الأحد، 16 أغسطس 2015

بيرم التونسي .. المعنى والمعاناة

بيرم التونسي
المعنى .... و المعاناة (**)
==================

بقلم الأستاذ/ خالد هلال

محمود محمد مصطفى بيرم
تاريخ الميلاد / 4 مارس 1893م

مكان الميلاد / حى السيالة – الأنفوشى -  الأسكندرية
الجنسية  / حصل على الجنسية المصرية عام 1953 م و هو فى الستين من عمره
الحالة الاجتماعية / تزوج مرتين الأولى من السيدة نبوية أم ولده الكبير
                   محمد و ابنته الكبرى نجية و الثانية من السيدة إحسان
                   أم ولدية محى و أيمن و ابنته الصغرى صبرية
تاريخ الوفاة  / 5 يناير 1961 م
أعماله / 12 مجلداً تتضمن الأزجال و المقامات و قصة السيد و مراته فى
           باريس و أوبريت عزيزة و يونس  و له 11 أوبريت أشهرها
           شهر زاد و عقيلة و ألف ليلة و طباخة بريمو
          و نظم أغانى أفلام ... سلّامة.... عنتر و عبلة ... رابحة
و شارك فى نظم أغانى أفلام .. يحيا الحب ..فاطمة .. آمنت بالله .. انتصار الشباب ... تعال سلم ... عاوزه اتجوز ..آخر كدبة  ... و غيرها
الرصيد الإذاعى / ملحمة الظاهر بيبرس / ملحمة محمد على / مدينة
                    الملاهى / الفوازير / المسحراتى
دراسته / الكُتاب ثم مدرسة الرشاد ثم النصيرية الابتدائية حتى الصف
           الثالث الابتدائى
وبعد وفاة الوالد اضطر للالتحاق كصبي في محل بقالة ثم عمل كمساعد
لزوج أمه فى صناعة (هوادج الجمال) وكانت مهنة صعبة

إلى أن ماتت أمه سنة 1910 م فعاش الصبى الصغير فى بيت عمته و كان يقول :ـ



ابتدأت حياة من الضياع، فقد انتقلت للإقامة مع أختي لأبي المتزوجة من خالي، وكانت تعد علي الأنفاس والحركات والسكنات وتضيق ذرعًا بأية خدمة تؤديها لي

تزوج بيرم التونسي فى سن السابعة عشرة ابنة عطار كبير و أنجبت له ابنه محمد وابنته نجية وساءت أمور تجارته فأغلق محل البقالة بسبب تعنت المجلس البلدى وتحصيلة للرسوم الباهظة و بدأت رحلة بيرم التونسي مع الإمتــــاع و المتعـــــة وقصيـــدته الشهيرة والعبقرية
 ( المجلس البلدى )

 
قد أوقعَ القلبَ في الأشجانِ  والكَمَدِ
                        هوى  حبيبٍ  يُسَمّى   المجلس  البلدي
أمشي   وأكتمُ   أنفاسي   مخافة َ أنْ
                        يعدّهـا  عاملٌ   للمجلسِ   البلـدي
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى
                        طيف  الخيالِ  خيال   المجلسِ   البلدي
يا  بائعَ   الفجلِ   بالمِلِّيـمِ   واحدةً
                        كم  للعيالِ  وكم   للمجلسِ   البلدي
و تتوفى زوجته تاركة له طفلاً و طفلة أقل من 6 سنوات يحتار فى التعامل معهما فيتزوج بعد 17 يوماً من وفاة زوجتة الأولى..


اتجه بيرم للزجل ليستطيع أن يصل بكلامه و أفكاره إلى السواد الأعظم من العامة ليعبر عن همومهم وآلامهم و أحلامهم و بدأ رحلة الدفاع عن المظلومين و المطحونين فحاول أن يصدر جريدة أومجلة فرفضت السلطات ذلك فأصدر فى4 مايو 1919م مطبوعة أسماها ( المسلة لا هى جريدة و لا مجلة ) و ذلك تحايلاً على السلطات الظالمة آنذاك و بعد 13 عدداً تم إغلاقها و مصادرتها فأصدر مطبوعة أخرى أسماها ( الخازوق) لم يصدر منها إلا عدد واحد صودرت و تم نفى بيرم التونسي .... و بدأت رحلة المعاناة الكبرى.
و كان مما نشر فى هذا العدد الأخير قصائد تتعرض للملك فؤاد شخصياً و لابنته الأميرة فايقة ...

ولما عدمنـــا بمصـر الملـــــوك
جابـــوك الانجليز يافؤاد قعّدوك
تمثل على العرش دور الملــوك
وفين يلقــوا مجرم نظيرك دون



و كتب يقول :

البنت ماشــية من زمــــــان تتمخطـــــر
 وال
غفلة زارعة فى الديوان قرع أخضر

تم نفى بيرم التونسي فى يوم عيد الأضحى و يقول فى ذلك :ـ

يوم الدبايـــح كان ... آخـــر مواعيــــدك
وقفت له فرحـان ... أنصب رايات عيدك
وأفرش لك الريحان ... واسمع زغاريدك
زعق غراب البيـــن ... فصّلت أكفـــاني


خيبة أمـــل ومــــرام ... واعـــــر ومتعسّر
يا ريته كان في منام ... يصبـــــح ويتفسّر
أو حكم بالإعـــــــدام ... ع الناس بيتسطّر
ماكان تشوف العين ... حالي اللي بكّاني


و  يرتحل من تونس لفرنسا لمحاولة دخول مصر و فشل وأعمال شاقة فى مرسيليا بفرنسا لسوريا إلا أن  بيرم التونسي من منفاه لم ينقطع عن مراسلة  الصحف و المجلات مواصلاً حملته ضد الفساد و الظلم


ع السين يا مصر مشيت ... إيّــــاك يسلّينـــي
عليــــــه عب
ـــد جولييـت ... تركي على صيني
يا مـــــا لقيــــت ورأيــت ... جمـــــال ينسّيـني
واتفكّـــــر الهرميـــــــــن ... تجري الدموع تاني





و دعونـــا نتجول قليلاً فيما كتبه يرم التونسي فى منفاه ....

قالــــــــوا اللى يشرب من نيلك ...... لابـــــــد يرجع و يجيلك
و انا اللى عطشان فى سبيلك.......الدنيا ايه اللى جرى لها

لا سطل خــــــــروب يسعفنى........ و لا ابن نكتـــه يكيفنى
ما يقصف العمـــــــــــر و يفنى..........غير الخلايــــق بعبلـها


و يقول
 

غلبت اقطـــــع تذاكــــر
وشبعت يارب غربـــــة
بين الشطوط والبواخر
ومن بلادنا لأوروبــــا
و يقول

حاتجــــن ياريت يا اخونـــا مارحتش لنــدن و لا باريز

دى بلاد تمدين ونضافة و ذوق و لطافة و حاجة تغيظ



و يقول :

الأوله آه ... و التانية آه ...و التالتة آه
الأوله مصـــر .. قالــوا تونسي و نفـونى  ... جزاة الخير و إحسانى
و التانية تونس ... و فيها الأهل جحدونى ...وحتى الغير ما صافانى
و التالته باريس .. وف باريس جهـلـونى ...و انا موليير فى زمانى


ويقول :

يا اسكندريـــة ...ياللى زاينة البحر الابيض
يا نور عينية... ع الشباب و عليكى يعوض
كتمت نـــــارى ... من نهار البين فى ضلوعى
و فضلت أدارى ... عن عيـون الخلق دموعى
رأيت مــوانى ... عن يمين ملكك و شمالك
ما شفت تانى ... فيه أثر من بعض جمالك


و يقول :

أرض الحبايب بعيـــدة ... يـــا لهفى ع الحبـــــايــب
قالوا المحطة الجديــدة .... حــررعليـــها العقـــارب
تحظى بمصر السعيدة .... عندك فى أرض المغارب


و يقول :

إن كان ع السجن دخلنا  .... و ان كـــان ع الملح أكلنا
و الصوم نحلناه و نحلنا .... خللى اللى فاضل لرجالها



و غيره الكثير و الكثير من الأزجال التى تفيض شوقاً و اشتياقاً

و فى إحدى السفريات و هو منتقل من سوريا إلى جنوب إفريقيا وقفت السفينة فى بورسعيد و ساعده أحد ( البمبوطية ) هناك لدخول مصر و يقول بيرم التونسي :

فى بور سعيد السفينة ....وقفت تفرغ وتملا
و البياعين حوطونا ..... بكارت بوستال وعمله
و بوليس المدينة .... ماتزوغش من جنبة نمله
يا بور سعيد و الله حسره ... و لسع يا اسكندرية
هتف لى هاتف و قال لى ... إنزل و من غير عزومه
انزل ده ساعة تجلى .... فيها الشياطين فى نومه
انزل ده ربك تمللى .... فوقك وفوق الحكومه
نطيت فى ستر المهيمن ... للبر يا حكمدارية

و استطاع أن يصل إلى القاهرة و هناك نزل فى لوكاندة الحاج سالم فكتب يقول :

نزلت فى مصر مستخفى فقير وأديب
دخلت لوكان
ـــدة مفتــــوحة لكل غريب
تعلق الحـــاج سالم نعمـــة الله حبيب
راجــــل معـــلم مكمل تربيــــة كتاتي
ب

سعى أصدقاء بيرم وعلى رأسهم الرائع/ كامل الشناوى لاستصدار عفو ملكى و نصحوه بنظم زجل جديد يعيد فيه الاعتبار للأسرة الحاكمة وكان بيرم قد هدته الغربة و سنوات النفى فاضطر للنزول على رغبة أصدقائه أن يكتب مدحاً فى الملك فاروق والأسرة العلوية كتب فيه:-


يا فرحتى يا هنايا .... رجعت فى عيد جلوسه
وكل قصدى و منايا ... أفرش له خدى يدوسه
و أخد تراب السرايا ... من تحت رجله أبوسه
بس الحكمدار و جيشه ... داير يفتش عليه


و يبدو واضحاً أثر النفى و التشرد على بيرم فى هذه الأبيات ليستطيع أن يحصل على العفو الملكى بين أحضان بلده و أولاده و أحفاده ...
إلا أن ثورة يوليو تقوم فى العام التالى و يشعر بيرم أن البلد تعود لأصحابها وأصبح وضعه السياسي و هو الذى حارب الفساد طول سنين عمره و ها هو الآن يمدح الملك  فكتب قصيدته الرائعة :ـ


مرمر زمــــانى يا زمـــــانى مرمر
ياللى سمعتم فى الإذاعــــة صوتى
دى مسأله فيها حيـــاتى وموتــــى
مطيبـــــاتى كنت و لا حانــــــــوتى
فى الفرح و الأحــزان باقوم متأجر


و فى ديسمبر 1960 م و بمناسبة عيد العلم يتم تكريم بيرم التونسي ومنحه وسام العلوم و الفنون ليرحل بعدها بأيام فى الخامس من يناير 1961م  متأثراً بداء الربو تاركاً وراءه تراثاً شعرياً و زجلياً خالداً و سيرة حافلة بالكفاح و التضحية فى سبيل الكلمة الحرة الصادقة و الجريئة.

-----------------------------------------
(**) ألقيت هذه المحاضرة بنادي أدب قصر ثقافة القباري يوم الخميس 13 أغسطس 2015

خالد هلال

الخميس، 30 أبريل 2015

مشكلة الإغراق في المجاز


مشكلة الإغراق في المجاز 


بقلم / أحمد حنفي


يمنحنا المجاز المفرط دائماً تجاعيد على وجه القصيدة وبالتالي فهو سلاح ذو حدين إما يغمرك بنشوة النص وإما يخرجك خارج دائرته وبالتالي فقدت القصيدة دورها وتحولت إلى ظاهرة لغوية - بلاغية ..وتحولت القصيدة من دورها كمرسلة لن تتحقق إلا في ذهن المتلقي إلى شفرةٍ يجتذبها التأويل إلى أقرب حالة نفسية للمتلقي وهي سمات القصيدة الشخصانية التي لا تتحقق بالكامل إلا لدى كاتبها فهو وحده من يمتلك شفرتها ..ليس معنى ذلك أن القصيدة المفتوحة على مصراعيها للمتلقي قصيدة جيدة .. بل اعتبرها بودلير من سمات الشعر الزائف كونها تفرط في التعبير عن المعنى ورأى أن الشعر لابد وأن يعرض من خلال صورة مبرقعة (أي: من خلف حجابٍ شفيف)يتبقى لدى الشاعر حساسيته ومقدرته في استخدام المجاز لصالح الفن وانتصاراً له وليس من أجل الانتصار للتفرد والتمرد بآن ..وعي الشاعر هو من ينبئ بشاعر يعيش وسيظل وآخر يموت بعد قصيدته بثوانٍ قلائل...

30 إبريل 2015

الإسكندرية

الأحد، 19 أبريل 2015

والقرنفُلِ إذا هوى

والقرنفُلِ إذا هوى


شعر / أحمد حنفي



(أ)
أحملُ نبضتينِ من دماءٍ
وأنزفُ بعيداً
خلف صحراءٍ ..
تنمو على جانبي النهرِ
أُفرِّغُ قلبي ..
وأعودُ طيفاً يحومُ
أصقلُ نصلاً جديداً
أطعنني
فأنزفُ حروفاً تتشكَّلُ ..
وبعضَ قصيدة

(ب)
أرسمُ بالنصلِ على جدارِ القلبِ ..
بيتاً
تسكنه الملائكةُ
وعلى سبيلِ الاحترازِ ..،
ألقيتُ شِفرةَ مفاتيحِهِ بأشعاري ؛
فالملائكةُ لا تقرأُ الشعرَ
سأعلِّمهم كيف يكتبونه في المستقبلِ
وكيف يستغفرون به من اللا ذنبِ
وحرصتُ أن يكونَ بلا نوافذ ..
غير التي تطعنُ الصمتَ ؛
لأنني علمتُ أنَّ الملائكةَ ..
لا تُجالس الشعراء

(ج)
يحدثُ في تلك الصحراءِ البعيدةِ ..
أنَّ زهرةً ..
بدت مرشوقةً في جبينها
بعد يومين أنبتت ساقينِ عاريتينِ
وراحت تطفقُ عليهما من المجازِ إزاراً
وأخرجت نهدين مكتملي الاستدارةِ
وخصراً .. ينبضُ بالتَّمحُّنِ
تجلسُ في الليالي القمريةِ
مُرخيةً جدائلَها على صدرها
تترنَّمُ بصوتها / السحرِ
تُصوِّبُ في عينيّ حلمتيها المنتصبتينِ
تُشهِّيني ..
بشهدها المُسالِ على إزارها
إنها تتخلَّلني تماماً
عند الفجرِ ..
نستبقُ إلى النهرِ
لترتدي مجازَها الشهيَّ ..
ونبضتينِ من دمي

(د)
كلما سطعَ في السَّماءِ نجمٌ ..
هوت إلى الأرضِ قرنفلةٌ
وكحبَّتينِ من التَّوجُّسِ
أحملُ الطريقَ على كتفي؛
فالقرنفلُ لا يرتدي حذاءً ضدَّ المطرِ
ولا تطربُهُ نغماتُ المرجانِ اللاذعةُ
لطفاً أيُّها المرجانُ ..
دعني أتذوَّقُ حبَّتينِ منهُ ..
قبلَ أن تدهمَهُ بموسيقاكَ التي لم تُلحَّن بعد ..

(هـ)
قد أضطرُّ إلى إغلاقِ النَّافذةِ الآنَ
مُتَّكئاً على صمتي ..
اقرأُ لشاعرٍ .،
انداحَ على صدرِ قصيدةٍ
وتسلَّلَ عبرَ لُعابِ زهرتهِ ..
  كوميضٍ
أستطيعُ أن أراه الآنَ ..
منتحراً
بين دفتيِّ كتابٍ ..
لُطِّخت أوراقُهُ بالقرنفُلِ ..
بعد أن كتبَ قصيدتَهُ ..
(والقرنفلِ إذا هوى)

(و)
صوتُها المألوفُ كضجيجِ المقهى
ربما كصوتِ الترامِ
لقاطنِ الشُّرفةِ المطلَّةِ على الميدانِ
صارَ لا يرسمُ خارطةً للنَّبضِ
ولا يحملُ منعتقاً للبوحِ
سوى زهرة ..
غادرها الذهولُ ..
حينَ نبتت عاريةً في تلك الصحراءِ البعيدةِ
لم أكن أعلمُ أنَّها تنتمي ..
لتلك التي يسمونها ..
                     القرنفُل.


                                                      7 إبريل 2015

الثلاثاء، 7 أبريل 2015

نم صديقي

نم صديقي 



مهداه لروح الصديق الشاعر / أحمد الفلو



شعر / أحمد حنفي

الشاعر الراحل / أحمد الفلو

نم صديقي ..

عند موج البحرِ

أودع نبضةً من فجرك الضافي

و سلِّم ..

عندما ينسلُّ خيطُ الليلِ من قلب الفتى

يا للفتى ..

قد أرَّقتهُ النورساتُ

بِغزلهنَّ شِباكَ بوحٍ للمدى

نمْ 

..
ثُمَّ قَلِّبْ جفنكَ المَقذيَّ بالبحرِ ..

ترى الموجَ حصاناً من حنينْ

عندما كنَّا على مقهى ..،

تُفجِّرُ ضحكةً من صدرك الرقراقِ ..

يرتقها الأنينْ

كنتُ أشعرُ ..

أنَّ لونَ الأرضِ يبهتُ

أنَّ وقتاً ..

كان يمنحُكَ الكِساءَ الموسميَّ ..

قد تعثَّرَ ..

و هْو يعبرُ ضِفَّةَ الروحِ

و أنَّ الماءَ في ثورتهِ ..

قد أبدلَ القلبَ ذهولاً

عندما ضَلَّ الطَّريقَ النَّرجِسِيَّ

أنَّ شِعراً يتدلَّى من جَبينِكَ ..

نازفاً ألماً على وجه السطورِ

سوف يندملُ قريباً

يهجرُ القلبَ الشَّجيَّ

نمْ صديقي ..

عند شمسٍ ( نَيِّره ) *

( تنسجُ العمرَ قميصاً لأبيها ) **

يرتديهِ ..

حينَ تنفَضُّ المساءاتُ و ترحلُ ..

للبلادِ المقفره


----------------------------

*( نيرة ) اسم بنت الشاعر الراحل / أحمد الفلو

** السطر من قصيدة ( نيرتي ) للشاعر الراحل / أحمد الفلو ، ديوان ( وهرات ) ص 60

الثلاثاء، 24 مارس 2015

لماذا لا أقرأ لحسن الجندي

لماذا لا أقرأ لحسن الجندي؟


بقلم / أحمد حنفي


منذُ فترةٍ ليست بالبعيدة طالعتنا دور النشر المختلفة بسيلٍ من الروايات لكتَّابٍ شبابٍ انقسم حولهم المتلقون ما بين مؤيدٍ مثَّلهم جيلٌ شابٌ لمّا يزل يتشكل معرفياً ووجدانياً، خبرته بالقراءةِ لم تتخطَ البدايات ورؤيته قاصرة لا تقدم حكماً نطمئن إليه، ومعارضٍ مثَّلهم الكتّابُ والمثقفون والنقاد.

والحقُّ أقول لكم أنني لم أكن من بين صفوف المؤيدين ولم أنتظم بسلك الرافضين، بل انتحيتُ جانباً أطالع روايات وقصص ومسرحيات من هم أمثال يوسف إدريس وإبراهيم أصلان وسعد الدين وهبة وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ والمنسي قنديل ورضا إمام وعبد الحكيم قاسم وغيرهم العديد والعديد، أمارسُ تلك القراءات وأنا سعيدٌ تماماً بما أفعل, كما هو حالي تماماً مع الشعر والنقد واللغة، وأنا من الذين يؤمنون بالتراسل بين الفنون فأجدُ صورةً لغويةً وسرديةً رائعة لدى نجيب محفوظ في ثلاثيته يصفُ فيها (أمينة) زوج (السيد أحمد عبد الجواد) أقفُ أمامها مندهشاً فاغرَ الفمِ لما له من ملكةٍ على الوصف والسرد بلغةٍ راقيةٍ لأخرج من بعدها صارخاً في وجه صنَّاع الفيلم ونجيب نفسه قائلاً: (خدعونا يا أمينة أيتها الجميلة البضة)

وكنتُ كل فترةٍ أتسائلُ ماذا قدَّم هؤلاء الكتّاب الشباب؟ ماذا أضافوا؟ أتسائلُ عن رؤيتهم و زوايا تناولهم لموضوعاتهم؟ وعن حظهم من فنيات السرد والقص؟ وعن لغتهم المنوط بها توصيل رسالتهم؟ أتابعُ من بعيدٍ وأتوخى ألا أنزلق في سيلٍ قد يعرقل متعتي, أعترفُ أنني كنتُ مخطئاً، ولكن لماذا أنا مخطئ؟!

بدأتُ الولوج لهذا العالم من الكتابات الشابة على يد صديقي (محمد عبد اللطيف) الذي كان –ولما يزل- معجباً بتلك الكتابات خاصة تامر إبراهيم، قرأت له بضع قصصٍ من مجموعته (حكايات الموتى) إنها تحققُ متعةً لحظيةً ولا تناقشُ شيئاً، منزوعة الرؤية واللغة والأسلوب، تماماً كالجبن منزوع الدسم، وأكيدٌ أننا لا نود أن نمارس ذلك (الرجيم) القاسي حال ما يتعلق الأمر بغذاء العقل والروح، مما دفعني لعدم الاقتراب لرواياته مثل (صانع الظلام) و(الليلة الثالثة والعشرون) فضلاً عن أنه لا يقدم رعباً أصلاً كما يدعي وكما يظن جمهوره الغض البدائي تجربةً ووعياً.

اتخذتُ قراراً واخترتُ الرجوع إلى ما كنت عليه، بيد أن صديقي (عبد اللطيف) راح يصف لي مدى ما يتسمُ به (حسن الجندي) من روعةٍ في الأسلوبِ، وانسيابيةٍ في السردِ، وغرابةٍ في الطرح، وتوقفتُ عند مصطلح الغرابة لأتذكر كتاب الدكتور شاكر عبد الحميد –وزير الثقافة الأسبق-(الغرابة – المفهوم وتجلياته في الأدب) وحدَّثتُ نفسي أن حكمي على جيلٍ كامل من خلالِ أحد عناصره لابد وأن يكون خاطئاً؛ إذ لا منهجية في ذلك الحكم.
حتى مررنا بشارع النبي دانيال أقدم شوارع الإسكندرية على الإطلاق نطالع عناوين الكتب أنا وصديقي المفضل (عبد اللطيف) وتوقفنا عند أحد أكشاك البيع لصديق لنا اسمه (أسامة) اعتادَ أن يمنحنا خصماً خاصاً للمعرفة القديمة – أصيل (أسامة)!




انتفض (عبد اللطيف) واشترى ثلاثية (حسن الجندي) المسماه (مخطوطة ابن إسحاق) مدينة الموتى – المرتد – العائد؛ سيما بعد الإقبال التاريخي إن شئت، أو الخرافي إن أحببت أن تنعته على الجزء الثالث بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورة 2015 و بعد أيامٍ قلائل جاءني (عبد اللطيف) وقد أنهى قراءة الجزء الأول (مدينة الموتى) مما أثار إعجابي خاصة وأنني كنت قد أعطيته مجموعة (أرني الله) لتوفيق الحكيم من شهرٍ تقريباً ولم يرجعها حتى الآن!!

دفعني الفضول لأتناول منه (مدينة الموتى)، وبدأت أقرأها آملاً أن يغير حسن الجندي من قناعاتي السيئة عن جيلٍ شوَّهه في عينيّ تامر إبراهيم، فكانت انفعالاتي مزيجاً من الضحك والحسرة بآن وأنا أطالع مقدمة ما يسميه رواية – على سبيل المجاز – لم أقرأ سواها وكفى بقطرةٍ من الإناء لتفضحَ ما فيه.
وإليكم المقدمة كما وردت بالطبعة السابعة! عن دار اكتب ...

ظل الشاب مغمض العينين وهو يرتجف ومن جسده تخرج اهتزازات خفيفة دلالة على الخوف , أما من خلفه فقد تحرك ذلك الكائن الغريب وهو يتجه ناحيته.
كان الكائن متوسط الطول لا يرتدي شيئاً تقريباً , ولكن الغريب أن جلده كان مغطى بالكامل بالشعيرات الطويلة ، وفي أعلى رأسه وبين الشعيرات كان هناك قرنان صغيران يخرجان منه.
أما الشاب فكان يرتدي ملابس غريبة بعض الشيء لا تمت لهذا العصر.

ملامح ذلك الشاب غريبة ، تعطيك انطباعاً من أول مرة أنها ليست ملامح عربية , ربما كانت في وجهه لمحة من الوسامة لا تخفى على أحد، بالرغم من حدة وجهه والتصاق حاجبيه.

مشهد غريب جداً فالشاب يقف في غرفة خالية تماماً وهناك شمعة صغيرة بجانبه على الأرض، أما الشاب نفسه فقد كان مغمض العينين وقد أعطى ظهره للكائن , فهو لم ينسَ التحذير الذي سمعه قبل أن يحضر الكائن ، يجب عليه أن يغمض عينيه ولا ينظر خلفه أبداً في فترة حضور ذلك الكائن
كان الحوار يجري بينهم بلغة غريبة تشبه العربية ، أعتقد أنها الفارسية.

-  ماذا تريد أيها الطفل ؟

انطلقت تلك العبارة من الكائن ،  انطلقت بنبرات خافتة جعلت الخوف يسري في جسد الشاب الذي رد بنبرات مرتعشة :

-  أريد القوة , القوة المطلقة والأمان باقي حياتي.

أقترب الكائن من الشاب أكثر حتى أصبح على مسافة سنتيمترات منه ، ثم اقترب برأسه من أذنه وقال :
- إذا أردت القوة سنعطيك بعضها ، ولكن إذا أردت السيطرة فيجب عليك تقديم قرابين من البشر!

قال الشاب وهو يرتجف :
-  أوافق .

فقال الكائن :

-  إذن أدر وجهك لي ولا تفتح عينيك ،  ونفذ كل ما أقوله
لك.

***

والآن لماذا لا و لن أقرأ لحسن الجندي ...

لأنه لا يعرف أن من يرتجف ترادف معنى الاهتزازات الخفيفة الذي أردفه خلفها، ولأنه لا يعرف كيف يسرد الحالة الشعورية ويكتفي بالحل الأسهل البدائي ويصرح بكل سذاجة (دلالة على الخوف)، ولأنه لا يعرف أن الشعيرات ليست طويلة فهي تصغير شعرة، ولأنه لا يعرف أن التصاق الحاجبين دلالة على الوسامة تضيف لها ولا تأخذ منها، ولأنه لا يعرف أن من يهم بتحضير الجان لا يحدثه من خلف أذنيه لأنه ببساطةٍ يقف داخل دائرةٍ يسمونها دائرة التحصين، ولأنه لا يعرف أن الجان مخلوقٌ لا يوافق بسهولةٍ على السخرة مثله مثل غيره من الكائنات، ولأنه لا يعرف أن باللغة ما يسمى بالضمائر والتي من شأنها أن تمنع ذلك التكرار للفظة (الكائن) التي تكررت بكثافةٍ في المقطع الذي أوله (مشهد غريب جدا)،و لأنه لا يعرف أنه لا يوجد شبه بين الفارسية والعربية حيث تنتمي الأولى لعائلة اللغات الهند – أوروبية بينما تنحدر الثانية من اللغة الأم المفقودة والتي يشترك معها الآرامية والعبرية والحبشية، ولأنه لا يعرف كيف يصوغ جملته، ولأنه لا يعرف كيف يقيم حواراً.

فكل ما سبق يجعلني أقول باطمئنانٍ تام .. أنا لا أقرأ لحسن الجندي وتامر إبراهيم.


أحمد حنفي

الإسكندرية - 24 مارس 2015