الخميس، 26 فبراير 2015

وجهان

وجهان


شعر / أحمد حنفي

وجه 1

كانّ يمشي مُطرقاً للدَّربِ

تحدوه انكفاءاتُ الأزقَّهْ

تاركاً ساقاً على أوَّلِ نعيٍ

وهْي تكوي وردةً .،

أسقطها ماءُ المطرْ

داهمَ الحزنُ سريعاً وجهَهُ

لم يرَ شارةَ الخطرْ

فتماهت بسمةٌ في شفتيهِ ..،

بتجاعيدِ المشقَّهْ


وجه 2

أدركَ الآنَ ..

بأنَّ الماءَ لا ينضحُ ثوباً .؛

لم تزلْ تعلوهُ أدرانُ القدرْ

لملمَ الثوبَ ..

و ولَّى

نازفاً تيهاً جديدا ..

وسؤالاً سرمديّاً

كيفَ أصبحتُ وحيدا ..

أرشفُ القهوةَ في العزاءِ ..،

مُثخناً ..

بطعنةِ الضَّجرْ ؟!


الإسكندرية

31 يناير 2005


الثلاثاء، 24 فبراير 2015

احتمالات البقاء حيّاً

احتمالات البقاء حيّاً


(1)


شعر / أحمد حنفي


لابدَّ من التنفسِ تحت الحطام

إذا ما فاجأتكَ نفسُك بزلزالٍ

حتماً ..

لا يوجد هناك ماء

حتى الطعام ..

سيبدو لحظتها غير ضروريّ

فقط .. عليكَ أن تحافظَ على صدركَ

صاعداً .. هابطاً

لكنَّ كل ما أخشاه ،

أن تتحجرَ رئتيّ

فغبار النَّــفْسِ .. كثيفٌ ..

و ثقيلٌ ..

كل الأمورِ تُنبئُ بكارثةٍ

تُــرى ..

لو قلتُ ..

"إلهي .. إلهي ..

لماذا أدخلتني في تجربة ؟"

هل سيمنحني وقتها ..

رئةً ثالثة ؟!

الاثنين، 23 فبراير 2015

صراع (الذات / المجتمع) في نص "تداعي" للشاعر / أحمد كامل

صراع (الذات / المجتمع) في نص "تداعي" للشاعر / أحمد كامل


(دراسة تحليلية)


بقلم / أحمد حنفي


1- تمهيد:

عرفناه شاعراً يملأ الدنيا صخباً و اعتراضاً .. مُعتزاً بما يكتبُ .. حاداً في خلافاته .. سريع الانفعال .. و كذا شعره مثيرٌ للقضايا و الموضوعات التي يعالجها برؤيةٍ خاصةٍ تُميزه و بنكهةٍ مُتفرِّدةٍ و إن تشابهت تجربتُه مع أصواتٍ مُجايلةٍ و سابقةٍ له في بعضِ مواضعها.

إنه الشاعر السكندري "أحمد كامل" ، كثيراً ما استوقفني شعره و جذبتني تجربته و إلحاحه على أن يقول شيئاً مغايراً عن أقرانِه من جيل التسعينات بالإسكندرية ، ليس على مستوى قصيدة العامية فحسب و لكن طال ذلك قصيدة الفصحى أيضاً ، و بحق أسميتُه "مايسترو جيل التسعينات بالإسكندرية" و هي التسمية التي لا تروق البعض و يراها البعض الآخر مدحاً بما ليس فيه بينما وقفت فئةٌ ثالثةٌ تراه ليس أهلاً لذاك ، دون حتى النظر في الأسباب التي دعتني لإطلاقها عليه في مقالٍ سابق.

و لربما كان الردُّ العمليُّ هو خير من ينوبُ و يُخبرُ عن خصائص فنِّه و دقائق صنعتِه و بعضٍ من أسرارِ الشعر لديه ، إنَّ التحليلَ الدقيقَ لنصٍّ من نصوصه ألن يكون كافياً للإنباءِ عما يحويه الإناء ؟!

و الواقع إنَّ "لأحمد كامل" نصوصاً كثيرةً تستحقُّ الوقوفُ أمامها مليّاً تحليلاً و تأويلاً ، لكنَّ النَّصَّ الذي سأحدثكم عنه اليوم أعتبره واسطةَ العقدِ في تجربته التي مازالت تتشكَّلُ حتى اليوم .. نصٌّ لا أعتقدُ أنَّهُ ينبغي أن يمرَّ مرورَ الكرامِ أمام القارئِ الواعي ؛ ذلك أنَّهُ ليس نصّاً عاديّاً ، بل أعتبره ظاهرةً شعريَّةً نادرةَ الحدوثِ في حياةِ أيِّ شاعرٍ ، هذا بالرغم من أنَّ النَّصَّ يحتوي على بعض مواطن الضَّعفِ و التي أظهرها التحليلُ النَّصِّيُّ .. و لكن مَن منَّا ليس لديه مثل تلك المواطن أو غيرها ؛ فالكمال عزَّ أن يُلحق.

سأترك الحديث عن العنوان لموطنه الذي اخترتُ في تلك الدراسةِ لأسبابٍ سأبيَّنُها في حينها .. و إليكم النص ..


 قصيدة "تداعي" للشاعر / أحمد كامل:
الشاعر / أحمد كامل

منتهي الحكمة
 لما تعرف
 إن امتلاك اللحظة .. فرصة
 فتخطفها

***

 م . ص . ر
 تلك أحرف ،
 قاسمات عمرك طرق
 عمرين سنينك
 و الإختيار واحد
 أحاسيس كتيرة بتدخلك
 قاسمة قلبك ضفتين
 علي نهر بيصب فـ فراغ
 و متعلق .. ،
 م بين دخول مسموح
 جوة فلك النجاة
 و نارجسية حتنكسر
 وقت إتيان الطوفان
 تعاند ..
حـ ..
تـ ..
غـ ..
 ر  ..
ق .

***

 صمتاً .. ،
 يا كل الأفواه المغروزة بشوك الحكمة / الضعف
 ماترسموش علي وشوشكوا ابتسامة فوز ،
 و تدّاروا فـ الحكمة
 أنا صمتي أقوي منّكوا
 لو تعرفوا معني السكات
 و الفرق بينه و بين كلامكوا / الفراغ
 خوفكم العريان علي ضهر الشوارع
 اللي مابترحمش خوف
 لو تعرفوا
 معني اتحاد دمي ،
 بكل تفاصيل السكات
 حتعرفوا .. ،
 إزاي بتتشّكل معانيكوا / الجمود
 و ازاي – برغم الصمت – قادر
 إني أنحت .. ،
 علي جبينكوا الحياة

***

 أديك .. ،
 سلّمت نفسك
 لفلسفات الوهم
 وليّت وجهك
 شطر آخر سكة مفتوحة لعينيك
 فـ انفرط .. ،
 عقد الخطاوي .. جريت
 ضليت
 و انت اللي كنت الطرق
 تنفتح سماوات
 لحظة مرور الضي .. ،
 بين عينك
 دلوقتي .. فينك
 حلمك جنوبي
 و الريح للشمال رايحة
 اللحظة صعبة
 و الإختيار فـ إيديك
 يا تمد روحك .. ،
 شفرة تواصل للوجود
 يا تسبها تغرق
 مع أمل ميت

***

 يا أيها الوتر المدلّي
 من سماء قد تهاوت
 فوق أرض ما لها
 فوق الخرائط .. ،
 من أثر
 ليس في الموت اختيار

 شمالية .. غربية
 تلك الرياح و لن تذر
 لا بيت .. ،
 فوق ضفاف ذاك النهر
 لا طفل .. ،
 فوق ذارع تلك الأم
 لا وطن
 لا شيء .. ،
 غير ذاك المنحدر
 كل الوجوه مغبّرة
 كل الحناجر .. ،
 سوف تصمت تاركة
 لصرير تلك الريح
 ما تبّقي
 أنا ..
 أنتم ..
 نحن ..
 ليت في الموت اختيار

***

 خارج .. ،
 من اللعبة الوحيد / محتار
 لا انا خسران
 و لا حاسس بطعم الفوز


2 – التحليل النصِّي:


(2-1)


كما هو بادٍ لكم أنَّ النَّصَّ يمكنُ أن نُقسِّمه إلى مدخلٍ و أربعة مقاطع و خروج ، و أنَّ الشاعرَ قد عمد إلى ذلك المزج ببين اللغة و اللهجة ، الأمر الذي دفعه إلى أن يكون مقطعه الرابع مكتوباً بلغةٍ عربيةٍ تبتعدُ عن اللهجةِ تماماً في ظاهرةٍ وقفتُ على أسبابها و دوافعها و أثرها على النَّصِّ و لعلَّكم لاحظتم أيضاً مدى تنوُّع أسلوبه بين التقريرِ و الإيحاءِ مُستخدماً في ذلك الأخيرِ التصويرَ حيناً و الصَّدمةَ اللغويَّةَ حيناً آخر.

و لتكن بدايتنا في ذلك التحليل النَّصِّي بمدخل القصيدة ، يبدأُ الشَّاعرُ نصَّه بما يمكن تسميته تعريفاً للحكمةِ أو خصيصةٍ من خصائصها – و هي خصيصةٌ سلبيَّةٌ – تدعو إلى امتلاكِ اللحظةِ و قنصِها ، فهى فرصة و عليك خطفها ! و بالتالي فقد تحوَّلت الحكمة عند "أحمد كامل" إلى دالةٍ سالبةٍ و كأنِّه تدشينٌ لمعنى جديدٍ لها يعتمدُ على الانتهازيَّةِ ، و قد كان ذلك النَّقلُ الدلاليُّ بمثابةِ المقدمةِ المنطقيةِ و الآفةِ المجتمعيةِ التي ستظلُّ معنا على مدارِ النَّصِّ ، و هى الأزمةُ التي أوقعت الذاتَ في صراعها المحمومِ مع مجتمعها في محاولةٍ منها لتحرير ذلك المجتمع من آفةٍ ستقضي عليه حتماً.

كان الشَّاعرُ دقيقاً إلى حدٍّ بعيدٍ في اختيار ألفاظه ، فكون تلك الفرصة لا تلوح إلا في "لحظةٍ" و هي الفترة الزمنية متناهية الصغر فيظهر بذلك المجتمعَ في هيئةِ المترصِّدِ دوماً و القانصِ أبداً هابطاً بأفرادِهِ إلى درجةٍ أقل من الإنسانية ، درجةٍ متوحشةٍ مفترسةٍ .. ليس ذلك فحسب بل إنَّ ذلك المجتمع يرى في وحشيته تلك مفخرةً عظيمةً و أسلوبَ حياةٍ ؛ حيث قامت لفظة "منتهى" و التي وقعت مضافاً في تركيبها النحوي للفظة "الحكمة" لتكون الانتهازيةُ و القنصُ أسمى درجاتِ تلك الحكمةِ و غاية مرادها.

كما كان لدور ضمير المخاطب دوره الملغز في بدايةِ النَّص ، فلمن يوجه الشاعرُ حديثَهُ ؟ .. و ما مدى قناعته بذلك التعريف الجديد لتلك الحكمة ؟


(2-2)

يبدأ الشاعر مقطعه الأوَّل بثلاثةِ حروفٍ مقطَّعةٍ (م.ص.ر) شكَّلت ظاهرةً بلاغيَّةً مزدوجةً ؛ فهي مُشاكلة للأحرفِ المقطَّعةِ التي جاءت في فواتح بعض سور القرآنِ الكريمِ من جهةٍ و تناص مع الأسلوبِ القرآني من جهةٍ أُخرى فيما يمكن أن نُطلق عليها "مشاكلة تناصية".

و نتساءلُ .. لماذا أورد الشاعرُ كلمةَ "مصر" على هيئة حروفٍ مُقطَّعةٍ ؟ بالضرورة يُحيلنا ذلك إلى العودة لدرسِ الاسم لنرى كيف كانت العرب تراه و تستعمله ، و ليس هناك أروع مما أورده "القاضي عبد الجبار" في ذلك الباب ، يقول:

"اعلم أنَّ الاسمَ على ضربين : أحدهما لا يفيد في المسمى به ، و إنَّما يقومُ مقامَ الإشارة في وقوع التعريف به بما يفيده ، و هو الذي سميناه بأنَّه لقبٌ محضٌ ، و منه ما يُفيدُ في المسمى به جنساً أو صفةً .. و هو الذي يسميه شيوخنا صفات ، و لا يجعلون الفارق بين الاسم و الصفةِ ما يقوله أهل العربية في ذلك. و مثال اللقب المحضِ هو قولنا : "زيدٌ" و "عمرٌ" إلى ما شاكله.

و القول في أنَّ ذلك لا يُفيدُ بَيِّنٌ ؛ لأنه يقعُ موقعَ الإشارةِ ، فكما أنَّ الإشارةَ تُعرِّفُ و لا تُفيدُ في المشار إليه حالاً أو صفةً ، فكذلك ما أُقيمَ مقامها" [1]

فمصر إذن اسمٌ محضٌ يشيرُ و لا يفيدُ في المسمى به حالاً أو صفةً ، و هو الأمر الذي أكَّدت عليه الدراسات السيميوطيقية الحديثة ، يقول د. نصر حامد أبو زيد :
"إنَّ التصنيفَ السيميوطيقي للعلاماتِ اللغويةِ إلى علامات إشارية و علامات غير إشارية يمكن أن يضعَ الأسماء جنباً إلى جنبٍ في مرتبةٍ واحدةٍ مع أسماءِ الإشارةِ و ظرف الزمانِ و المكانِ بوصفهما جميعاً علاماتٍ إشاريَّةً " [2]

لكنَّ "أحمد كامل" حين بدأ مقطعه باسم "مصر" لم تكن أبداً علامةً إشاريةً فحسب بل تخطت ذلك الدور ؛ إذ أنها أفادت في المشار إليه (الوطن) حالاً حيث ذلك الوطن الممزق المتفرق و الذي تتناوله الأمراض الاجتماعية و من ضمنها تلك الحكمة الجديدة التي صدَّرَ بها نَصَّه.

و بالتالي فقد جعلَ الشاعرُ من كلمة (مصر) علامةً إشاريَّةً تُفيدُ و تعني حالاً في المشار إليه (التفريق / التمزق) فضلاً عن إفادتها حالاً في المخاطب (قاسمات عمرك طرق) فكانت هذه العلامات الإشارية الثلاث (م.ص.ر) بمثابة الرسالةِ التي أطلقها ليُعيدَ توظيفَ (المفردة / الوطن) توظيفاً يتجاوزُ دلالتَها الحقيقية إلى أخرى ذات أبعادٍ سيميوطيقية تشكَّلت استناداً على المشاكلةِ التَّناصيَّة مع النَّصِّ القرآني من جهةٍ ، و تفعيلاً لمبدأيِّ الإرادة الواعيةِ و الحريَّةِ غير الواعيةِ من جهةٍ أخرى ؛ حيثُ تجلَّت الإرادةُ الواعية للشاعرِ في الإلحاح على إظهار الوطن بالحالةِ التي يراها بشكلٍ غاية في الإيجاز و الوضوح بآن ، و كانت تلك المشاكلة التناصية بمثابةِ التجلي لمبدإ الحرية غير الواعيةِ كأسلوبٍ للتعبير ، و هما المبدآن اللازمان لأيِّ عمليَّةٍ إبداعيةٍ.

و لم يفت "أحمد كامل" أن يُشيرَ إلى موقعهِ من ذلك الوطن الممزق ، فهو بعيدٌ ينأى ..

"تلك أحرف"

فاسم الإشارة للبعيد (تلك) علاوةً على أنَّه استمرار لمشاكلته التناصية فقد حدَّد موقعَه لحظة القول ، و لأنَّ الوطنَ ممزَّقٌ فقد قام بدوره إلى تمزيقِ و تقسيم عمر ذلك المخاطب إلى طرق عِدَّةٍ ..

"قاسمات عمرك طرق"

و عليه أن يختار أحدها ليكملَ مسيرته ، و لكن لماذا "الاختيار واحد" ..؟!
ربما نشعر الآن أنَّ تعاقبَ النتائج قد أفقدنا المقدِّمات التي أفضت إلى ذلك الحال .. بل لعلنا الآن نشعرُ بأنَّنا أمام نصٍّ مُلغزٍ يُقدِّمُ شِفرةً لا سبيل إلى فكِّ طلاسمها .. و أنَّنا بإزاءِ لغةٍ جامدةٍ تتخلَّى عن روح الشعر و جمالياتِه ، لكنه سرعان ما يعاجلنا بصورةٍ ممتدةٍ ستُهيِّئُ لنا الدخولَ للنَّصِّ من جديدٍ على ضوئها ؛ بدءً من تلك الأحاسيس التي تقسمُ القلبَ إلى ضفتينِ و تنسالُ بينهما نهراً يصبُّ في فراغٍ ، ذلك النهرُ المعلَّقُ بين دخول مسموحٍ داخل فُلكِ نجاةٍ و بين نرجسيَّةٍ مصيرها الكسر و الانسحاق لحظة مجيء الطوفان ..
صورةٌ ممتدةٌ و طويلةٌ سبَّبتها أحاسيسُ غير معروفةٍ كماً و لا نوعاً و لا كُنهاً ، و نبوءةٌ بطوفانٍ له قدرة على كسرِ نرجسيَّةٍ تُمثِّلُ إحدى مخرجين لنهر الأحاسيس و مصبِّه الفراغ ، و هو مخرجٌ مهلكٌ على نقيض المخرج الآمن لفُلكٍ النَّجاة.

و لنا أن نقفَ أمام تلك الصورة الممتدةِ قليلاً ، و التي تُسلمنا بدورها إلى دورِ الخيالِ في تشكيلِ تلك الصورة ، ذلك الخيال المنطلقُ من الإرادةِ الواعيةِ الذي يذيبُ و يمحو و يحطِّمُ لكي يخلقَ من جديد أو على الأقل يسعى لإيجادِ الوحدةِ و الملائمةِ بين المتقابلاتِ ليصيرَ في جوهره حيوياً بينما الموضوعات التي يعمل عليها ثابتةً لا حياة فيها ، فهو يُعيدُ ترتيبَ مفرداتِ الظاهرة التي يعملُ عليها ، فيستبعدُ بعضَ عناصرها و يضيفُ إليها عناصرَ أخرى لم تكن موجودة فيها من قبل ، و هو بذلك مارسَ هدماً لكي يعيدَ البناءَ طبقاً لمنطقٍ إبداعيٍ آخرٍ لا طبقاً لقوانين الواقعِ التي استبعدها انطلاقاً من مبدإ العزل و الاختيار.

و على هذا فمهمة ذلك الخيال الأساسية هي أن يُضفي على اضطرابِ الحياةِ و تشتُّتها و ما تقدِّمه من تجربةٍ ناقصةٍ مجزأةٍ ، شكلاً موحداً ، يمنحها حيويةً تديمُ بقاءها و تأثيرَها ، إنه الخيال الذي تحدَّثَ عنه "كوليردج" و سمَّاه (الخيال الثانوي) – و هو اللازمُ للخلقِ و الإبداع – مناقضٌ للتَّوهُّمِ الذي لا يتجاوزُ القدرة على الجمعِ و التكديسِ و استنساخِ الواقعِ طبقاً لمنطقِ الواقع ذاته.

فإذا ما نظرنا إلى تلك الصورة و رأينا مفرداتٍ مثل (قلبك – نهر – فراغ – متعلق – دخول – نرجسية – الطوفان) وجدناها مفردات غير قابلة على الانتظام في سلكٍ واحدٍ ؛ إذ أنَّ ثمَّة علاقة بينهم منعدمة إلا علاقة التنافر و التباعد ، و ربما كان هناك علاقة بين كلمةِ (ضفتين) و كلمة (نهر) ، و علاقة أُخرى بين كلمة (نهر) و كلمة (فلك) ، هذه العلاقة إنما هي علاقة تجاور نشأت من التداعي المرتبط بالتذكر التلقائي ذلك أنَّ الخيالَ المبدعَ يعتمدُ على الذَّاكرة اعتماداً كُليّاً ، و تلك المفردات المتباعدةِ المتفرِّقةِ لم تنتظم في سلكٍ واحدٍ إلا من خلالِ اللغةِ الشعريَّةِ وحدها في هيئةِ صورةٍ ممتدَّةٍ شكَّلها الخيالُ الثانويُّ / الـمُنتج.

تلك الصورةُ الممتدةُ ألقت بظلالها على ما قبلها و مهَّدت لما بعدها ؛ فذلك (الآخر / المخاطب) أمامه إحدى طريقين ؛ طريقُ نجاةٍ و آخر على النقيضِ مُتمثِّلٌ في النرجسيةِ و إنكارِ كل ما هو غيري – طريق نفعي – مما يُفسِّرُ قوله:

"عمرين سنينك"

و هي إشارةٌ لتلك الازدواجيَّة و الصراع الذي يعيشه المخاطب أمام كلِّ إحساسٍ جديدٍ يمرقُ إلى قلبهِ ، و لا يخفى أنَّ طريقَ النرجسيةِ ينتمي إلى التعريف – السلبي – للحكمةِ الذي تصدَّر النَّص ؛ حيثُ أنَّ تحيُّنَ نهزِ الفرصِ ينتمي إلى ذلك الفكر إن لم يكن إحدى تنويعاته.

و بالرغمِ من أنَّ الآخر المخاطب أمامه إحدى طريقينِ في كلِّ مرَّةٍ إلا أنَّ (الاختيار واحد) ، فهو مدفوعٌ إلى ذلك الاختيار الجبري – إن جاز لنا التعبير – مما يجعلُ الصراعَ شديدَ التَّأزُّمِ ، و لا شكّ أنَّ تقدُّمَ جبرية الاختيار على الصورةِ الممتدَّةِ قد نسخَ حكمَ طريقِ النجاةِ و جعله معطَّلاً و جعلَ ذلك المخاطب مدفوعاً نحو تعلُّمِ الحكمةِ السلبيةِ التي تصدَّرت النَّص.

أمَّا عن أثرِ تلك الصورة الممتدَّةِ فيما بعدها فكان بمثابةِ التمهيدِ للهلاكِ الحتميِّ لذلك المخاطب إذا ما عاند القانونَ الجديدَ للحكمة ، يقول:

"تعاند ..
ح ..
ت ..
غ ..
ر ..
ق .."

ذلك الهلاك الذي اكتسب حتميِّة الوقوع نتيجة اللغة التقريرية المباشرة التي صاغ بها الشاعرُ جملته ، و هو هلاكٌ تدريجيٌ بطيء يتَّسمُ بأقصى أنواعِ التعذيبِ ، اكتسبَ ذلك من خلالِ التشكيلِ البصريِّ المقطَّعِ / التَّدريجي لكلمة (ح تغرق).

إننا بإزاء اختيارٍ جبريٍّ عليك أن تستسلمَ له ، مؤدَّاه في النهايةِ الهلاك المعنوي باستسلامك لحكمةٍ غير الحكمةِ التي عهدناها ، حكمة تتَّسمُ بالانتهازيةِ و النَّفعيَّةِ ، ترتدي معطفَ النرجسيَّةِ القبيحَ ، أو هلاكٍ حتميٍّ بطيءٍ يتَّشحُ بالعذابِ حال ما رفضتَ الانصياع ، الطريقانِ كلاهما واحدٌ و الهلاكانِ كلاهما انسحاقٌ للآخرِ المخاطبِ الذي ما أظنُّه إلا أن يكون معادلاً للذاتِ الشاعرة و ما تمرُّ به من صراعٍ بين مآلينِ قبيحينِ لا يتَّفقانِ مع تكوينها ، تلك الذِّاتُ التي تعتبرُ بدورها معادلاً لكلِّ مَن يرى الأمورَ من زاويتها.

و كان للصورةِ الشعريةِ الممتدَّةِ أثرها البيِّنُ في عرضِ ذلك الصراع بلغةٍ شاعرةٍ ذات حساسيَّةٍ شديدةٍ ، و إدراكٍ قويٍّ ، و حضورٍ طاغٍ ، فيما يُمكنُ أن نُطلقَ عليه الصورة الأنموذج ، ليست تلك المجلوبةُ لإضفاءِ قدرٍ من الجماليَّةِ على النَّصِّ فحسب و لكنها تلك الصورةُ القادرةُ على إحداثِ نوعٍ من التجانسِ بين المتفرِّقاتِ و المتباعداتِ المختلفةِ في جوهرها عن طريقِ الكشفِ عن جوانبِ ارتباطٍ غير ملموسةٍ ظاهرياً بينها لم يكن ليكشفَ عنها إلا من خلالِ الحدسِ الباطنيِّ للشاعرِ فيما يُعرفُ (بالاستبصارِ) ، ذلك الاستبصارُ الذي جعلَ مفرداتِ تلك الصورة تئوَّلُ إلى أبنيةٍ جديدةٍ لإنتاجِ عالمٍ جديدٍ لم يكن موجوداً قبلاً. [3]

إنَّها صورةٌ فريدةٌ بحقٍ تقعُ موقعاً وسطاً بين تقريرينِ (الاختيار واحد / تعاند ح تغرق) ساعدا على إبرازها جمالياً و ساعدت هي – أيّ الصورة – على توضيحهما ، فكانت العلاقة بين الصورةِ و التقريرِ علاقةً طرديَّةً تقومُ على مدِّ الوشائجِ لا على القطيعةِ و التنافر.


(2-3)


و يستهلُّ "أحمد كامل" مقطعه الثاني بإشكاليتين ، أولاهما لغوية و ثانيتهما تخلٍّ شبه كاملٍ عن اللغة المجازية و الارتماء بأحضان الخطابية التي ربما نستطيع أن نصفها بالزاعقة في بعض الأسطر الشعرية بذلك المقطع / المنولوج ، كما صاحبت ذلك المقطع ظاهرة بلاغية ــ بديعية ــ هي الالتفات.

أمَّا عن الإشكالية الأولى وهي لغوية فقد تمثَّلت في قوله: ( صمتاً ) ؛ لماذا اختار الشاعر أن يبدأ منولوجه بهذا الاسم المصاغ صرفياً على هيئة مفعول مطلق مؤكد للفعل المحذوف ( اصمتوا )؟ و لم يلجأ شاعر عامية إلى لفظةٍ فصحى تُمثِّل جملةً تامة الأركان حُذف عمدتاها ( الفعل و الفاعل )؟ ألم يكن قادراً أن يستعيض عنها بأخرى تنتمي للهجته التي ارتضاها وسيلةً للتعبير الشعري مثل ( سكات ) أو ( سكوت )؟

يبدو أن الشاعر قد فطن إلى الأثر الصوتي لكلمة ( صمتاً ) ؛ فصوت الصاد لما له من تفخيم يملأ التجويف الفموي فيمنحه القوة خاصة و أنه صوت صائت بالفتحة  و التي جعلت من المقطع الصائت القصير ( صَ ) صوتاً زاعقاً خلاف السين المضمومة المرققة في ( سُكات ) أو ( سُكوت ) ، فيقع ذلك في نفس هؤلاء المخاطبين الذي يوجه الشاعر أمره إليهم فيلتفتوا لما سيلي ذلك من خطاب ، فضلاً عن الصمت الناتج من نون التنوين ــ كصوتٍ صامت ــ يتماشى زمنياً مع صمت المخاطبين مُلقياً بأثره النفسي من ترقب و انتظار، هذا من الجانب الفينولوجي ، أمَّا على مستوى التركيب المورفولوجي فنرى أننا بإزاء جملةٍ تامة الأركان حُذف عمدتاها لكن أثرهما باقٍ و بغيابهما يزداد حضورهما ؛ فكونه يبدأ بالمفعول المطلق المؤكد للفعل فهو بذلك يبدأ بالنتيجة التي يرجوها مباشرةً من وراء فعل الأمر و هي ( الصمت ) نفسه و بالتالي فهو يؤشر إلى مدى سرعة الاستجابة المنتظرة ، فضلاً عن أنَّ المفعول المطلق و إن كان أدَّى دور فعله علاوةً على تأكيده إلا أنه يتسم بالتجريد الزمني خلاف الأفعال ، ذلك التجريد الذي أوقف التتابع الكرونولجي للنص جاعلاً من اللفظة ( صمتاً ) دالاً على أهمية ( الصمت ) كقيمة إيجابية مقابل الدوال السلبية التي تقطر بها أفواه مخاطبيه ليس في اللحظة الزمنية التالية لزمن القول فحسب و إنما كمُسلَّمة بدهية و كحقيقة واقعة تُحصَّل من وراء ( الصمت ) كقيمة ، كل ذلك في إطار علاقةٍ مباشرة أفادها المعنى من ذلك التركيب المورفولوجي ، و بالتالي فهناك صمتٌ زمنيٌ مجازيٌ أيضاً ــ بالزمن الصرفي ــ  بالتوازي مع طلبه للصمت الحقيقي.

فضلاً عن أنَّ مفردة ( صمتاً ) كتبت على سطرٍ مستقلٍ مما يؤكد لنا مدى إدراك الشاعر لأهمية التشكيل البصري للنص المكتوب.

أما عن الإشكالية الثانية و المتمثلة في النبرة الخطابية التي حفل بها ( مقطعه / المونولوج ) ربما وقفنا على أسبابها الأولية من بداية المقطع بذلك المفعول المطلق الذي يتطلب صمتاً هدفه الإدراك المباشر لما سيليه من خطاب ينبغي ألا يحفل بالمجاز ، معززاً ذلك بظاهرة الالتفات من كونه وجَّه خطابه في المقطع الأول لآخر مخاطب دارت من حوله التكهنات من أنَّه معادلٌ للذات الشاعرة منتقلاً بحديثه إلى آخرين مخاطبين مع بداية مقطعه الثاني ، و ربما كان هؤلاء الآخرون سببَ تأزُّم الذات في صراعها ضد قيمٍ سلبيةٍ تمثَّلت في الانتهازية و النفعيةِ و الوصوليةِ ( الحكمة الجديدة ).

هؤلاء المخاطبون متورِّطون في نظريةِ الحكمةِ السلبيةِ التي تصدَّرت النَّص ، و التي وصفها الشاعرُ بالضعفِ (الحكمة / الضعف) فضلاً عن كونها مؤلمةً لأفواهِ معتنقيها ؛ فهم برغم حصولهم على مكاسب – غير مشروعةٍ – من ورائها إلا أنَّهم يحاولون رسمَ البهجةِ و البسمةِ على وجوههم ، بسمة مزيَّفة يحتاطونَ بها لإخفاءِ ألمهم من جرَّاءِ اختيارهم لطريقِ النرجسيَّةِ و النَّفعيةِ و هم بذلك متورِّطونَ أيضاً بالإمعانِ في محاولاتِ تضليلِ الذَّاتِ الشاعرة بإيهامها أنَّهم اختاروا الطريقَ الصَّوابَ و محاولةِ تعميتها عن مصيرهم الذي آلوا إليهِ من فراغٍ حصَّلوه حين استسلموا لتيارِ نهرِ الأحاسيسِ الذي قسم القلبَ و تخلَّيهم عن فُلكِ النجاةِ التي مازالت الذاتُ الشاعرةُ مستمسكةً بها.

تماسكٌ في بنيةِ النَّصِّ و استمرارٌ لأثرِ الصورةِ الممتدةِ من المقطعِ الأوَّلِ أوشكَ أن يخلَّ به الشاعرُ حينَ أفرطَ في التعبيرِ عن المعنى بوصفِ الحكمةِ بالضَّعفِ ؛ ذلك أنَّ الألمَ النَّاتجَ من شوكِ الحكمةِ السلبيةِ إنما يستتبعُ ضعفاً جسدياً و آخرَ معنوياً – الهلاك المعنوي – ذلك من جهةٍ ، و من جهةٍ ثانيةٍ فقد مثَّلَ السطر (و تداروا في الحكمة) نتوءً من شأنهِ الحد من انسيابيةِ النَّصِّ و تدَّفقِه ؛ إذ أنَّ محاولاتِهم الدائبةَ في رسم الابتسامةِ المزيفةِ إنَّما تُمثِّلُ حجاباً يختبئونَ خلفه و يُخبِّئونَ فيه إخفاقهم الاجتماعيِّ و الإنسانيِّ.

و لقد أشارَ "بودلير" إلى أنَّ الشعرَ يتطلَّبُ مقداراً من الغموضِ ، و يرى أنَّ الشعرَ الزَّائفَ هو الذي يتضمَّنُ إفراطاً في التعبيرِ عن المعنى ، بدلاً من عرضهِ بصورة مبرقعةٍ – أي: من خلفِ حجابٍ شفيفٍ – ذلك الإفراطُ هو ما يحيلُ الشاعرَ باتجاهِ المجانية [4] و هو ما جعلني أصفُ تلك الخطابية التي يتَّسمُ بها ذلك المقطع بالزاعقةِ في بعضِ الأسطرِ الشعريَّةِ مثل هذينِ النموذجينِ السَّابقينِ.

مازلنا حتى هذه اللحظة مشغولينَ بذلك المخاطب الرافض لقانون الحكمةِ السلبيةِ و الذي تترصَّده مخاطرُ الانزلاقِ في بئرها و التي كانت الذاتُ الشَّاعرةُ تلعبُ معه دورَ الملاكِ الحارسِ الذي يُلغزُ بالتنبيهِ و لا يُصرِّحُ بالمخرجِ ، حتى انبلجت أمامنا إشارةٌ تؤكِّدُ حدسَنا السَّابقَ باعتبارِ ذلك المخاطب معادلاً للذَّاتِ لا كياناً مستقلاً ، يقولُ:
"أنا صمتي أقوى منكوا"

ضمير المتكلم (أنا) إنما يُعلنُ عن ذلك التوحُّدِ ، ربما لأنَّ الذَّات اتَّضحَ تورُّطها بذلك الصراع فجأةً و أنَّها جزءٌ منه و ليست مجرَّد راصدٍ له أو ناصحٍ لآخر مخاطب في المقطعِ الأوَّلِ ، إنَّها من يُعاني من انتهازيةِ و تسلُّطِ الآخرينَ بحكمتهم المقزِّزة ، و لذا لم تكن الذات لتلعب دورَ الملاكِ الحارسِ كما بدا لنا و أصبح بإمكاننا أن نُطلقَ على المقطعِ الأوَّلِ [حوار الذَّات للذَّات] ، و ربما كان ذلك من دافعٍ نفسيٍّ محضٍ قامت خلاله الذَّاتُ على تثبيتِ مبدإها الرَّافضِ للقيمِ السَّالبةِ بالمجتمعِ كنوعٍ من النظر للموضوعِ من نقطةٍ أعلى تكون محايدةً تسمحُ لها بالتفكيرِ الهادئ ، و لعلّ ذلك يُفسِّرُ لجوءَ الشاعر لظاهرةِ الالتفاتِ فيما بعد ليعلنَ عن تورُّطِ الذَّاتِ بالصراعِ.
و لكن .. لماذا أعلنت الذَّاتُ عن تورُّطها بالحدثِ ؟ خاصةً أنَّ ذلك الإعلان جعلَ الصراعَ يصلُ لذروته فجأةً ، تلك الذروة التي صاحبَها ارتفاعٌ ملحوظٌ للتوتر السطحي للنَّص و الذي كانت النبرة الخطابية التي حفلَ بها المقطع الثاني عرضاً مصاحباً له.

إنَّ هذا التصريح الفجائي معزوٌّ إلى ذلك التحدِّي الذي أقامته الذَّات ، ليس تحدياً بينها و بين الآخرين ، و إنما بينها و بين نفسها من أنها على صوابٍ ، و إمعاناً في التأكيد على بدهيةِ التمسكِ بقيمِ الإنسانيةِ النبيلةِ المنافيةِ لقانونِ الحكمةِ الجديد ، الأمر الذي جعلَ من الصمتِ – و هو الدَّالة السلبية في ظاهرها – أقوى من الآخرينَ بكلامهم المساوي للفراغِ ، ليستحيلَ الصَّمتُ إحدى فُلكِ النجاةِ للذَّاتِ ، في إشارةٍ أُخرى للأثرِ المتغلغلِ للصورةِ الممتدَّةِ بالمقطعِ الأوَّلِ.

مرةٌ ثانيةٌ يقعُ الشاعرُ في معضلةِ الإفراطِ في التعبيرِ عن المعنى حينَ جعلَ الفراغَ معادلاً لكلامِ الآخرينَ ، و هو معنى محصَّلٌ من السياقِ حتماً ؛ و إلَّا لو كان كلامهم نابعاً من منطقٍ سليمٍ تقطرُ به أفواههم فلم يبحثون عن ابتسامةٍ مزيَّفةٍ تُقنِّعُ وجوهَهم و تجمِّلَها ؟ و لو لم يكن كلامهم فراغاً لما كان هناك صراعٌ من الأساسِ و ما احتاجت الذَّاتُ لذلك البوح و لتلك الثورة خاصةً و أنَّهم غارقون بنهر الفراغ و الذي تصارعُ الذَّاتُ لكي لا تقع فيه مُتسلِّحةً بالصَّمتِ.

و يبدو أنَّ الشاعرَ مفتونٌ بالصورةِ ، مولعٌ بأثرها في المعنى ، مدركٌ لخلفيتها الجماليةِ ، متبيِّنٌ لأهميتها في مداعبةِ نفسِ مُتلقِّيه ، بل لديه العلمُ الكافي بقدرته على نحتها نحتاً جمالياً كإحدى أدواته التعبيريةِ ، و ليس أدل على ذلك من كونه استخدمها كسهمٍ مرقَ في نسيجِ خطابيةِ منولوجه لهؤلاءِ الآخرين ، حينَ قالَ:
"خوفكم العريان على ضهر الشوارع

اللي ما بترحمش خوف"

تلك الصورة – الناتئة – بين عدَّةِ أسطرٍ خطابيَّةٍ سبقتها و لحقتها إنما أقفُ منها موقفاً محايداً ؛ فبالرغمِ من أنَّها صوَّرَت حالةَ هؤلاء الآخرين المنهكين من حكمتهم المغروزةِ بأفواههم و بيَّنت مدى ضعفهم و خوفهم من مآلهم المقدَّر بالهلاكِ المعنويِّ الذي تحدَّثنا عنه ، فإنَّها تُعمِّقُ من ذلك الضَّعفِ بدخولِ طرفٍ آخرٍ مناهضٍ لحكمتهم و مبدإهم حتى أنَّ الشوارعَ و الطرقاتِ التي يسيرونَ عليها تلفظهم و ترفضهم ، بل إنَّها تقومُ بدورٍ متسلِّطٍ عليهم في محاولةٍ – ربما بدت عديمةَ الجدوى – لإثنائهم عن ذلك الطريق.

إلَّا أنَّ تلك الصورة كما أسلفتُ بدت ناتئةً عن السياقِ الصوغيِّ للخطابيةِ التي رأيناها عَرضاً مُصاحباً لارتفاعِ التَّوتُّرِ السَّطحيِّ للنَّصِّ نتيجة وصولِ الصِّراعِ لذروته بإطلالةِ الذَّاتِ القويَّةِ على الحدثِ و تأزُّمها المفاجئ بذلك التَّورُّطِ الذي كُشِفَ للمتلقِّي ، مما يؤكِّدُ لنا أنَّ الشَّاعرَ لم يكتب ذلك المقطع جملةً واحدةً ، أو على الأقلِّ أعادَ صياغته مُقحماً تلك الصورة عليه ؛ ربما لميله الفطريِّ لاستخدامِ الصورة أو أنَّه يُحمَلُ على مجرَّدِ محاولةٍ منه لعرضِ مقدرته على المزجِ بين مستويينِ مختلفينِ للتعبيرِ أظنُّه أخفقَ فيها ؛ حيثُ أنَّ تلك الصورة لم تأتِ بجديدٍ و لم تُلقِ بظلالها على المعنى ، بل كانت انعكاساً له – و إن عمَّقتهُ – بإضافةِ طرفٍ آخرٍ مؤيِّدٍ للذات متمثِّلاً في (الشوارع)، مثَّلَ هذا واحداً من جوانب ذلك النتوء ، أمَّا عن الجانب الثاني فهو أنَّ تلك الصورة بدت لقيطةً على مستوى الوصلِ السياقي ؛ إذ أنَّه لم يستخدم أيَّةَ أداةٍ من أدواتِ الوصلِ مع ما سبقها من أسطرٍ شعريَّةٍ أو ما تلاها ، ليعزِّي لدينا الإحساسَ بأنَّ ذلك المقطع لم يُكتب جملةً واحدةً و أنَّ تلك الصورة إنما هي مقحمةٌ عليه بالرغم من أثرها الذي تحدَّثتُ عنه ، لذلك فأنا أقبلها من جهةٍ و أرفضها من أخرى.

ليعود الشاعرُ إلى حيث بدأ مقطعه بحديثه عن الصَّمتِ ، سلاحه لعدم الانجرافِ بنهرِ الفراغِ و إحدى فُلكِ نجاته ، ذلك (السكات) الذي يُعدُّ قناعةً مُتغلغلةً في تكوينه ، تجري منه مجرى الدَّم ..

(لو تعرفوا
 معني اتحاد دمي ،
 بكل تفاصيل السكات)

فالصَّمتُ عنده موقفٌ يتَّخذه بإصرارٍ ، و هو المبرِّرُ لفعلِ الأمرِ (صمتاً) و الذي استهلَّ به المقطع الثاني لقصيدته ، و هو ليس صمتاً عن الكلامِ ؛ إنَّما هو صمتٌ عن تلك (الحكمة / الضعف) و التي تؤلمُ أفواه النَّاطقين بها ، و حَريٌّ بنا أن نؤكِّدَ على أهميِّةِ المجازِ في مخاطبته لأفواه هؤلاء الحكماءِ الجدد ، ذلك أنَّ تلكَ الحكمةَ إنما تخرجُ عن غير قناعةٍ منهم لمجاراةِ ذلك المجتمع الانتهازي كمحاولةٍ منهم للانتظامِ في سلكِ أنانيته كاختيارٍ جبريٍّ للموائمةِ مع متطلباتِ عصرٍ ما عادَ يعترفُ بوجودِ تلك الذات التي تحترمُ القيمَ الإنسانيَّةَ النبيلةَ ، و ربما مثَّلت تلك الصورة المجازيَّة الهادئة في بدايةِ المقطع قنطرةً عبرَ من خلالها الشاعر نحو خطابيته التي عجَّ بها منولوجه ، لكنَّهم لن يدركوا ما يطلبه منهم الشاعر و هو على علمٍ بذلك لاختياره أداة الشرط (لو) و التي تفيدُ (امتناع لامتناع) ؛ أي أنه امتنع عنهم الفهم لامتناعِ معرفتهم بآليَّةِ الصَّمتِ كوسيلةِ نجاةٍ و كسلاحٍ لعدمِ الوقوعِ في بئرِ الاختيارِ الذي بدا جبرياً ليسَ أمامهم سواه ، و بالتالي سيظلُّونَ في ذلك المنحدرِ الزَّلِقِ غير قادرين على تسلُّقه ، علاوةً على أنَّها تُفيدُ التَّمنِّي ، و إنَّما يكونُ التَّمنِّي للأمرِ الذي يستحيلُ وقوعه خلاف الرَّجاء.
و يُطِلُّ علينا سؤالٌ منطقيٌّ ؛ إذا كانت الذَّاتُ الشَّاعرةُ عالمةً بعدمِ قدرةِ هؤلاء على التَّحرُّرِ من أسرِ أطماعهم و انتهازيَّتهم و أنانيَّتهم المطلقةِ ، فلمَ تبذلُ الذَّاتُ كلَّ هذا الجهدِ لتأنيبهم في محاولةٍ منها لإثنائهم عنها ؟!

الذَّاتُ – هنا – تموقعت بحيثُ جعلت من الصَّمتِ أداةً لتأمُّلِ الآخرين ، و شُرفةً تُطلُّ منها على نهمهم و سعيهم المحمومِ لكسرِ كلِّ ما هو نبيلٍ لإعلاءِ المصلحةِ الشَّخصيَّةِ ، ذلك السَّعي و ذلك النَّهم قد استحالا إلى جمودٍ في تفكيرهم رصدته الذَّاتُ من تأمُّلها ليزيدَ من إدراكها بعدم قدرتهم على الفكاكِ من تلك الحلقةِ التي يركضون فيها ، لتثبتَ الذَّاتُ لنفسها ثانيةً من أنَّها على صوابٍ و أنَّ الوقوعَ بذلك المنحدر الأخلاقي لا يُرجى البُرءُ منه ، الذَّاتُ باختصارٍ تريدُ أن تقولَ : "أنا على صوابٍ .. و سأظلُّ".

و إمعاناً في ذلك المبدإ فهي لمَّا تزل تُمارسُ دورها المنوطَ بها إنسانيّاً من إضفاءِ صفةِ الحياةِ على ذلك الجمودِ المجتمعيِّ مُتَّخذةً من الصَّمتِ إحدى وسائلها لذلك.

لتصيرَ دالةُ (الصمتِ) بطلاً لذلك المقطع ؛ حيثُ أنَّ الشَّاعرَ قد جعلها دالةً مركَّبةً لا أحاديَّة الدَّلالة ؛ فهي وسيلة لنجاةِ الذَّاتِ تارة ، و سلاحاً لمواجهةِ الآخرينَ تارة أخرى ، و وسيلةً لتأمُّلهم للتأكيدِ على صحَّةِ موقفها تارة ثالثة ، و آليةً لإسباغِ المجتمعِ بالحياةِ التي أوشكَ على فقدها تارة رابعة ، لنستطيعَ القولَ أنَّ الصَّمتَ أضحى شعيرةً يوميَّةً للذَّاتِ و نمط حياةٍ لها استطاعَ الشَّاعرُ من خلاله أن يؤصِّلَ لعالمٍ مختلفٍ عن طريقِ نقلٍ دلاليٍّ متعدِّدٍ لدالةٍ واحدةٍ و في مقطعٍ واحدٍ ، و هو تعدُّدٌ مقبولٌ على المستويين اللغوي و السِّياقي – قلَّما نجده.


(2-4)

ماذا ننتظرُ الآن بعد تلك الغضبةِ ، بل ماذا ستطرحُ الذَّاتُ من حلولٍ لأزمتها؟ ليفاجئنا الشاعرُ بعودته لحديثِ الذَّاتِ للذَّاتِ ، إنَّه يلتفتُ ثانيةً لذاته و يطرحها كحاضرٍ مخاطبٍ ، يقول:

(أديك ..،
سلمت نفسك
لفلسفات الوهم)

و إنما لجأ الشاعرُ لتلك الرِّدَّة الالتفاتيةِ ليحاولَ مجدداً العودة إلى لغة الهدوء و الاتزانِ و التي تُمكِّنه من رصدِ الموقف بدقَّةٍ بعد مقطعٍ كان يعجُّ بالانفعاليةِ و التوتُّرِ ، لكنَّه هدوءٌ مغلَّفٌ باللومِ و تأنيب النَّفسِ على مثاليتها ، و أنَّ كلَّ ما حصَّلته لا يتعدَّى الإخفاقَ لفلسفتها المثاليَّةِ و التي تطمحُ لإقامةِ المدينة الفاضلة تلك التي تشعرُ بالانتماءِ إليها.

و بالرغم من أنَّ الذَّات تلومُ نفسها على ذلك الطريق الذي سلكته و الذي لم يزدها إلا إحباطاً و فشلاً لأفكارها إلا أنها كانت مرغمةً على الخوضِ بذلك الطريق ..

(ولَّيت وجهك
شطر آخر سكة مفتوحة لعينيك)

فاستخدامُ الشاعرِ للتناص القرآني في تعبير (تولية الوجه) إنما هو إشارة من أنَّ الوجهةَ التي سلكتها الذَّاتُ من فضحِ الآخرينَ و مطالبتهم بالَّصمتِ عن حكمتهم إنما هي وجهة مقدَّسة ، إنها قِبلةُ الذَّاتِ لإصلاحِ المجتمعِ ، لكنَّها سرعان ما تيقَّنت من تعطُّلها و عدم فاعليتها لكونها و هماً أو حلماً نبيلاً يرفضه الواقع ، و هي بالرغمِ من ذلك (آخر سكة مفتوحة) أمامها ، في إشارةٍ إلى انعدام الأملِ كليّاً في إصلاحِ مجتمعها.

و كان لهذا الإخفاق أثره على الذَّات ..

(فـ انفرط ..،
عقد الخطاوي .. جريت
ضلِّيت)

هذا الضَّلال الذي حصَّلته الذَّاتُ لم يكن ضلالاً ماديّاً ؛ فالذَّاتُ لم تنخرط لجائحةِ الحكمةِ السَّلبيَّةِ التي أصابت مجتمعها و إنَّما ضلت الطَّريقَ لإصلاحه و كفرت بأفكارها المثاليَّةِ التي تعجزُ عمليّاً عن تحقيق ذلك الإصلاح كما ظنَّت سلفاً ، و هو ما تجلَّى من مقارنةِ الذَّاتِ لحالها قبل ذلك الضلال ..

(و أنت اللي كنت الطرق
تنفتح سماوات
لحظة مرور الضي بين عينك ..،)

إنَّه كفرٌ بالمثاليَّةِ بعد أن أثبتت التجربةُ فشلها. الذَّات الآنَ تحاولُ رصدَ موقعها الجديدِ من المجتمعِ في ضوءِ هذا الإخفاقِ ..

(دلوقتي فينك)

الأزمة الآن تتَّخذُ شكلاً أكثر دقَّةٍ نحو مسبِّبها الفعلي ، فالصراعُ أمسى يتَّخذُ شكلاً أكثرَ تجريديَّة ، فهو ليس صراعاً بين ذاتٍ أعمتها مثاليتها المفرطة تجاه مجتمعها فحسب ، بل هو صراع مواجهةٍ حضاريَّةٍ بين الجنوب الذي ينتمي له حلم الذَّات (حلمك جنوبي) و بين ماديَّة مجتمعات الشمال / الأوروبي و التي أفسدت على الذَّاتِ مجتمعها بتخلِّيه عن موروثاته و عاداته و قيمه الرُّوحية.

الجديرُ بالذِّكرِ أنَّ الشَّاعرَ لم يستعمل (الشَّرق) كدالةٍ على انتمائه و لم يستعمل (الغرب) كدالةٍ على توجُّه المجتمعِ نحو ماديَّةِ أوروبا كما هو الشَّائع ، و إنما استبدل الجنوبَ بالشَّرقِ ، و الشَّمالَ بالغربِ إمعاناً منه في تحديدِ مكان تجلِّي الأزمة علاوةً على ما تحمله دالة (الجنوب) من دفءٍ ينتمي لعاداته و تقاليده ، و ما تحمله دالة (الشمال) من برودةٍ مجتمعيةٍ و أخلاقيةٍ لا تنتمي له ، و هو نفس الاستخدام الدلالي الذي استخدمه "الطيب صالح" في روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" ، و جديرٌ بالذِّكرِ أنَّ الشَّاعرَ أدركَ الفرقَ بين دالتي (الريح) و (الرياح) ؛ فالأخيرةُ إحدى دوال الخير ، أمّا الأولى و هي التي استخدمها الشاعر في قوله:

(حلمك جنوبي
و الريح للشمال رايحة)

تدلُّ على الدَّمارِ و اقتلاع المجتمع من جذوره ، بل و تبديد حلم الذَّاتِ الذي ينتمي للجنوب و عدم صموده أمام ريح التغيير المتجهة للشمال ، و على هذا جرى الاستخدام القرآني لهاتين الدالتين.
و هنا تكمن صعوبةُ الموقفِ ، فعلى الذَّاتِ أن تختار ، و ليس أمامها أمدٌ للتفكيرِ سوى لحظةٍ واحدةٍ ..

(اللحظة صعبة
و الاختيار في إيديك)

و لكن .. ما الاختياراتُ المتاحة للذَّات لتختار منها ؟

(يا تمد روحك ..،
شفرة تواصل للوجود
يا تسبها تغرق
مع أمل ميت)

إنه يعودُ إلى ذلك الاختيار الجبري ثانيةً (الاختيار واحد) كما ذكر بمقطعه الأول ؛ على الأقلِّ هو اختيارٌ لنوعِ الهلاكِ الذي تُفضِّله ، إما قتل الروح و من ثمَّ الحياة بجسدٍ ميِّتٍ ينزعُ للماديَّةِ حين تستسلمُ للريحِ المتَّجهةِ للشمال ، و إما ترك الروحِ لتغرقَ مع أملٍ ميِّتٍ في إصلاحِ المجتمعِ ..(تعاند .. حتغرق) ..

إنَّه يعودُ لنقطةِ البدءِ بذاتِ النتيجةِ الحتميةِ (الهلاك) ، و ذات الاختيار الجبري الذي يجثمُ على مقدَّراتِ الذَّاتِ ، و كأنَّ الذَّاتَ تدورُ في حلقةٍ مفرغةٍ ، و كأنَّ (الصَّمتَ) الذي طرحته كحلٍ و كسلاحٍ و كفلكِ نجاةٍ أمسى بلا فائدةٍ. [انظر شكل رقم 1]

لكن للعودةِ لنقطةِ البدء هذه المرة إحساسٌ آخر ؛ فهي عودةٌ تتسربلُ معطفَ الشَّكِّ المقيتِ ، الشَّكُّ في جدوى مجابهتها للمجتمعِ ، و الشَّكُّ في صمودها نحوه ، و ربما النزوع للاستسلام و الذي توحي به معالجتها الهادئة للموقفِ ، ذلك الهدوء الذي شوَّشه الإخفاق.


و إلى هنا انخفضَ المنحنى البياني للصراعِ بشدَّةٍ إلى درجةِ أنَّه توقَّفَ عند الدرجةِ الأفقيَّةِ صفرٌ


شكل رقم (1) الدائرة المفرغة التي تدور فيها الذات حتى نهاية المقطع الثالث





شكل رقم (2) رسم بياني للصراع حتى نهاية المقطع الثالث


(2-5)

و ماذا بعد أن انخفضَ الصراعُ وصولاً إلى الدرجةِ الأفقيَّةِ صفر؟
حقيقٌ أنَّ الصراعَ في أيِّ نصٍّ شعريٍّ لا يُشكِّلُ عمودَه الفقريَّ ؛ ذلك أنَّ هناك قصائد قائمة بذاتها لا تعتمدُ عليه و هي نماذجُ موجودةٌ و محقَّقةٌ ، من ذلك مثلاً ما سُمِّيَ بقصيدةِ الحالة.

و صحيحٌ أنَّ النَّصَّ الذي بين أيدينا قد انتهى فعلياً بنهايةِ المقطع الثَّالث إلَّا أنَّها نهايةٌ ارتدَّت بنا إلى بدايةِ النَّصِّ كمحصِّلةٍ حتميَّةٍ لتلك الدَّائرةِ المفرغة التي تدورُ فيها الذَّات.

و كان على القارئِ - حالَ ما انتهى النَّصُّ بنهايةِ المقطعِ الثالثِ - أن يشترك بذهنيَّته كاشفاً نتيجة الصراع الذي ما أوشكَ أن ينتهي حتى ليشتعلَ من جديد ، لكنَّ الشاعرَ رفضَ أن يمنحنا دورَ المشارك و قدَّم لنا مقطعاً اعتَبرُه بمثابةِ بيان حالةٍ و نتيجةٍ مباشرةٍ للصِّراعِ في محاولةٍ منه - ربما بَدت تسلُّطيَّةً - للتأكيدِ على المآلِ القبيحِ للمجتمعِ أو كإشارةٍ تنبؤيَّةٍ له.

و لعلَّ لديه أسبابه الأخرى التي دفعته للشعورِ بأنَّ النَّصَّ لم يكتمل بنهاية المقطع الثالثِ و بالتالي يمكننا اعتبار المقطع الرابع (كتتر النهاية) لذلك الصِّراع و الذي جاءَ مختلفاً في لغته عن بقيَّةِ النَّصِّ حيثُ أنَّه مكتوبٌ بالفصحى ، تجربةٌ لا ندَّعي فرادتها أو جدَّتها كُليَّةً لكنَّها تحتاجُ منَّا وقفةً تقييميَّةً لنعرفَ ما الذي أفادَه النَّص منها خاصةً و أنَّه منتهي فعليَّةً كما أسلفنا.

استهلَّ "أحمد كامل" مقطعَه بالنداءِ إلى (الوتر المدلَّى من سماءٍ) وهو نداءٌ لا يخلو من احترامٍ وتقديرٍ ؛ ذلك أنَّه لم يقل (يا وتراً مُدلَّى) أو (أيها الوتر المدلَّى) بل استخدم (يا أيُّها) و هو الأسلوب الندائي ذو الأداتين (يا - أيّ) و حرف التنبيه (ها) ، وقد استخدمَ النَّصُّ القرآنيُّ ذات الأسلوب في النداءِ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (يا أيُّها النبي)، كما استخدمه في النداءِ على المؤمنين (يا أيُّها الذين آمنوا)، فإلى أيِّ شئٍ تشير دالةُ (الوتر المدلَّى)؟ خاصةً وأنَّه يتدلَّى من (السماء) وهي التي تشيرُ إلى العلويِّ والمقدَّس.

ربما مثَّلَ ذلك الوترُ آخر سبيلِ نجاةٍ للمجتمعِ حيثُ التَّمسُّك بالعاداتِ والتَّقاليدِ - والتي لا تتنافى مع الديني و المُقدَّسِ - كمخرجٍ آمنٍ من المصيرِ المحتوم، لكنَّ الفعل (تهاوت) عطَّل الأثرَ المرجوَّ لدالةِ (الوتر المدلَّى) معلناً عدم مؤازرةِ السَّماءِ للمجتمعِ الذي أفسدته جائحة الحكمةِ السَّلبيَّةِ، خاصةً وأنَّ تلكَ الأرضَ التي تهاوت عليها السَّماءُ (ما لها فوق الخرائط من أثر) وبذلك مارسَ الشَّاعرُ دورَهُ في النُّبوءةِ معلناً انقطاع كلِّ السُّبلِ نحو النَّجاةِ، مُرجِّعاً نفس الصَّدى (ليس في الموتِ اختيار).

وقد مرَّ بنا في المقطعِ السَّابقِ كيفَ أنَّ فسادَ المجتمعِ مُحصَّلٌ من توجهه نحو الشمال، بينما الآن يؤكِّدُ على هذا الدور الذي تمارسُه ريح الشمال ..

(شمالية .. غربية ..
تلك الرياحُ ولن تذر)

ليقعَ المجتمعُ بين شقيِّ رحى من داخله وخارجه تُسرعُ من إيقاعِ دفعه نحو الهلاكِ المحتومِ وتزيدُ من سرعةِ تجريفه من عاداته وتقاليده وقيمه.

لكنَّ الشاعرَ حين أصابَ في مقطعه السابق بقوله (والريح للشمال رايحة) أخطأَ الآنَ بقوله (تلك الرياح) وقد سبقَ الوقوفُ على الفارقِ بين هاتين الدَّالتين.

ويُمارسُ الشَّاعرُ دورَه في التَّنبؤِ ويحدثنا – في صورةٍ بانوراميَّةٍ – عن أثرِ تلكَ الريحِ على مجتمعه؛ حيثُ لا بيت .. لا طفل .. لا وطن، إنَّه ينفي الأمن الخاص (البيت) لينفي بذلك كل مظاهرِ العمرانِ أيضاً، وينفي مستقبلَ مجتمعه (لا طفل) ليخلصَ لنفي الوطن برمته كمحصِّلةٍ طبيعيَّةٍ للجائحةِ الأخلاقيةِ والتوجه للشمال.
ولعلَّ الشَّاعرَ قد وقع في معضلةٍ حينَ استخدمَ الظرف (فوق) في قوله (لا بيت .. فوق ضفاف ذاك النهر) وهو ما يعني البيوت الواقعة على ضفتيِّ النهرِ فقط ولا تتعدَّاهما مما يقلِّصُ ويحجِّمُ دالةَ ضياعِ الأمنِ الخاص بينما الظَّرف (حول) يعني ذلك ويزيد.

وأصبحت (الحناجر) التي كان كلامها مساوياً للفراغِ، تلك التي غُرست بأشواكِ (الحكمة / الضعف) والتي فشلت الذَّاتُ بإسكاتها حين قالت لهم (صمتاً) ورأت في صمتها قوَّةً طالبتهم بالتَّحلي بها – أصبحت تلك (الحناجر) صامتةً رغماً عنها ولم يبقَ إلا صوت صريرِ الريحِ التي أتت على المجتمعِ، ذلك المجتمع الذي تبقى منه ..

(أنا ..
أنتم ..
نحنُ ..)

فأصبحت الذَّاتُ ومجتمعها منفردين (أنا – أنتم) ومجتمعين (نحن) كأطلالٍ خاويةٍ على عروشها، (الذات) لعدم قدرتها على التغييرِ أو التعايشِ، و(الآخرون) لاستسلامهم لجائحةِ الحكمةِ الانتهازيةِ.

وهنا تكمنُ أهميَّة التَّشكيلِ البصريِّ في كتابةِ تلك الضَّمائر الثلاثة؛ فالفصل بين (أنا – أنتم) هو تحديدٌ لموقفِ كلٍّ من الذَّاتِ والمجتمعِ، والجمع في (نحنُ) دليل على المصيرِ السلبيِّ المشتركِ الذي اختلفت أسبابه ودوافعه بين الذَّاتِ و بين المجتمعِ، لتصير المحصلة النهائية هلاك الجميع.

إنَّ ذلك المقطع إنما يُمثِّلُ نشيدَ الذَّاتِ المذعورةِ التي تدركُ هلاكها دون أن تكون سبباً فيه، بل لم تكن تلك الذَّاتُ ذاتاً مستسلمةً سلبيَّةً لترضى بذلك المصير وإنما مدفوعة إليه دفعاً رغم محاولاتها في الفكاكِ والتحرُّر، لتنهي الذَّاتُ مقطعها بزفرةٍ يائسةٍ (ليت في الموتِ اختيار) .. لكن هيهات.

هكذا كانَ نشيدُ الذَّأتِ المهزومةِ المذعورةِ أشبه (بتتر النهايةِ) للصراعِ بينها وبين مجتمعها، كما كانَ لكتابته بالفصحى أثره الدَّال؛ حيثُ قامَ بنقلِ الخطابِ الشِّعريِّ إلى مستوى آخر يتميَّزُ بقدرته على الكشفِ والرَّصدِ وصولاً للتنبؤِ، مانحاً المقاطع التي سبقته المقدرة على الارتقاءِ للانتظامِ في سلكِ (الحكي الشعبي / الأساطيرِ) مما يحملها على التَّحرُّرِ من قيديِّ الزَّمانِ والمكانِ والانفلاتِ من أسرِ الشُّخوصِ لتتَّسم بالطابعِ التجريديِّ شأنها شأن الأساطير التي وإن ارتبطت بمكانٍ وزمانٍ معينين وشخوصٍ معيَّنين إلا أننا نستطيعُ أن نستخلصَ منها العبرةَ المُستقاة من معالجتها لبعضِ مواطن الضَّعفِ الإنسانيِّ فتصيرُ مثلاً سائراً وباباً في موضوعها وهو غاية الأرب من الأدب الشَّعبي.

وبالتالي فالمقطعُ الرَّابعُ بمثابةِ التعليقِ على ما سبق وربما جازَ لنا اعتبارَه نصّاً مستقلاً إن لم يكن موازياً، وهو ما أدركَه الشَّاعرُ فكانَ (الخروج) من النَّصِّ عودةً لحوارِ الذَّاتِ (باللهجةِ)، وإنما لجأ إليه الشاعر كآليةٍ لربطِ ذلك المقطع بما سبقه على مستوى الوحدتين العضويةِ والموضوعيَّةِ للنَّصِّ؛ فهو عودة من مستوى (الراوي / المتنبِّئ / العارف) إلى مستوى (الراوي / البطل / المتأزِّم) بالحدث ..

(خارج ..
من اللعبة الوحيد / محتار
لا أنا خسران
ولا حاسس بطعم الفوز)

ذلك الخروج إنما أعادَ تلخيص نهاية الصراع الذي تنبَّأَ به في مقطعه السابق؛ فالذَّات تخرجُ في النهايةِ حائرةً، لم تخسر – رغم هلاكها – لإدراكها أنها لم تتخلَّ عن قيمها، وليست فائزةً لأنها أصبحت بلا وطنٍ مثل بقيةِ مجتمعها، وهو المعنى الذي سبقَ في ثلاثيةِ الضَّمائرِ (ما تبقَّى / أنا.. / أنتم.. / نحنُ ..) ليتأكَّدَ لدينا أنَّ الخروجَ إنما هو مجلوبٌ لربطِ المقطعِ السَّابقِ مع النصِّ عضويّاً وموضوعيّاً رغم أنَّه يقومُ مقام النَّصِّ الموازي، كما يؤكدُ انتهاءَ الصراعِ بنهايةِ المقطع الثَّالث حينَ وصلَ للدرجةِ الأفقيةِ صفر.

الهوامش
[1] القاضي عبد الجبار ، المغني 5/198-199
[2] د. نصر حامد أبو زيد ، إشكاليات القراءة و آليات التأويل ص 107
[3] راجع عبد العزيز موافي ، الرؤية و العبارة ص
[4] راجع عبد العزيز موافي ، الرؤية و العبارة ص 314 و ما بعدها