الأحد، 30 نوفمبر 2014

الأدب المهجري المعاصر (4)



الأدب المهجري المعاصر (4)


مقدمة عن الأدب العربي المهجري المعاصر

والمختارات الأدبية "أنثولوجيا"


الأستاذ لطفي حداد
 بقلم الكاتب: لطفي حداد





هكذا يقول الشاعر والأديب فاضل العزاوي في حديثه عن أدباء المنافي العراقيين الذين يعيشون في مجتمعات مختلفة ثقافيًا وأدبيًا ويتمكنون من الأدب والثقافة الأجنبيتين ويبدعون حيثما حلوا.
إن هؤلاء الأدباء يشكلون «قبائل لغوية»، و«يبغددون» الأمكنة.. إنهم يلونون الآداب المجاورة بأرجوان الشمس العراقية، ويعملون من أقلامهم جسورًا ممتدة بين الغرب الغني بالأدب والثقافة، والشرق المتعطش إلى حرية التعبير. إنهم على موعد اليوم مع حضارة «سومرية» جديدة تنطلق من الدمار الكامل، لتبني رويدًا رويدًا «عصرًا عباسيًا جديدًا».
* * *
الجرح العراقي:

من يستطيع أن يفهم هذا الجرح الممتد على أربعين سنة، العبقري، الفذ، النازف والحيّ، المحتضر والناضج، الذي أنجب عشرات المفكرين والأدباء.
فإذا كان الجرح الفلسطيني هو الأقدم والأعمق والأكثر امتدادًا والذي أعطى الأدب العربي سيلاً من الكلم وأنهارًا من خير المداد، إلا أن الوجع العراقي خلق الأدب المهجري المعاصر بكل ما تحمله كلمة المهجر من ضعف أمام حقيقة المنفى القاسية.

هناك أدباء عراقيون خرجوا منذ أكثر من ثلاثين عامًا ولم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم وحاراتهم. وإذا كان بعض الأدباء العرب غير العراقيين قد عاشوا شيئًا مشابهًا لأسباب مختلفة إلا أن الجرح العراقي هو طعنة الرمح النازفة التي خلقت من تدفق مائها أدب المنفى، يخرج من جنب الأدب الإنساني.

* * *
مسألة الأجيال الشعرية العراقية:

هناك الكثير من المقالات والكتب في موضوع الأجيال الشعرية العراقية إذ يبدو أن هناك تشبثًا شديدًا بمفهوم جيل الستينات، وجيل السبعينات، وجيل الثمانينات. ارتبط جيل الستينات الأدبي بقوة النشاط السياسي في العراق مع كل ما حمل ذاك النشاط من أيديولوجيات ثقافية وفكرية ترفع أبناء الحزب الواحد، وتهمش أفراد الأحزاب الأخرى ، فصار الارتباط الأيديولوجي بالجماعة السياسية جزءًا من النشاط الأدبي الثقافي للفرد.
وعند بروز جيل السبعينات حدثت ثورة فكرية ضد الأبوية الشعرية أو الأدبية لإعلان «البديل الأنضج» وإزالة «القدماء» والجيل الماضي.
وفي الوقت نفسه فإن التيارين السياسيين الرئيسين، أعني القوميين والماركسيين، قد ضعفا أمام الحزب العراقي الحاكم الواحد، وتبعثر الأدباء داخل الوطن وخارجه. وظهرت الموجة الثانية لهجرة الأدباء إلى الخارج (حيث الأولى كانت بعد الثورة العراقية 1958 وانقلاب1963).

أما جيل الثمانينات فلم تكن مشكلة صراعه مع الجيلين السابقين أو فيما بين أبنائه مشكلة سياسية ، بل رؤيوية للكون ومعنى الوجود ، خصوصًا الذين خرجوا إلى المنافي بموجات متلاحقة بعد حربي الخليج الأولى والثانية.

إن الصعوبات التي عاشها الأدباء العراقيون أثناء الحرب مع إيران دون وعي سياسي وموقف فكري بسبب غياب التعددية الحزبية وتسلط النمط السياسي الواحد.. إن هذه الصعوبات بالإضافة إلى السجون وحملات الاعتقال وحملات الإبادة الجماعية ، والهرب إلى الخارج والحياة في المعسكرات في السعودية وإيران ، كل هذا أعطى هذا الجيل طابعًا خاصًا من الحزن والشعور بالعزلة والنفي ومواجهة الموت. والنماذج الأدبية المعبرة عن ذلك منتشرة في صفحات هذه الأنثولوجيا.

* * *
جماعة كركوك:

أدرس هذه الجماعة الأدبية كنموذج عن هجرة الأدب العراقي إلى الخارجي وتأثيره العميق في الأدب المهجري المعاصر.
إن إنتاج هذه الجماعة الآتية من تلك المدينة العراقية الصغيرة نسبيًا ، أهم وأوفر وأعمق أثرًا من جميع كتابات الشمال الأفريقي العربي المهاجر إلى الغرب مع احترامي وتقديري لكل هؤلاء الكتاب.
قد تبدو هذه الجملة قاسية بحق الأدباء المهجريين من شمال أفريقيا.. لكنهم يعرفون ويفهمون ويقدرون ما أعني.. كما أن كثيرًا من الكتاب الجيدين من الشمال الأفريقي، المقيمين في أوربا يكتبون بلغات غير عربية، لذلك فإن هذه الفكرة ليست مقارنة عادلة وإنما لتأكيد الدور المهم للدب العراقي في أدب المهجر العربي المعاصر.

تشمل هذه الجماعة بشكل أساسي:

جليل القيسي (وهو الوحيد الذي لم يغادر مدينته إلى المهجر)، جان دمو (المتوفي في عام2003)، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي، سركون بولص، أنور الغساني، قحطان الهرمزي (انفصل عن الجماعة عام1958).

وهناك أعضاء آخرون في الحلقة الأوسع وهم:

يوسف الحيدري،  الأب يوسف سعيد، عبد اللطيف بندر أوغلو، زهدي الداوودي، محيي الدين زه نكنه، علي شكر السباتي، علي حسين السعيدي، نور الدين الصالحي، صلاح فائق، نجيب المانع، عصمت الهرمزي، حسين علي الهورماني .
عندما شعر هؤلاء الشبان في الستينات بأهمية الأدب في الحياة الثقافية، التقوا مصادفة وأصبحوا أصدقاء.
لم يقدموا أنفسهم كجماعة أدبية بل إن الصحافة البغدادية أطلقت هذا الاسم عليهم.

أتى معظم الأعضاء من الطبقة الوسطى أو الفقيرة أو العائلات العاملة. ولهم أصول إثنية ودينية مختلفة ومتنوعة فكانوا من العرب والتركمان والكرد والسريان أو الأشوريين والأرمن. يمثل هؤلاء الكتاب غنى التعددية الثقافية العراقية ، وبعد هجرتهم إلى أوربا خاصة واختلاطهم بالثقافات الأخرى ، أنتجوا أدبًا راقيًا ورائعًا ومعبرًا عن الروح العراقية الحضارية العريقة.

في البدايات، عندما كان معظم أبناء هذه الجماعة في المرحلة الثانوية من المدرسة أي شبانًا يافعين، كانوا يجتمعون في البيوت والمقاهي والحدائق ويتناقشون حول أمور الأدب، وكتاباتهم، ووجهات النظر المختلفة. وشيئًا فشيئًا بدأت النزعة التجددية والثورية على الواقع الأدبي وربما السياسي تتكون. ورغم أن معظم أبناء الجماعة كانوا من اليساريين وشاركوا في الأحزاب اليسارية إلا أن معظمهم يشعر أن الواقعية الاشتراكية تحدّد حريتهم الإبداعية.. وبشكل خفي لكنه واضح تسللت السريالية الأدبية والحياة السريالية إلى هؤلاء الأدباء، ورغم خفوتها مع الزمن إلا أنها ما تزال أساسية عند بعض الأدباء (كالحياة السريالية العبثية لصلاح فائق). إن تسلل العبثية والسريالية قد يكون نتيجة الصعوبات السياسية التي شهدوها بأنفسهم أو عاينوها في أصدقائهم. وكذلك حياة المنافي القاسية ، والعزلة الثقافية أمام الديكتاتورية المنفردة بالساحة الاجتماعية والسياسية.
لكن تبقى هذه الجماعة رغم التشتت والنفي مثالاً للصداقة الأدبية والإبداع الحر والثقافة المنفتحة.

لقد شكلت تيّارًا ثقافيًا وشعريًا يندفع بالإنسان إلى الأمام منذ بدايتها عام 1955 وحتى الآن.
وإن معايشة أعضائها للثورة العراقية في تموز 1958 ثم انقلاب 1963 واعتقالات الشيوعية وخيبة حزيران ، والتقلبات السياسية العالمية (كثورات الكفاح المسلح على يد غيفارا وتجديد الحركة الشيوعية الأدبية ، وربيع براغ ومحاولة منح الأفكار الاشتراكية بعدًا عالميًا ديمقراطيًا جديدًا) ، بالإضافة إلى معايشة الثقافات الأخرى والحضارات المتنوعة في المنافي ..كل ذلك أنضج الوعي الثقافي والحضاري لهؤلاء الأدباء فصاروا أمثلة كاملة النضج للأديب العربي المنفي.
إن التعددية الثقافية والتنوع الديني داخل الجماعة قد أعطياها بعدًا قوميًا يستبدل التكتل الطائفي بجمالية الانفتاح الثقافي والإبداع الأدبي الحر والمتجدد.
فالأب يوسف سعيد جعل من كنيسته مكانًا لاجتماع الجماعة والنقاش حول الأدب العربي والعالمي وهو يقول عن أصدقائه:

أغرب ظاهرة في هؤلاء أنهم كرّسوا حياتهم تمامًا للثقافة والشعر، يعيشون بزهد، بلا طموحات مادية أو وظيفية، وبقوا هكذا حتى الآن. ما يدهش هو أن هؤلاء جميعًا، حين التقيت بهم، كانوا في قلب الثقافة العالمية، يبحثون عن الجديد. واحدهم يحمل اكتشافه إلى الآخرين دون أن يفصلهم أي انتماء ديني أو قومي أو سياسي.
بالتأكيد إن تحول كركوك إلى إحدى «مدن الملح» نتيجة اكتشاف النفط فيها، وهجرة أدبائها إلى المنافي لم ينقص من حنينهم إليها بل إننا نسمع الأب يوسف سعيد يقول:
«ليتنا نلتقي ونحجّ كل عام إلى تلك المدينة الجميلة ونعقد جلساتنا في باحة تلك الكنيسة أو في بيت أحدنا». ربما آن الأوان لمن بقي حيًا من أبناء هذه الجماعة لأن يحجّ إليها!!








أعدّ الشاعر عبد القادر الجنابي أنثولوجيا الأدباء العرب بالفرنسية لكنها لم تكن متخصصة بالأدب المهجري. كذلك قدّم الشاعر خالد المعالي عملاً موسوعيًا أنثولوجيًا عن الأدباء العرب باللغة الألمانية وكان يشمل كعمل الجنابي أدباء من الداخل والخارج.

أما باللغة الإنكليزية فأذكر هنا هذه الأنثولوجيات:

Modern Arabic Poetry: تشمل الشعراء العرب الذين يعيشون داخل الوطن العربي وخارجه، أعدتها الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي.
Post Gibran Anthology (أنثولوجيا ما بعد جبران): وتشمل الأدباء العرب الأميركيين ومعظمهم يتكلم ويكتب بالإنكليزية. أعدها منير العكش وخالد مطاوع.
The Poetry of Arab Women (أنثولوجيا شعرية عن العربيات) : أعدتها الشاعرة نتالي حنظل (مقيمة في أميركا ولا تتكلم العربية)، وقد صدرت في نيويورك، وتشمل الشاعرات المقيمات في الوطن العربي وخارجه.
Grape Leaves (أوراق العنب) : وهي أنثولوجيا أدبية تضم الأدباء العرب الأميركيين الذين يكتبون ويتكلمون الإنكليزية، أعدها شريف الموسى وغريغوري أورفيليا.
Voices in the Desert (أصوات في الصحراء) : وهي أنثولوجيا عن الأديبات العربيات الكنديات صغيرة الحجم أعدتها اليزابيت دهب.
وفي عام 2003 قامت مجلة هانيبل Hanipal (التي تقدم الأدب العربي باللغة الإنكليزية) بعمل ملف كبير عن الأدب العراقي ضم عشرات الأدباء العراقيين في المهاجر والبلاد العربية.

* * *

الكتاب العرب باللغات الأخرى:

من الظواهر الجديدة اللافتة للنظر ظاهرة الأدب العربي- الأجنبي فهناك كتاب عرب وصلوا في أدبهم شهرة عالية يكتبون بلغة غير عربية. أذكر منهم مثلاً أمين المعلوف اللبناني الذي يكتب بالفرنسية رواياته والتي تُرجمت إلى العربية جميعها. كذلك الطاهر بن جلون الذي يكتب بالفرنسية أيضًا، ويتعرف العرب على رواياته عن طريق الترجمة.

هناك عدد جيد من الكتاب العرب خصوصًا من شمال إفريقيا يعيشون في أوربا (بالأخص فرنسا) ويكتبون باللغات الأوربية.

أما بالنسبة لأميركا فهناك الجيل الجديد القادم من الوطن العربي والمتمسك باللغة العربية وعدد كتابه قليل وليس لديهم منتديات وتجمعات كما في السابق. وهناك الجيل القديم الذي يكتب باللغة الإنكليزية بشكل عام ،  وأخيرًا يجب أن نذكر الجيل الثاني والثالث للعرب الأميركيين الذين يكتبون بشكل أساسي باللغة الإنكليزية عن مواضيع عربية أو شرقية أحيانًا ومعظم أبنائه لا يعرفون حتى قراءة العربية.

* * *
ملاحظات

*هناك قسمان أساسيان للكتاب. الأول هو قسم الشعر ويضمّ نبذات عن الشعراء ونماذج شعرية، والثاني هو قسم النثر ويضم الروائيين والقاصين مع نماذج أدبية من قصة قصيرة ومقاطع روائية. لم أعمل على توثيق الأعمال المسرحية والكتاب المسرحيين لعدم نضج هذه اللون الأدبي في المهجر خصوصًا باللغة العربية. في النهاية هناك قسم صغير يضم بعض المقالات الأدبية والنقدية عن أدب المهجر ومعنى المنفى لدى الكتّاب المهجريين.

*بعض الأدباء يكتبون أكثر من لون أدبي، فاضطررت إلى اختيار لون واحد من أعمالهم، رغم أن تصنيف الأديب كشاعر أو روائي أو قاص هو تصنيف متعسف أحيانًا لكنني فعلت ذلك، بالتعاون مع الأدباء أنفسهم، كي لا يتضاعف حجم الكتاب الكبير أصلاً، وكي يكون هناك مساحة كافية لكل أديب، ولكل نموذج أدبي.

*اعتمدت التسلسل الأبجدي للأحرف الأولى للأسماء وليس هناك أي اعتبار آخر.

*إن حجم المواد الأدبية لا تعبر بالضرورة عن أهمية الأديب من الناحية النقدية، وإنما اعتمدت أكثر على حجم المواد المتوفرة ومدى ملاءمة تلك المواد لحجم الكتاب.

*أرجو من خلال هذا العمل الموسوعي الذي لم ينتهِ بعد (لأن جزءًا أو ربما جزأين في طور التحضير) أن يجمعنا الأدب حيث فرقنا كل شيء آخر، وأن يكون العمل الثقافي المشترك ساحة لقاء بين الثقافات والطوائف والأديان، فالدين لله والأدب للجميع.

وأرجو أيضًا أن نتعلم كل يوم أكثر احترام آلام الآخرين الذين يعيشون في المهجر أو المنفى أو غربتهم الذاتية، مصلوبين بين الشرق والغرب، مسافرين ومنفيين وضائعين، فقد لمست ذلك عميقًا في كتابات الأدباء المشاركين في هذا العمل.

*إن الكتابة مشروع نبوة ، وروح شرقية صافية صادقة ، والأديب المهجري يسعى أن يكون كما قال روزفلت عن جبران خليل جبران: «أنت أول عاصفة انطلقت من الشرق واكتسحت الغرب لكنها لم تحمل إلى شواطئنا إلا الزهور».

*لم أصحح الأخطاء اللغوية والقواعدية إلا في الحالات التي تبدو فيها طباعية أو سهواً ، وذلك أمانة واحتراماً للكتابات المقدمة من قبل الأدباء ، على أني أعد بالتصحيح المناسب ، في الطبعة التالية، إذا اكتشف الأديب خطأً في كتاباته . لذا أرجو تنبيهي إلى ذلك.

*أتوجّه بالشكر العميق لكل الأدباء المشاركين لتجاوبهم وصداقتهم الجميلة، خصوصًا الأدباء عبد القادر الجنابي، قيصر عفيف، طه عدنان، عدنان حسين أحمد، خالد المعالي، صلاح نيازي وسميرة المانع لمساعداتهم السخية في التواصل مع بقية الأدباء. وتقديم الأفكار والأسماء والعناوين.
هذا العمل قد خلق صداقات كثيرة وجميلة أرجو لها أن تستمر.

الخميس، 27 نوفمبر 2014

الأدب المهجري المعاصر (3)

الأدب المهجري المعاصر (3)


مقدمة عن الأدب العربي المهجري المعاصر
والمختارات الأدبية "أنثولوجيا"


الأستاذ لطفي حداد
 بقلم الكاتب: لطفي حداد





يغلب الطابع الإنساني (كالحنين ومحبة الوطن)، والقيم الفاضلة (كالحرية والانفتاح على الآخر)، على الأدب المهجري منذ نشأته في بداية القرن العشرين وحتى اليوم، رغم تغير التوزع الجغرافي للأدب وبروز الوجه العراقي بشكل واضح .

فإذا كان الأدب المهجري في السابق في القارة الأميركية بشكل غالب وبألسنة لبنانية وسورية ، فإنه حاليًا يتمركز في أوربا وبأغلبية عراقية.

هذا الأدب المهجري الحالي هو أدب منفتح على الثقافات الأخرى وناضج ومتحرر ومتفاعل مع الحضارات المجاورة.

ورغم غلبة السريالية في الشعر إلا أن هناك الكثير من التأثر بالرومانسية الفرنسية، والكلاسيكية العربية. أغلب الشعراء المهجريين الحاليين يكتبون نوعًا من القصيدة النثرية، وبعضهم يكتب قصائد موزونة " قصيدة التفعيلة" ، ونادرون من حافظوا على القصيدة العمودية.

أما الروائيون فما يزالون يكتبون عن الوطن والحنين، وعن المنفى والعزلة، وعن الحرب والموت والفشل، وقد تطور هذا الشكل الأدبي كثيرًا عن بدايات القرن العشرين وصار يزاحم بقوة الأشكال الأخرى خاصة الشعر. فالرواية العربية المهجرية شكل أدبي جديد ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين بشكل أساسي. أما قبل ذلك فكان هناك محاولات بسيطة ومتواضعة مثل رواية «من المهد إلى اللحد» لأنطون شكور الذي كان يقيم في البرازيل. ورواية نظير زيتون «ذنوب الآباء». ورواية «في سبيل الحرية» لإلياس قنصل. وبعض المسرحيات مثل مسرحية «الآباء والبنون» لميخائيل نعيمة ومسرحية «ابن حامد» لفوزي المعلوف.
* * *
من خصائص الأدب المهجري الحالي موضوع الحرية والتحرر، بصياغات مختلفة متنوعة، وروح تقدمية منفتحة مصغية وإنسانية.
إن هذه القيم العميقة كالبحث عن الوطن والمعنى والحقيقة ، والشوق إلى الديمقراطية والعدالة والأخوة والمساواة ، بروح وطنية صادقة واحترام لحقوق الإنسان الأساسية، أقول إن هذه القيم سيكون لها طابعها الخاص وتأثيرها الإيجابي على الأدب العربي عبر العقود القادمة. وإن الألم الذي يعانيه الأدب المنفيّ سيكرّس هذه القيم للأبد في قلب تاريخ الأدب العربيّ.
الأدب المهجري أدب مهموس (كما يسميه الناقد الدكتور محمد مندور) لأنه عميق وواقعي ومرتبط بالحياة وليس فيه الخطابية والسطحية الثقافية.

ويقول جورج صيدح (أحد الأدباء المهجريين): لقد طبعت شمس الغرب ألوانها على أوراق الأدب المهجري.. أما لبّه فيحيا على إشعاع الشرق، وقلبه يختلج بنسمات الصحراء... ويجعل الموهبة الفطرية لا الثقافة هي مفتاح السرّ في تفوّق أدب المهجر، مع الجد والاجتهاد والتأمل العميق.

تنطبق هاتان المقولتان على الأدب المهجري الحالي بشكل واضح وصادق وتنطبقان على أدب المنفى العالمي بشكل عام ، لأن هذه الظاهرة الجديدة، أعني ظاهرة المنفى، لم تقتصر على العرب في العقود القليلة الماضية بل شملت شعوبًا كثيرة وبالتالي أدباء كثيرين.
* * *
الحياة المهجرية:

يعيش الكثير من الأدباء العرب في المهجر أو المنفى حياة صعبة ويضطرون للعمل في المطاعم والمحلات التجارية ومحطات البنزين لكسب المعيشة وتوفير ضروريات الحياة، وهذا مشابه إلى حد بعيد بوضع الأدباء المهجرين في أوائل القرن العشرين (كما نقرأ في كتاب «المغتربون» لعبد اللطيف اليونس، وكتاب «ذكرى الهجرة» لتوفيق ضعون).

بالمقابل هناك نجاحات المغتربين في كافة المجالات حيث عملوا في كل حرفة وأبدعوا في كل علم تمامًا كحال المهجريين الحاليين الذين حازوا على جوائز كثيرة في مجالات الأدب والاقتصاد والعلم.

لقد عاش المهاجرون في الماضي جماعات يكونون جاليات عربية ، ومن الناحية الأدبية كانت نيويورك في بداية القرن العشرين أهم الجاليات الأدبية. بالمقابل تشكل باريس ولندن حاليًا أهم المراكز الأدبية والثقافية العربية ، وليس هناك جالية عربية أدبية قوية في أميركا (باستثناء قليل من الأدباء الموزعين على الولايات الأميركية ولديهم علاقات عرضية فيما بينهم).

تغير أيضًا التوزع الجغرافي بالنسبة لأميركا الجنوبية حيث لا نجد حاليًا أي أديب يكتب بالعربية في كل القارة الأميركية الجنوبية (باستثناء الشاعر اللبناني قيصر عفيف الذي يعيش في المكسيك) بينما كانت أميركا الجنوبية حافلة بالأدباء المهجريين مثل جورج صيدح، رشيد سليم الخوري، نظير زيتون، شفيق معلوف، فوزي معلوف، إلياس فرحات، إلياس قنصل، زكي قنصل، شكرالله الجر، نعمة قازان، حبيب مسعود، توفيق ضعون، وغيرهم.
كذلك أسس المهجريون النوادي الأدبية والجماعات الأدبية المختلفة، والمطابع العربية، والصحف والمجلات العربية (أول صحيفة عربية ظهرت في المهجر الأمريكي كانت «كوكب أمريكا عام 1892، أصدرها إبراهيم ونجيب عربيلي).
* * *
فسيفساء الأدب المهجري:

رغم الحضور القوي والغامر للشعر العراقي الذكوري في المشهد الأدبي المهجري المعاصر، إلا أن هناك تلوينات وتنويعات مختلفة ومهمة ومتعددة تعطي المشهد العام شكل فسيفساء عربية راقية رائعة..

فالأصوات النسائية من الأقطار العربية المختلفة والمهاجرة لأسباب مختلفة تعطي توازنًا ضروريًا للاستمرار، كذلك حضور اللون القصصي واللون الروائيّ الناضجين يعطي اللوحة جمالاً خاصًا يقرّبها من الكمال.

وإن الأقلية الأدبية من شمال أفريقيا تخلق مع كل ما سبق أدبًا مهجريًا متناغمًا متجانسًا بألوان متنوعة متناسقة تشكل معًا لوحة الأدب المهجري المعاصر.
* * *
الاغتراب الأدبي:

بعد سبعة عشر عامًا من حمل «الاغتراب الأدبي» على كتفيه وفي مقلتيه، قرر الأستاذ الدكتور «صلاح نيازي»، مع زوجته الأديبة «سميرة المانع» أن يتوقفا عن إصدار مجلتهما التي كانت صوت المغتربين خاصة من العراقيين.
أمامي اثنان وخمسون عددًا من مجلة «الاغتراب الأدبي»، علمتني الكثير عن الأدب المهجري أو أدب المنفى والاغتراب.
وكما يشرح الدكتور صلاح نيازي في أكثر من مكان فإن العنوان يتحمل معنيين: اغتراب الأدب في هذا العالم المادي غير المبالي، وأدب المغتربين والاغتراب بكل خصوصياته وجمالياته.
بدأ د. صلاح وزوجته المجلة بهذه الجملة عام 1985 :
(لو كان مجرد احتضان المغتربين العازفين عن النشر بهذا البلد أو ذاك، أو بهذا المطبوع أو ذاك، مخافة أن يُروا وكأنهم يتشيعون إلى فئة بعينها أو إلى عشيرة بعينها.. مبررًا لهذه المجلة.. فكفى).

تشكل المجلة بالنصوص والأشعار والترجمات والملفات التي نشرتها شهادة حية عن الأدب المهجري في العقدين الماضيين وتكتب تاريخًا شبه كامل عن فترة التسعينات وأواخر القرن العشرين من ناحية الأدب العربي في الخارج. إنها عمل يستحق التقدير، ويتطلب دراسة أعمق من النقاد لفهم الأدب المهجري.
* * *
المجلات الأدبية:

أذكر هنا بعض أسماء المجلات الأدبية التي تصدر حاليًا في الخارج باللغة العربية خصوصًا. أما الجرائد فمنها محلية داخل بلد أوربي أو أميركي ، ومنها عالمية خاصة الصادرة من لندن، فهي توزع في العديد من البلدان العربية والأجنبية.
- مجلة ألواح: يصدرها الكاتبان عبد الهادي سعدون، ومحسن الرملي في إسبانيا.
- مجلة حجلنامة: تهتم بالثقافة الكردية ويرأس تحريرها الشاعر محمد عفيف الحسيني في السويد.
- مجلة صوت الوطن: يشرف عليها الشاعر والكاتب مصطفى محمد غريب في النرويج.
- مجلة ضفاف: يشرف عليها الشاعر والكاتب وديع العبيدي في النمسا.
- مجلة كلمات: يحررها الكاتب رغيد النحاس في أستراليا.
- مجلة أحداق: يرأس تحريرها الكاتب عدنان حسين أحمد في هولندا.
- مجلة الحركة الشعرية: يرأس تحريرها الشاعر قيصر عفيف في المكسيك.
- مجلة صفحات : ترأس تحريرها الشاعرة إباء إسماعيل في أميركا.
- مجلة بانيبال: تصدر باللغة الإنكليزية وتعنى بالأدب العربي ويشرف عليها الكاتب صموئيل شمعون كما إنه يشرف على موقع كيكا الالكتروني الأدبي.
- مجلة ديوان: تصدر بالدانماركية وتعنى بالثقافة العربية ويشرف عليها الشاعر منعم الفقير. كما يصدر مجلة «السنونو» التي تهتم بالثقافة في الدانمارك.
- يشرف الشاعر عبد القادر الجنابي المقيم في فرنسا على القسم الثقافي لموقف إيلاف الالكتروني. وقد أصدر الشاعر في السابق مجلة «الرغبة الإباحية» التي تنتمي إلى الإرث السوريالي. ثم أصدر مجلة «فراديس» (مع الشاعر خالد المعالي).
- مجلة المسلة: فيترأس تحريرها الكاتب علي عبد الأمير، وقد صدرت الأعداد الأولى منها في لندن ثم انتقلت إلى الأردن.
هناك أيضًا مجلات الكترونية تصدر في الخارج وتستقبل الأدب العربي من داخل الوطن وخارجه أذكر منها مثالين:
- مجلة أفق: يرأس تحريرها الشاعر محمد النبهان المقيم في كندا ويعمل مع مجموعة من الكتاب المقيمين في الكويت.
- مجلة نسابَا: يشرف عليها الشاعر علي مزهر المقيم في أميركا.