بجودةِ نصٍّ من عدمه، وعلى الرَّغمِ من أهميِّةِ ذلك الحكم فقد باتَ – على الأقلِّ – ليس قاطعاً باتّاً.
بالطبعِ لا أهدفُ إلى الإشارةِ بأنَّ جميعَ النصوصِ متساوية في جودتها؛ فالتباينُ والتمايزُ من مُسلَّمات الكونِ، لكنَّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَه .. ما معيار تلك الجودة؟
والإجابة على هذا السؤالِ لابدَّ وأن تكونَ ضمن نطاقِ فرضيَّةٍ أساسيَّةٍ مفادها أن تنتمي تلك النصوصَ إلى شعراءٍ حقيقيين بالفعلِ، يمتلكون رؤيا شموليَّةً واضحةَ المعالمِ والأركانِ جنباً إلى جنبٍ كلزوميَّةٍ اشتراطيَّةٍ بجوارِ فنِّيَّاتِهم .. لتصيرَ الرؤيا أحد أهم وأخصِّ مقوِّماتِ الإبداعِ الشِّعريِّ.
ولا شكَّ الآنَ أنَّهُ قد مضى عهدُ النَّاقدِ الذي يؤخِّرُ قصيدةً على حسابِ أخرى انتصاراً للوزنِ والقافيةِ، وهما على أهمِّيَّتهما لا يُضيفان للنَّصِّ جمالاً يُخفي فراغَهُ من المضمونِ ورؤيا كاتبه .. كما مضى عهدُ النَّاقدِ الذي يحتفي بظواهرَ لغويَّةٍ وأخرى بديعيَّةٍ من شأنِها الخروج عن المعنى لا الولوج فيه .. بل لن أكونَ مبالغاً إن قلت بانتهاءِ عهدِ النَّاقدِ الذي يُقدِّمُ نصّاً شعريّاً مكتوباً باللغةِ العربيَّةِ على حسابِ آخرٍ لَهَجِيٍّ (عامِّيٍّ) لمجرَّدِ انتصارٍ زائفٍ للُّغةِ دونَ النَّظرِ لموقف الشَّاعرِ من العالمِ.
لنجدَ أنفسنا مدفوعين باتجاهِ السؤالِ الأقدمِ؛ ما دور الشعرِ؟
ليستحيلَ الآنَ من مجرَّدِ كونِه سؤالاً إلى إجابةٍ عن سؤالِنا الأوَّلِ حولَ معيارِ جودةِ النَّصِّ الشِّعريِّ ..
قطعاً ليس الإمتاعُ مقصداً من مقاصد الشعرِ فهناك شاعرٌ مثل (هشام دياب) – أحد من قامت عليهم أبحاث الكتاب – لا يبحث عن إمتاعِ قارئه بل يتجه صوب ذهنه مباشرةً لإقامةِ جدليَّةٍ يكونُ محورها رؤياه لا لفرضها على المتلقي ولكن لمناقشتها وإعادةِ إنتاجها وطرحها في ضوءِ مقاربةِ المتلقي ذاته.
وكما أنَّ الإمتاعَ ليس من مقاصد الشعرِ إلَّا أنَّهُ إحدى سماتِه كفنٍ جميلٍ وهو ما لا يضطلع به الشعرُ وحده، يشترك في ذلك كل أنواعِ الفنونِ الجميلةِ كالرسمِ والنَّحتِ والموسيقى مثلاً .. وبالتَّالي تتعاظمُ أهمِّيَّةُ الشعرِ كمُرسلةٍ لغويَّةٍ في كونِه يطرحُ ذاتاً تحملُ موقفها تجاه العالمِ.
وأينما تموقعت الذات في موقفها من العالم تبعتها الرؤيا؛ فالذَّاتُ الشخصيةُ التي تتمركزُ داخلَ دائرةٍ يُشكِّلُ العالمُ محيطاً لها – أي: تحلُّ في العالمِ – هي تلك الذَّات التي نرى العالم من خلالها .. والذَّاتُ الشخصانيَّةُ التي تحلُّ بديلاً عن العالمِ حين يخلعُ الشاعرُ عن ذاتِه إنسانيَّتها ليدخلَها ثوبَ الألوهةِ الفضفاض [1] وتكونُ الرؤيا تبعاً لذلك مبتدعةً لعالمها الخاص .. أمَّا الذَّاتُ اللا شخصيَّة تلك التي تتحرَّكُ على محيطِ الدَّائرةِ بينما يقبعُ العالمُ في مركزها – أي: يحلُّ العالمُ فيها – فهي الذَّات التي نراها من خلالِ العالمِ. [2]
وحينَ تحدَّثَ النقادُ قديماً عن شرفِ المعنى كأحد معايير جودة الشعرِ إنَّما عَنوا بذلك شيئاً آخر خلاف الإمتاعِ .. إنَّهم انتبهوا لدورِ الشعر كمرسلةٍ .. ولدورِ الشاعرِ كذاتٍ مُرسِلَةٍ تملكُ رؤياها وموقفَها من العالمِ كما ذكرت.
ولهذا كان تتبُّعي للذَّاتِ وأنماطها كبوَّابةٍ للرؤيا كما تجلَّت في ستةِ نصوصٍ لستةِ شعراءٍ ينتمي خمسةٌ منهم لجيلِ الشعراءِ الشبابِ ممَّن يقدِّمونَ شعريَّةً حقيقيَّةً وسكتت عنهم أقلامُ النقادِ .. وهي أهميَّةٌ أخرى أزعمها للكتابِ في الوقتِ الذي يملأ الأدعياء سماءنا صياحاً ونشازاً.
ضرورة أخرى يكرِّسها الكتابُ وهي التأكيد على انتماءِ قصيدة العاميَّة للأدبِ العربيِّ، فالمُطالعُ المدقِّقُ لتاريخِ الأدبِ العربيِّ على امتدادِ قرونِه يلحظُ مدى ما يتَّسمُ به من قابليَّةٍ لاستيعاب فنون الشعرِ غير المعربة، ووضعها في المكانِ اللائقِ الذي يناسبها قدراً ونقداً، هذه القرون تركت أثرها على الشعر العربي، ومن منا لا يعلم ذلك؟! .. بل تركت أثرها على ثوابت أخرى لم يظن القدماء أنها ستتغير وتتبدل، من لغةٍ وبلاغةٍ وطرائق تعبيرٍ وبنيةٍ إلى شكلٍ وأوزانٍ وتشكيلٍ بصريٍّ ومجانيةٍ وموضوعاتٍ لم تُطرق وذائقةٍ مغايرةٍ.
وعلى الرغم من ذلك البون الزمني الشاسع إلا أننا وجدنا ما يربط الحاضر بالماضي وربما حدَّثنا عن المستقبل، وجدنا وشائج وصلات لا تنعت الجديد إلا بالابن الشرعي للقديم وأنه ليس محدثاً ولا مخترعاً.
هذه الوشائج والصلات هي ذاتها ما ظنها بعض القدماء ثوابت لن تتغير، وتعاملوا معها باعتبارها جماداتٍ لا تنمو لكن حقيقتها وواقعها أنها كائنات حية تنمو وتؤثر وتتأثر وتعتلُّ وتصحُّ وتتخذ أشكالاً شتى ليس من عصرٍ إلى عصرٍ ولا من إقليمٍ إلى إقليمٍ فحسب وإنما من قصيدةٍ إلى قصيدة.
إن ما يربط معاصرينا بأسلافهم هي اللغة ذاتها بيد أنها تطورت، والبلاغة نفسها والتي ربما اتخذت أشكالاً أكثر ملائمةً للعصر ولغته، والذائقة عينها والتي تطورت تبعاً لما أحدثه العصر في اللغة والبلاغة، وأوزاناً حالفها النصيب الأوفر من التجديد والابتكار، وهدفاً أسمى للقصيدة والتي تبحث عن متلقى لا يشعر أنها غريبة عنه وعن لغته اليومية وحياته المعقدة وذائقته الجديدة.
فلا غرو إذن أن نعد (قصيدة العامية) من شعرنا العربي ومن تراثنا الإبداعي، ولم لا وهي التي أفسحت لنفسها ذلك المجال وزاحمت قصيدة الفصحى؛ متخذةً منها شرعيتها ومن الجمهور الذي ساندها مكانتها.
وإننا حين نتحدث عن قصيدة العامية فكلنا يقينٌ أنها لم تنشأ من قبيل المصادفة وإنما من قبيل التطور، ذلك التطور الذي لا نُقيـِّمه وإنما نتعامل معه بكل ما يمنحه لنا من أدواتٍ وخصائصَ ليست من الشعر بغريبةٍ ولا منكرة.
وبالرغم من كل ما سبق فقد زاد حذرنا الآن ونحن نحاول جاهدين أن نرى كيف لشاعرٍ معاصرٍ يكتب باللهجة العاميَّة أن يوظف موروثه البلاغي ويطوره ويطوِّعه لخدمة نصه لا لهدم التراث كما يدعي البعض.
وربما سنقولُ بعد الانتهاءِ من الكتابِ أنَّ قصيدة العامية لا تقدم شيئاً منفصلاً عن تراثنا الشعري، وإنما تقدم لنا وجهة نظرها لذلك الموروث، إنها جزء من نسيجه لا يكاد ينفصم عنه وعن جمالياته وبلاغته، إنها باختصار .. (أدب عربي).


الهوامش
[1] راجع: تحولات النظرة وبلاغة الانفصال، عبد العزيز موافي، ص 226 وما بعدها.
[2] السابق.