الأحد، 26 أكتوبر 2014

شعراء المهجر.. ودورهم في تجديد الشعر العربي

سألني بعض الزملاء أن أعدَّ لهم تعريفاً بالأدب العربي بأمريكا خاصةً أو ما يسمى بشعراء المهجر تحديداً .. و لأن الموضوع بأهميته لم أكن قد اشتغلت عليه قبلاً .. اللهم إلا بحث صغير كنت قد أعددته منذ زمن عن شعر إيليا أبي ماضي عن فترته السكندرية .. رأيتُ أن أنشر ذلك الموضوع الذي أعده الأستاذ / مروان الجنزير .. حيث رأيته ملخصاً و وافياً بآن لدرجة أنه يصلح أن يكون مقدمةً في سلسلة عن شعراء المهجر الأمريكي .. ربما سيكون هناك المزيد من تلك المقالات سأنشرها لكم تباعاً مشيراً لمصدرها و ذلك للأمانة العلمية .. 
و لكم جزيل الشكر و المحبة

أحمد حنفي


و المقالة الحالية منقولة عن الرابط التالي:
http://www.14october.com/news.aspx?newsno=139201

شعراء المهجر.. ودورهم في تجديد الشعر العربي 


إعداد / مروان الجنزير 


بداية الطريق :


يقول الكثير من المؤرخين إن الولادة الحقيقية لشعر المهجر تعود الى أواخر القرن التاسع عشر حيث تعتبر الاندلس .. "أسبانيا حالياً" الحاضنة الحقيقية للجماعات القادمة من البلاد العربية كلبنان وسوريا بعضها هرباً من ظلم الاتراك وبعضها بحثاً عن الرزق وبين الجماعات المهاجرة كانت هناك طائفة من الشبان ترفرف بين جوانحهم قلوب تملؤها الحرية وفي رؤوسهم آفاق رحاب من الفكر النير والخيال الخصب أولئك كانوا من الرعيل المثقف الواعي الذي عز عليه أن يعيش أسيراً للظلم والعوز فأنطلقوا باحثين عن الحرية والاكتفاء .

فئات شعر المهجر :


ينقسم معشر شعراء المهجر الى فئتين الاولى المهجر الشمالي أي "الولايات المتحدة الاميركية" امريكا الشمالية أما الفئة الثانية فكانت في امريكا الجنوبية والمعروف أن الشمال أغنى من الجنوب الفقير الذي يدخل في صلبه شعراؤنا المتواجدون في البرازيل وبلدان أمريكا الجنوبية فلكل من هاتين الفئتين خصائص ومميزات منها الأصيل ومنها المكتسب والتي تتفق تارة مع خصائص الاخرى ومميزاتها وقد تختلف أحياناً أخرى فقد ظهرت الفئتان في وقت واحد وفترة متقاربة جداً تبدأ منذ أوائل القرن العشرين تحديداً مع بداية الحرب العالمية الاولى 1914م- 1918م حيث أسهمت كلتا " الفئتين" في تكوين في تكوين ما عرف بالمدرسة المهجرية الادبية التي تركت كل منها أثرها على الأخرى .

إن فئة المهجر الشمالي على قلة عددهم كانت أبعد أثراً من فئة الجنوب وعلى الرغم من أن الذين ظهروا في الحقل الادبي هم مهاجرو الجنوب الذين ذاع صيتهم وأعمالهم في العالم العربي إلاّ أنهم كانوا لا يتجاوزن عدد الاصابع حتى فئة الشمال فقد تفوق منهم قلة ومن ذاع صيتهم أيضاً قلة إلاّ أنهم أيضاً اثروا الأدب العربي بالعناصر والأوزان الجديدة التي تجلت مع منتصف الخمسينات من القرن الماضي.

رواد شعر المهجر :


هناك العديد ممن يشار إليهم بالبنان على أنهم أصحاب الفضل في إنارة الأدب العربي منهم الشعراء جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وكذا إيليا أبو ماضي ونسيب عريضة ورشيد أيوب وعبدالمسيح حداد وندرة حداد ووليم كاتسفليس والريحاني وأمين مشرق ومسعود سماحة ونعمة الحاج فالثمانية المتواجدون في السطور الاولى هم من أعضاء " الرابطة القلمية" التي أنشئت في نيويورك عام 1920م برئاسة جبران خليل جبران وسكرتيره ميخائيل نعيمة فأعضاء الرابطة القلمية سرعان ما أنتشرت أعمالهم في المهجر والوطن وأقبل المثقفون في العالمين القديم والجديد " العربي والامريكي" على إشباع ذروة عطشهم من القصة والنثر والشعر لما رأوا فيه من حيوية وأساليب غاية في الجمال .

إستطاع أدباء المهجر الشمالي أن يبدعوا في أكثر من ميدان عنوانه الأدب حيث أغرموا بالأدب العربي وجعلوه مملوءاً بأساليب فنية وشقوا طرقاً وفنوناً جديدة حتى لتعد مؤلفات بعضهم أحداثاً لها قيمتها الكبرى في حياة النهضة الادبية في الشرق العربي .

فمن أبرز الأعمال التي ما زالت حية حتى يومنا هذا قصيدة ..المواكب "لجبران" و"الجداول" و " الخمائل" لإيليا أبو ماضي مع عدد من قصائد الجزء الثاني من ديوانه و " الأرواح الحائرة" لنسيب عريضة و" همس الجفون" لميخائيل نعيمة.



النسوة في أدب المهجر :


نظر الأدب المهجري الى المرأة على أنها عنصر روائي مهم وشعري لا يشق له غبار وقصصي أنحنت له الأقلام فهناك مجموعة من النساء اللواتي أسهمت لكن ليس بمستوى جبران ونعيمة والآخرين فمن أديبات المهجر اللواتي حظين بالشهرة عبر صحافة المهجر السيدة سلمى صائغ مؤلفة كتاب "ذكريات وصور" وأيضاً السيدة ماري عطا الله ومريانا دعبول فاخوري رئيسة تحرير مجلة " المراحل" والتي تصور في مدينة سان باولو وأنجال عون شليطا الاديبة والفنانة التي كانت تحب النثر والكتابة وتسهم في الخدمة الاجتماعية أيضاً سلوى أطلس رئيسة تحرير مجلة "الكرامة" التي عاشت أكثر من ربع قرن حيث ولدت سلوى في حمص بسوريا وهاجرت الى البرازيل عام 1913م حيث توفيت هناك.

خصائص ومميزات أدب المهجر :


ما يميز أدب المهجر عن باقي دواوين الأدب العربي الوفرة الكبيرة في العناصر القوية حيث كان الأدب العربي قبلها في عصر الانحطاط لا يزال يزحف كالسلحفاة ينوء بما يجرجره من ركام الألفاظ والأساليب القديمة البالية التي تكبله وتثقله فتعوق مسيرته وتقيد حركته.

من هنا نستطيع القول إن ما تميزت به مدرسة المهجر الأدبية تسع مزايا هي :

- التحرر التام من قيود القديم.

- الأسلوب الفني والطابع الشخصي المتميز.

- والسبع البقية : هي جوهر العمل الأدبي .

- الحنين الى الوطن.

- التأمل.

- النزعةالإنسانية.

- عمق الشعور بالطبيعة .

- براعة الوصف والتصوير .

- الغنائية الرقيقة في الشعر .

- الحرية الدينية.


الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

البوحُ قنطرةُ العبورِ(انفتاح الذات على الآخر في قصيدة "و بيبكي" للشاعر / وليد المصري)

البوح قنطرةُ العبورِ

انفتاح الذات على الآخر في قصيدة "و بيبكي" للشاعر / وليد المصري

بقلم / أحمد حنفي
أحمد حنفي

[1]

لن يكون قدحاً في شعره إذا ما وصفته بالعفوية ؛ ذلك أنَّ جمله - في أغلبها – ذات تركيبٍ بدائي ، و صوره يقدمها لنا في أبسطِ أنماطها و أبعدها عن الغرابةِ و التَّلفيقِ ، إنَّه يطرحُ لنا أنموذجاً للقصيدةِ التي يمكنُ أن نُطلقَ عليها "القصيدة العذراء" ؛ تلك القصيدةُ التي لم تلهثُ خلف ركابِ شاعرٍ آخر ، و لم تفعل بها شوارعُ الشعرِ و أزقَّتُه أفاعيلها و لم تنم بأحضان تجارب السابقين ، و لم تصادق تجربةً معاصرةً لها .. فكانت قصيدةً مختلفةً بعفويتها .. مختلفةً بطزاجتها .. مختلفةً بتأثيرها على النفسِ حيثُ تحتلُّ فيك جزءً سحيقاً من ذكرياتك و تجعلها تطفو على السطح بمجرَّد أن تقرأها للمرَّة الأولى.

و هي قصيدةٌ تعتمدُ على ثقافتها الحياتيةِ و خبرتها المعيشيةِ لتقدِّمَ نفسها لقارئها مستقلَّةً تماماً عن أيَّة أيدلوجيا فكرية و متحرِّرةً من أيِّ قيدٍ معرفي ..

هكذا طرح لنا "وليد المصري" تجربته الشعريَّة الأولى في مجموعتهِ "فوق قضيب الترمايات" [1] .. تيارٌ جارفٌ من العفوية و التلقائيَّة حتى لتشعرَ أنَّهُ يُحدِّثك في جلسةٍ حميميةٍ على المقهى ، يحدِّثُك عن ذاته و ماضيه و تطلُّعاته و تمرُّده و إحباطاته و توهُّجه و ملوحة حلقه و تحوُّلاته و صوت "منير" و "فيروز" و "بائع البيكيا" و "لمبة الجاز" .. إنَّه يشعرك بالحميميَّة المفرطة للدرجة التي تجعله صديقاً مقرَّباً لك بعد أن تفرغَ من قراءةِ قصائد مجموعته .. إنَّه ذاتٌ مفتوحةٌ للجميعِ .. بلا خجلٍ .. بلا ريبةٍ .. بلا زيف.

اليومُ أتوقَّفُ عندَ إحدى قصائد تلك المجموعة لنرى كيف قدَّمت تلك الذَّاتُ الشاعرةُ نفسَها و كيف أنَّها لم تَخبُر طريقةً تتجاوزُ بها الماضي و آلامه غير البوحِ و الاعتراف.

و إليكم النَّص:

و بيبكي

كان واقف يبكي
ويا حيطان العزلة لوحده
و الساعة .. قلبها واقف
و الكون بيدور
بيرجع بيه سِنَّة بسِنَّة
شايف نفسه بمريلة بيج .. و جزمة باتا
و بين دراعاته حاضن شنطة قفلها بايظ
من غير إيد
و الناظر واقف في طابور الصبح
- الطالب اللي مجبش المصاريف ..
يطلع برة .. يخرج
من وسط زمايله
بيقدِّم رجل .. و التانية بيأخر فيها
عينه بتلمع م الإحراج
و تنقط لولي على خده
بينزل نار
ليه كل اصحابي
بيجوا الصبح معاهم ماما ؟
و انا باجي لوحدي !!
و اما بروَّح ..
مش بلقى ف بيتنا غير جدو و تيته
و بابا .. في البيت التاني
و معاه إخواتي و ليهم ماما
قلب الساعة .. لساه واقف
و الكون بيدوَّر فين ماما ؟
تقرب مني و تسمع دقة قلبي [2]


[2]

يحدثنا الشاعرُ عن ذاته باعتبارها آخر غائب ، بالطبع لا نستطيعُ القطع بذلك لكنَّ هناك عدَّة أسبابٍ دعتنا للاطمئنانِ و إصدار ذلك الحكم ؛ ربما هناك عاملٌ نفسي .. فحين تتحدَّثُ عن ذاتكَ و أنت تبكي تكون أكثر تحفُّظاً و مواربةً من لو أنَّك تتحدَّثُ عن آخرٍ ، و ربما رأى الشَّاعرُ أنَّ غيابَ الذَّاتِ عن الحدثِ يعني تورطها فيه أو بمعنى آخر فإنَّ الذّاتَ تقفُ من تجربتها الماضية موقف الرَّاصدِ المحلِّلِ الذي يرى الأمورَ من جميع الزوايا.
كما أنَّ هناكَ أدلَّة أخرى من داخل قصائد مجموعته تؤكِّد على أنَّ الذَّاتّ تتحدَّثُ عن نفسِها لا عن آخر غائب ، و يبدو أنَّ مرحلة الطفولةِ التي عاشها الشاعرُ – و بصفةٍ خاصة مرحلة الدراسة الابتدائية – قد تركت أثراً عميقاً في روحه و خلَّفت بالنَّفسِ ندباتٍ لم يؤسِّها الزَّمن ، ففي إحدى قصائد المجموعة يقول متحدِّثاً عن نفسِه:

"فـى الصورة الأبيض و أسود
باينة الضحكة الصافية بريئة
ويَّا اصحابي و مُدرِّستي
مريلتي البيج ..
كاسيها بياض مع غمقانها" [3]

لعلَّ هذا الكادر السَّابق يشترك في نفس المعنى العام مع قصيدتتنا التي نتحدث عنها مما يؤكدُّ مدى احتفاء "وليد المصري" بتلك المرحلة الحياتية ، أليست مكونات ذلك الكادر تشتبك مع قصيدتنا حين قال:

"شايف نفسه بمريلة بيج
و جزمة باتا
و بين دراعاته .. حاضن شنطة"

إنَّه يريدُ أن يؤكِّدَ على أنَّ شيئاً ما تركته تلك المرحلة في نفسه سواء أكان ألماً .. أم حبّاً ، يقول:

"لحظة ما الحب اتولد
جوة قلبي ناحيتك
كنت لسه في ابتدائي" [4]

تلك المرحلة التي يبني فيها الطفل آماله و طموحاته بالمستقبل و يحلمُ فيها أن يصيرَ كذا .. و أن يفعلَ كذا .. تلك المرحلة أصبحت الآن مدية تطعنُ الذَّاتَ من الخلفِ و تجعلها ذاتاً نازفة ألماً و ذكرياتٍ .. ذلك أنَّ الحلمَ يرتدي زيَّ الإعدام ، يقول:

"أحمر ..
لون بدلة الحلم اللي ساكن
منذ أيام الطفولة
و لسة متعبي في أزايز" [5]

و بضياع الأحلامِ يكونُ مسلوبَ الإرادةِ .. مهزوماً .. منهوكَ القوى ، كل طرقه تؤدِّي إلى الخلفِ في إعلانٍ واضحٍ عن قوَّةِ الأثرِ الذي خلَّفه الماضي في نفسه .. و لما يزل ، يقول:

"إمبارح ..
كان بيسلب مني الإرادة
و يعقد ..
صفقة الصمت
و وأد الحلم جوايا
مفيش فرق ..
كل شارع طالع
رايح على اللي قبله" [6]

هو تيارٌ سائدٌ إذن في قصائد المجموعة ، حديث الذاتِ عن الذات ، ثورة من البوح ، آلام الماضي التي مازالت مبرحةً ، و الشكُّ في مستقبلٍ قادرٍ على تجاوز تلك الآلام و هاتيك المنغِّصات القديمة .. ليعززَ ذلك كله حكمنا بأنَّ الذات في قصيدتنا إنما تتحدَّث عن نفسها لا عن آخرٍ غائب .. فضلاً عن أنَّ هناك قرينة نصيَّة أخرى من داخل القصيدة ، و ذلك حين تحوَّلت الذات عن مقعد الرَّاوي إلى الوقوفِ على خشبةِ المسرح لأداء دور البطل و هو يؤدي المنولوج الختامي .. يقول:

"ليه كل اصحابي ..
بيجوا الصبح معاهم ماما ؟!
و أنا باجي لوحدي ...." [7]

إنَّ هذا الالتفات النموذجي من الغائب إلى المتكلم و إن كان يؤكدُ من جهةٍ أنَّ الذاتَ قد بدأت البوحَ باعتبارها آخر غائب ، فإنه يؤكدُ من جهةٍ أخرى أنَّ "وليد المصري" أطلقَ لمشاعره العنانَ لتحرِّكَ قلمَه و تُملي عليه نصَّه كيفما شاءت و أينما أرادت دون ممارسة أيِّ شكلٍ من أشكالِ التقييدِ و الالتزام .. فلا نكادُ نشعرُ بالصنعةِ إطلاقاً في ذلك الالتفاتِ .. و ليس في ذلك الالتفات و حسب ، و لكن لا نشعرُ بالصنعةِ في النَّصِّ كمجملٍ و الذي تجلَّى في إهمالِ القافيةِ تماماً فضلاً عن بعضِ الاختلالاتِ بالوزن.

الشاعر / وليد المصري


و لا أدري إن كانت تلك الاندفاعات العاطفية و الشحنات الشعورية المضطربة و التي تتحكمُ في شكلِ كتابةِ النَّصِّ و تُملي على الشاعرِ ما ينبغي عليه أن يكتب – لا أدري إن كانت هي ما يُطلقون عليه الطبع الذي هو على النقيضِ من التَّكلُّف و الصَّنعةِ أم لا .. لكن ما أؤكده لكم أنَّ ذلك الالتفات إنَّما جاء بوقته تماماً .. في اللحظةِ التي لا نشعرُ بقيمتهِ و أثره على المعنى إلا فيها.

جاء ذلك الالتفاتُ بعد أن وصلَ الصراعَ النامي إلى ذروته ، إنها بالفعلِ لحظة متأزِّمة و مشهدٌ و إن كان يبدو بسيطاً للبعضِ أو معتاداً للبعضِ الآخرِ فإنَّه لا شكَّ من كونه مؤلماً ..

"يخرج ..
من وسط زمايله
بيقدِّم رجل ..
و التانية .. بيأخر فيها
عينه بتلمع م الإحراج
بتنقط لولي على خده
ينزل نار"

هنا وصل ذلك الصراع النامي إلى ذروته ، و هنا أيضاً توقف الحكي .. توقف لأنِّ الذَّاتَ انتقلت من مقعدِ الرَّاوي إلى خشبةِ المسرحِ كما ذكرتُ قبلاً .. و هنا وصلَ التوترُ السطحيُّ للنصِّ إلى ذروتهِ ، ذلك التوتر الذي قام مقام الطلقِ الصناعي و حفَّزَ الذَّاتَ أو استفزَّها للتصريح عن نفسِها .. لتطفو الذَّاتُ على السَّطحِ و تطفو معها متلازمةُ الانهيارِ و البكاءِ .. و ليكن ذلك المشهد هو تلك اللحظة الفاصلة التي تركت بالقلبِ صدعاً لم يلتئم .. و هو نفسه المحفِّزُ على تجاوزه و عبوره .. و ربما كان البوحُ و الاعترافُ قنطرةَ الذَّاتِ لعبورِ ماضيها و التحرر من آلامه.


أعودُ لأؤكدَ على أنَّ تدفُّق العاطفة للدرجةِ التي تُسيطر فيها على قلمِ الشاعرِ ربما لن تكونَ في صالحه كل مرَّةٍ ، لكنه يؤكد أيضاً أنَّ "وليد المصري" شاعرٌ متميِّزٌ للدرجةِ التي تمكِّنه من كتابةِ نصٍّ يتَّكئُ فيه على الموهبةِ دونَ سواها ، تلك الموهبةُ المتدفقةُ التي جعلته يتوقفُ بالصراعِ عندَ ذروتهِ و لا يُكملُ حكيه مُطبقاً مبدأ من أهم مبادئ الفنِّ و هو مبدأ العزل و الاختيار ، و يلتفتُ التفاتاً جميلاً رائعاً سلساً لا نكادُ نشعرُ به في لحظةٍ توقَّف فيها الزَّمن تماشياً مع الساعةِ التي توقَّف قلبها و توقَّفت معها الذَّات بدورها غير قادرةٍ على تجاوز تلك اللحظة.

[3]
"و بيبكي" ..

لا شكَّ في أنَّ الدراساتِ الحديثةَ الآنَ تنظرُ إلى العنوانِ باعتباره علامةً سيميوطيقية لا يجب إغفالها .. كما لا يجب أن ننظرَ للنصِّ من خلالها فحسب ، بل ننظر إليها أيضاً في ضوءِ ما قدَّمَه النصُّ من علاماتٍ ؛ فبين العنوانِ كعلامةٍ و النَّصِّ كمرسلةٍ علاقة تبادلية يضيفُ كلٌّ منهما للآخرِ و يأخذُ منه في آن.

و إذا ما نظرنا لعنوانِ النصِّ "و بيبكي" كعلامةٍ ذات فضاءٍ دلاليٍّ نجدها تشيرُ إلى الحزنِ و الانهيارِ و الألم ، و إلى غير ذلك من انفتاحاتٍ دلاليةٍ يملؤها الاشتغال الدلالي لتلك العلامة ، إلا أنَّ أهمَّ ما في تلك الدلالات هو اشتمالها على عنصر الزمن ..

"و ما زال يبكي" ..
هكذا يكونُ العنوان إذا ما كُتب باللغةِ لا باللهجةِ ..
قطعاً لاحظتم مدى تخفُّفِ اللهجةِ في المبنى ؛ فالفعل الناقص الناسخ "ما زالَ" و الذي يدلُّ على استمراريةِ وقوعِ الفعلِ الذي يليه ، فهو كان يبكي و ما زال يبكي حتى لحظة القولِ – ذلك الفعل الناقص الناسخ قد استعيضَ عنه في اللهجةِ بحرفِ الباء ، و برغم التخفيف في المبنى إلا أنَّ اللهجة احتفظت بكامل المعنى ؛ فهي تفيد قِدم و ماضوية البكاء و استمراريته ، بل و توقُّع استمرار حدوثه ، و بالتالي فقد أضافَ العنوانُ – كعلامةٍ سيميوطيقيةٍ – للنَّصِّ بُعداً هاماً ..
فأزمة الذاتِ الآنية ليست في فعلِ الاحتياجِ و العَوز و ضيقِ ذات اليد و غياب الأم و تسلُّط الآخر و التي مثَّلت مجتمعةً أذرع الأخطبوط التي أحاطت بها و قدمتها كفريسةٍ مستكينةٍ و مستسلمةٍ تماماً لتصرفٍ اجتماعي و أخلاقي غير مسئولٍ من ناظر المدرسة .. و إنما أزمة الذاتِ – في ضوء الاشتغال الدلالي للعنوان – هي ما تركه ذلك الموقف من أثرٍ يشوه تلقيها لحاضرها و يشوش استشراف مستقبلها ، ذلك الأثر الذي جعل الذاتَ تتوقفُ عند تفاصيل الموقف و لا تتجاوزه ..

"كان واقف يبكي
ويا حيطان العزلة ..
لوحده ،
و الساعة قلبها واقف"

و ما زال مستمراً حتى تلك اللحظة التي تخاطبنا فيها الذاتُ لتعلنَ بيانها الآتي ..

"قلب الساعة ..
لساه واقف"

و ما بين اللحظةِ التي توقف فيها الزمن و حتى لحظة القولِ التي اعترفت فيها الذاتُ ببكائها يظلُّ السؤالُ معلقاً ..

"فين ماما ..
تقرب مني و تسمع ..
دقة قلبي ؟"

إنه سؤال الذاتِ القلقةِ .. المضطربةِ .. التي تبحثُ عن حضنٍ دافئٍ يمنحها السلام و السكينة و الطمأنينة .. إنه سؤال الذات التي تعرت في ميدانٍ عملاق .. و لاحقتها أعينُ المجتمعِ تنهشُ براءتها و توخزها بنظراتها المستعرةِ .. ليبقى سؤالٌ ..

كيف لتلك الذِّات التي اختارت الوحدة و العزلة كمُسكِّنين لآلامها و كحلٍّ للهروب من قسوةِ المجتمعِ و نظرته المستعرةِ لها .. كيف لتلك الذَّات أن تُمارس فضيحتها في قصيدةٍ .. أو لو شئت قلت كيف لها البوح بضعفها و عجزها علانيةً هكذا ..؟!!


ربما أدركت الذَّاتُ أنَّ البوحَ بتفاصيل أزمتها هو فعلٌ ينطوي على شجاعةٍ و مواجهةٍ و أنَّ العزلةَ و الوحدةَ لم يمنحاها غير مزيدٍ من الألم و البكاء ، إنَّ الذَّاتَ أصبحت توَّاقةً للانخراطِ في المجتمع دون خوفٍ أو إحساسٍ بالنقصِ .. و دون كذبٍ و تجمُّلٍ أيضاً .. إنها أدركت أنَّ البوحَ قنطرتُها لعبور انتكاستِها و جسرُها الذي تمدُّه بينها و بين مجتمعها لتصالحه على أساسٍ من الصراحة و القوة و الانفتاح المتكافئ على الآخر بعد سنينٍ من الانغلاق و البكاء ..


[4]

يقدمُ لنا "وليد المصري" شعرية تلقائية .. عفوية .. تتسمُ بالبراءةِ و الانتماء الشديد للقلب .. و لذا فأنت كناقدٍ أو كقارئٍ واعٍ مدرَّبٍ لن تستطيعَ إعمال آلتك النقديةِ الجافةِ و القاسيةِ و التي لا تمتلك قلباً نابضاً ليشعرَ بتباريح و وجدِ و آلام و أفراحِ "وليد" و أتراحِه .. آلتك النقدية الآنَ معطلةٌ تماماً أمام تلك اللحظةِ الإنسانيةِ التي اقتنصتها موهبته و سجلتها في عدَّة سطورٍ سبق و أن وصفتها بالبساطة في التركيب و البعد عن التلفيق ..

فقط تجدُ نفسَك مدفوعاً لقبول ذلك النص على حالته تلك .. استسلم للنص تماماً .. إنَّه شحنةٌ انفعاليةٌ كبيرةٌ من المشاعرِ و العواطفِ التي حرَّكت قلم "وليد المصري" و أملت عليه ما كتبه ، و هي ذاتها التي ستتملَّكُ قلبَك و تفتحُ عينيك على مواطنَ و عوالمَ جماليةٍ مغايرة .. و شعريَّةٍ ذات خصوصيةٍ و فرادةٍ و نكهةٍ مائزة.

أحمد حنفي
الإسكندرية – محطة الرمل
12 أكتوبر 2014


الهوامش

[1] ديوان "حكايات فوق قضيب الترمايات"

[2] الديوان ص55 ، قام الشاعر وليد المصري بتصحيح بعض الكلمات و الأسطر بالنص و التي تسببت بها المطبعة أثناء الإخراج الفني للديوان ، و لذا فهناك اختلافات طفيفة بالنص الذي أوردته بالدراسة عما نُشر بالديوان.

[3] الديوان ، قصيدة "ليه" ص58

[4] الديوان ، قصيدة "من غير حدود" ص59

[5] الديوان ، قصيدة "بدلة الحلم حمرا" ص85

[6] الديوان ، قصيدة "كربون" ص88

[7] المنولوج حتى نهاية النص