السبت، 6 أغسطس 2016

الإسكندريةُ الشاعرةُ وتعاقبُ الأجيالِ

الإسكندرية الشاعرة وتعاقب الأجيال*

      بقلم
   أحمد حنفي

أحمد حنفي

          "هنا سأبني مدينتي التي طالما حلمت بها" هكذا تحدث الإسكندر الأكبر عندما وقعت عينه على قرية "راقودة"، تلك القرية الصغيرة التي تسكن بأحضان البحر، وما لبث أن فرغ من كلامه حتى أمر مهندسه "دينوقراطيس" بالشروع في تشييدها، هكذا بدأت الإسكندرية, قصة حبٍ من النظرة الأولى أوقعت الملك الشاب في غرامها ومن خلفه كل من ولد أو سكن أو مرَّ بها منذ ذلك الحين.
وتوافرت في الإسكندرية ـــ منذ عهدٍ مبكرٍـــ عبقرية المكان, فكانت القنطرة التي عبرت منها إلينا الثقافة اليونانية بكل إرثها الفلسفي والفني والعلمي وامتزج ذلك الإرث بالحكمة المصرية القديمة فتفاعلا في رقيٍّ شديدٍ وأنتجا حضارةً جديدةً تفرَّدت بها الإسكندرية عن سائر المدن المصرية واليونانية ما لبثت طويلاً لتختمر في عقول مفكريها وفلاسفتها وعلمائها وفنانيها حتى فاضت بنورها وبصيرتها فصارت البوابة التي صدَّرت العلوم والفنون ليس لبلاد اليونان فحسب ولكن للعالم بأسره.
إنَّ الإسكندرية بثقافتها الهيلينستية لتعدُّ أنموذجاً فارقاً وفريداً بين حضارات العالم؛ فلم ينشأ بها صراعاً يذكر بين حضارة الوافد الفاتح وبين حضارة المقيم, لم يفرض اليونانيون ثقافتهم عنوةً ولم يرفض السكندريون الآخر, بل امتصَّا بعضهما ليعيدا تكوين الضمير الإنساني داخل أروقة مكتبة الإسكندرية, وكان للأدب ـــ والشعر خاصةً ـــ نصيبه الوافر من ذلك التكوين.
فعلى الرغم من معرفة اليونانيين بفن "الإبيجراما" كأحد فنون الشعر لديهم, إلا أنَّ ذلك الفن ارتبط باسم شاعر الإسكندرية العظيم "كاليماخوس" والذي أخلص لهذا الفن الشعري المكثف ساخراً من شعراء الملاحم اليونانيين من أمثال "هوميروس".
ويؤكد "ثيوكريتس" على استقلالية الإسكندرية الثقافية ورؤيتها الجديدة التي تبثها في ضمير الإنسانية وذلك حين ثار على قواعد الوزن الشعري والتي كانت تقتضي وزناً معيناً لكلِّ غرضٍ شعريٍّ, وآثر أن يستخدم الوزن السداسي في معظم قصائده الرعوية, وقد عرفت الساحة الشعرية السكندرية في عصرها الهيليني القصائد المطوَّلة ـــ الملاحم ـــ ولعلَّ أشهرها ملحمة "أبوللونيوس" الشهيرة "الأرجونوتيكا" أو "بحارة الأرجو", "والتي يعتقد بعض النقاد أنها الأصل الذي خرج منه نصف الأدب الحديث, فليس القدر هو الذي يحرك الأحداث فيها كما كان الحال في ملاحم هوميروس, وإنما روح المغامرة, أي الإنسان"[1]
وهذا يدلُّ على مدى النضج الذي صدر منه "ثيوكريتس"؛ ذلك أنه رفض أن يكون الإنسان لعبةً بيد القدر يحركها كيفما يشاء لكنه رأى أنَّ الإنسان هو من يصنع مصيره أو على الأقل يتحمل مسئولية اختياراته.
هكذا كان شعراء الإسكندرية منذُ ألفيِّ عام, لم يكونوا مقلِّدين وإنما أعادوا إنتاج وتجديد الشعر اليوناني ومن ثَمَّ إعادة تصديره للتراث الإنساني من جديد, "فمن المعروف أنَّ الشعر السكندري القديم المكتوب باليونانية هو النموذج الذي حاكاه شعراء الرومان من أمثال هوراس وأوفيد"[2]
وإذا ما تجاوزنا تلك الحقبة بكلِّ زخمها وازدهارها وريادتها وقدمنا إلى الإسكندرية الإسلامية نلتمس شعراءها بين شوارعها الجميلة والتي مازالت محتفظة بتخطيط "دينوقراطيس" لها مع تناغم عجيب ببناياتها المتعددة ذات الطابع الإسلامي من دور وقصور وحمامات وبساتين وأحياءٍ جديدةٍ نشأت لتستوعب الوافدين من العرب الفاتحين من قبائل لخم وجذام والتي استوطنت - ومازالت - غرب الإسكندرية، ذلك التناغم لم تفسده العمارة الرومانية التي توسَّطت الحقبتين اليونانية والإسلامية، حتى أضحت شوارعها متحفاً مفتوحاً تقف منارتها - إحدى عجائب الدنيا - حارساً على كلِّ ذلك وشاهداً على مجدٍ يضرب بجذوره في الماضي.
ليكون موعدنا مع القرن السادس الهجري؛ فلم يكن مقدَّراً للإسكندرية أن ينبغ بها شاعرٌ عربيٌّ من أبنائها ويذيع صيته ليملأ كلَّ أرجاء مصر قبل ذلك القرن, والذي بذلت الدولة الفاطمية فيه كلَّ غالٍ وثمينٍ من أجل بناء دولةٍ تنافس العباسيين في الترف والأبهة، يقول "جوستاف لوبون" في كتابه حضارة العرب: "يتصف عصر الفاطميين, الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون ... وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد ... وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور"[3]
وكان للإسكندرية نصيبها من ذلك الترف مما عمَّق تراثها المعماري من تشييدٍ للمساجد والمدارس والتي عملت بدورها على تعميق ثقافة أبنائها؛ إذ "كانت المساجد مراكز فكرية, فالجامع الجيوشي كان مركزاً هاماً من مراكز الفكر بالثغر, تصدَّر به أكبر العلماء لتدريس الفقه والقراءات والنحو وغير ذلك"[4]
وساعدت هذه البيئة العلمية النشطة في الإسكندرية على إقامة حركةٍ شعريةٍ بالثغر حيث "كانت بها آنذاك نهضة شعرية واسعة"[5]
وقد أشار د. شوقي ضيف إلى أنَّ الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة شعبية عامة تُلقى في المساجد، وكان للشعراء فيها حلقات أتاحت لشباب العامة المشاركة في الشعر وغير ذلك من العلوم.[6]
فساعدت هذه النهضة الثقافية على انتشار التعليم وظهور طبقة من العلماء والأدباء والمشتغلين بالفلسفة أعطت الإسكندرية قوتها الثقافية التي ساعدت على تشكيل وعي[7] أبنائها فلم يكن عجيباً إذن أن نرى شاعراً حداداً مثل "ظافر الحداد السكندري" (ت:529ه) أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية وحتى عصر النهضة بلا منازعٍ.
وكان شعراء الإسكندرية في العصر الإسلامي والذين نبغوا في الشعر كثيرين، منهم "ابن قلاقس" الشاعر الرحالة الذي عشق البحر وطوَّف في أرجائه شمالاً وجنوباً ما بين صقلية واليمن واتصل بالخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين وعندما بارت سوق الشعر بمصر ارتحل خارجها وقضى نحبه وهو مازال في الخامسة والثلاثين تاركاً ديواناً بثَّ في أرجائه حديثه عن الإسكندرية والبحر ومنارتها.
كما مكث بها من غير أبنائها الكثيرون فمنهم "أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي" ـــ صاحب الرسالة المصرية ـــ، والإمام البوصيري ـــ صاحب البردة عين عيون المديح النبوي ـــ وبها توفي ودُفن، و"تقيَّة الصورية"، وغيرهم العديد والعديد، منهم مَن هم مِن أبنائها ومنهم مَن وفد عليها واستقرَّ بها حيناً وخلَّف لنا شعراً ينتمي إليها؛ فشعر الإسكندرية "يتجاوز شعراءها الذين ينتمون لها إلى غيرهم من الشعراء الذين تغنوا بالإسكندرية دون أن يكونوا سكندريين، وحتى دون أن يكونوا مصريين"[8]
وهذا الحد للشعر السكندري ـــ تراث الإسكندرية الشعري ـــ والذي وضعه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مقبولٌ إلى درجةٍ بعيدة؛ فالإسكندرية كانت دوماً محط أنظار الشعراء يأتوها للاستجمام أو الاستشفاء أو طلباً للعزلة عن واقعهم للتواصل مع أعمق نقطةٍ بوجدانهم بحثاً عن حالةٍ إبداعية ذات طابعٍ مستقل.
ويردف حجازي بقوله:
"الإسكندرية لم تكن لكلِّ شعرائها وطناً أو مسقط رأس لكنها كانت بالنسبة لهم حلماً أو فكرة"[9]
وما كاد يطلُّ علينا العصر الحديث حتى ازدادت أعداد شعراء الإسكندرية وازدانت بهم وأخذ التراث الشعري السكندري في النمو سواء كان شعراً عربياً أم زجلاً أم شعراً مكتوباً بلغاتٍ أخرى كاليونانية والإيطالية.
والإسكندريةُ غنيةٌ بأدبائها أثَّرت فيهم ــ ولـمَّا تزل ــ ونراها مبثوثةً في كتاباتهم شعراً ونثراً تحتضن أحرفهم وتحنو عليهم، فتلك الحقبة التي عاش فيها "بيرم التونسي" (ت:1961 ) و"خليل شيبوب" (ت:1951) و"عتمان حلمي" (1894 – 1962) و"عبد الحميد السنوسي" شهدت الجم الغفير من الشعراء المتميزين أمثال "نقولا فياض" (ت:1959) – "وردة اليازجي" (ت:1924) – "عبد الرحمن شكري" (ت:1958) – "زكريا جزارين" (ت:1955) – "حسن فهمي" (ت:1930) – "محمد غالب" (ت:1950) – "فخري أبو السعود" (ت:1940) – "عبد اللطيف النشار" – "محمد مفيد الشوباشي" – "أحمد راسم" (ت:1958) – "منيرة توفيق" (ت:1965).
كذلك العديد من الشعراء غير العرب الذين تنتمي أشعارهم لتراث الإسكندرية الشعري، نذكر "قنسطنطين كفافيس" الشاعر اليوناني العالمي ـــ "أونجاريتي" الأب الشرعي للشعر الإيطالي الحديث ـــ "مارينيتي" رائد المدرسة المستقبلية في الشعر والنثر ـــ "راؤول ولكنسون" ـــ "هنري تويل" ـــ "ألك سكوفي" ـــ "رنيه تاسو" .. وغيرهم العديد.
وتستمر الإسكندرية في إنجاب أجيال جديدة من المبدعين شعراً وسرداً ونقداً، وها هو مؤتمرنا الذي يسلطُ الضوءَ على جيل جديدٍ ومتميِّزٍ من شباب الأدباء والنقاد لعلَّه يؤشرُ بصدقٍ إلى المستقبل الواعد للحركة الأدبية بالإسكندرية وقدرتها على التواصل والمواصلة كعلامةٍ مائزةٍ على جبين الضمير الإبداعي العالمي.



* الكلمة التي ألقيتها في مؤتمر اليوم الواحد لفرع ثقافة الإسكندرية بعنوان (إبداعات الشباب السكندري - دورة الراحل خالد السروجي) يوم 2 يونيو 2016 والذي شرفت بأمانته العامة .. وكان المؤتمر تحت رئاسة الشاعر والناقد الكبير/ أ. أحمد فضل شبلول

[1] شعر الإسكندرية و شعراؤها ، أحمد عبد المعطي حجازي ، مقال نشر بجريدة الأهرام – العدد 43248 بتاريخ (الأربعاء 25 من ربيع الأول 1426 ه – 4 مايو 2005) السنة 129
[2] السابق
[3] حضارة العرب ، غوستاف لوبون ، ترجمة: عادل زعيتر ص219 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000
[4] الحركة الفكرية و الأدبية في الإسكندرية في القرن السادس الهجري ، د. فوزي محمد أمين ص 45 ، دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية 2004
[5] عصر الدول و الإمارات ( مصر ) ، د. شوقي ضيف ص251 ، دار المعارف ، ط الثانية
[6] السابق ، راجع ص 251
[7] ظافر الحداد ـــ أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية، أحمد محمد حنفي، بحث مخطوط في انتظار الطبع
[8] شعر الإسكندرية و شعراؤها ، أحمد عبد المعطي حجازي [مصدر سابق]
[9] السابق