الأربعاء، 31 ديسمبر 2014

قصيدة النثر : المفهوم والجماليات مقاربة نظرية (1)


قصيدة النثر : المفهوم والجماليات


مقاربة نظرية (1)


نقلاً عن الرابط التالي:
http://www.startimes.com/f.aspx?t=32810825


(1)

قصيدة النثر ، هذا الشكل الفني الذي بات يحتل مساحة كبيرة في النتاج الشعري العالمي عامة ، وفي المشهد الشعري العربي المعاصر خاصة . ولعل الكثيرين يعترضون على المسمى المطروح " قصيدة النثر " ، ويرون أنه يحمل التناقض في بنيته ، فكيف يكون قصيدة ؟! وكيف يكون نثرا ؟! وهذا مؤسس على قناعة أن القصيدة ، وفقا للموروث الثقافي الإنساني ، لابد أن تؤلف على أوزان وإيقاعات ، وأن النثر يخلو من هذا الوزن . وهذا يعود بنا إلى التفرقة البسيطة بين الشعر والنثر ، فالشعر موزون ، والنثر يضاده . أي وفقا لتعريف قدامة بن جعفر المتوارث للشعر بأنه : " كلام موزون مقفى " ، وهو تعريف مختلف عليه كثيرا من قبل النقاد القدامى والمحدثين .
ومن ثم يكون التساؤل : لماذا نعد مصطلح قصيدة النثر يحمل التناقض ؟ لماذا لا يحمل التقارب ؟ لماذا لا يكون الجمع بين هاتين الكلمتين وسيلة لجمع ما يميز القصيد وما يميز النثر ؟
هذا السؤال يتناول القضية بطريقة معكوسة ، فبدلا من الاختلاف الذي يحمله طرفا المصطلح ، سيكون النقاش دائرا في دلالة الإضافة في هذا المصطلح بين الكلمتين . أي أن هذا الشكل الأدبي يجمع جماليات شكل القصيدة الممثلة في : الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة وتوهج اللفظة وعمق الرؤيا وشفافيتها. وجماليات النثر الممثلة في : التحرر من أسر الوزن الشعري ، والانطلاق في آفاق التحرر اللفظي والتركيبي ؛ فالنثر فيه الكثير من الحرية الرؤيوية واللفظية .

( 2 )

لقد خالف النقاد العرب القدامى تعريف قدامة بن جعفر الذي يحدد الوزن والقافية كإطارين مميزين للشعر ، وهذا هو الناقد العظيم " عبد القاهر الجرجاني " يورد في كتابه دلائل الإعجاز واقعة حوار حسان بن ثابت ( رضي الله عنه ) مع ابنه ، حيث سأل حسان ولده : ما الذي يبكيك ؟ فقال الابن : لسعني طائر كأنه ملتف في بردى حبرة . فقال حسان : لقد قلتَ الشعر ورب الكعبة .
ويورد – عبد القاهر – أيضا واقعة الأعرابي الذي سئل : لمَ تحب حبيبتك ؟ فأجاب : لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس .
ويستخلص عبد القاهر من هذا الموقف : أن الشعر يمكن أن يوجد دون أوزان. أي أن الشعرية الحقة لا تتوقف عند الوزن ، بل هي التخييل المعبر عن أحاسيس متقدة ، ورؤيا نافذة ، شديدة العمق ، ويكون التعبير الجميل مطيتها .
فمن خصائص الشعر : التخييل ، الأحاسيس ، جماليات الكلمة والتركيب ، الرؤية الشفافة .

( 3 )

لقد أضافت سوزان برنار في كتابها المرجع " قصيدة النثر من شارل بودلير وحتى الآن " خصائص عدة لقصيدة النثر وهي :
-
الإيجاز : وتعني : الكثافة في استخدام اللفظ سياقيا وتركيبيا .
-
التوهج : وتعني الإشراق ، أي يكون اللفظ في استخدامه متألقا في سياقه ، كأنه مصباح مضاء ، إذا استبدلناه بغيره ينطفئ بعض البريق في الدلالة العامة وفي الجمال التركيبي النصي .
-
المجانية : وتعني اللازمنية ، أي يكون اللفظ غير محدد بزمن معين ، فالدلالة متغيرة ، حسب السياق والرؤية والتركيب ، وتكون قصيدة النثر ذات دلالة مفتوحة ، يمكن أن تفهم على مستويات عدة .
-
الوحدة العضوية : وتعني أن يكون النص كلا واحدا ، ونترك وحدة البيت، ويكون النص كله وحدة واحدة ، لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن أي جزء من أجزائه .
إذن " قصيدة النثر " تتخلى عن موسيقية الوزن والإيقاع ، لصالح بناء جماليات جديدة ، وأساس هذه الجماليات : تجنب الاستطرادات والإيضاحات والشروح ، وهي ما نجده في الأشكال النثرية الأخرى ، وتبقي على قوة اللفظ وإشراقه ، فقصيدة النثر : تؤلف عناصر من الواقع المادي ( المنظور ) حسب الرؤية الفكرية للشاعر ، وتكون هناك علاقات جديدة بين ألفاظ النص وتراكيبه ، هذه العلاقات مبنية على وحدة النص وحدة واحدة ، ذات جماليات مبتكرة تعتمد على رؤية الشاعر للواقع المادي الخارجي بمنظور جديد ، تنعكس هذه الرؤية على علاقات الألفاظ ، وبنية التراكيب ، وقوة التخييل ، وجدة الرمز .
وهذا ما يقود في النهاية إلى إثارة الصدمة الشعرية – كما تصفها سوزان برنار- ، هذه الصدمة ناتجة عن التلقي للنص الشعري ، واللذة في هذا التلقي الناتج عن التأمل في بنية النص ، وروعة جمالياته ، ورؤياه الجديدة .



( 4 )

إن مصطلح " الصدمة الشعرية " يطرح آلية جديدة في فهم قصيدة النثر وتلقيها، ذلك أنه يتناول قصيدة النثر من منظور المتلقي ، هذا المتلقي هو المستهدف الأول للمبدع . فيكون السؤال : لماذا نعشق الشعر ؟ وتكون الإجابة : إن الشعر يدخلنا في حالة من الوجل النفسي ، ناتجة عن جماليات النص ، وشفافية المشاعر ، وروعة الأسلوب ، والنغمية المتولدة في الألفاظ والتراكيب وتلك العلاقات الجديدة التي أبدعها الشاعر بين الألفاظ والتراكيب . وهذا ما تحققه قصيدة النثر ، بدليل أنها امتلكت الكثير من المشروعية والقبول لدى المتلقين في العالم منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن .
وتكون " الصدمة الشعرية " إحدى أبرز المعايير في تلقي قصيدة النثر ، حتى لا يعد أي هذيان أو افتعال أو تراص لفظي ، قصيدةً نثريةً كما يفعل البعض ، فقصيدة النثر شكل أدبي ، يحقق الدهشة أو الصدمة ، وهذا يتوقف على إجادة الشاعر في التقاط رؤية جديدة ، مصاغة ببنية جديدة ، قوامها الصور والرموز والتوهج اللفظي والتركيبي .

( 5 )

ومن المهم التأكيد على أن مصطلح " قصيدة النثر " يخالف بعض الشيء مسمى الشعر المنثور ، فقصيدة النثر شكل أدبي اكتسب رسوخا ، وتنظيرا واضحا، استقرت معه الكثير من الأطر الجمالية . أما الشعر المنثور فيختلف عنه، فهو عبارة عن كتابة الشعر دون وزن ، وهو الأساس لقصيدة النثر المعاصرة ، ويكاد تعريفه يتوقف عند ملامح بعينها أبرزها : التخلي عن الوزن والقافية ، والإبقاء على روح الشعر المتمثلة في الإحساس المتقد ، والصورة الخلابة ، واللفظ المنغّم . وهي محاولات تعود إلى أشكال مصاحبة للمدرسة الرومانسية للشعر ، التي ظهرت في مطلع القرن العشرين ، واستوت على يد جماعة أبوللو الشعرية ، وقد كان الشعر المنثور أو النثر المشعور أحد أشكالها ، وقد امتاز بكونه مكتوبا على هيئة الشعر ، ويعتمد على وحدة البيت ، ونغم الألفاظ ، وجمال الصورة ، وتألق العاطفة ، أي نفس مفاهيم الشعر الرومانسي وآلياته . وهو بلا شك الأب الشرعي لقصيدة النثر في الأدب العربي المعاصر ، ومن المهم قراءة تطور قصيدة النثر في ضوء تجربة الشعر المنثور السابقة .
ويجدر بالذكر أن الشعر المنثور ، يخالف بكل شكل من الأشكال ما يدونه البعض من الخواطر المكتوبة ، فالشعر المنثور نص عالي الشاعرية ، يدور حول رؤية جديدة أساسها الوجدان المتقد والجمال النصي ، أما الخاطرة فهي نثرية الطابع ، تعتمد على وصف لحظة نفسية ما ، عبر جمل وتراكيب تمتاز بالإسهاب وتخلو من الشعرية في اللفظ ، وقد تغرق في الوصف البصري لما هو مادي .

.. / ..
يتبع

رجلٌ وامرأة ، نص لعلاء عبد الرحمن من ديوانه ( نمر يشرب النسكافيه ) .. بقلم / عبد المنعم كامل

رجلٌ وامرأة
نص لعلاء عبد الرحمن

من ديوانه ( نمر يشرب النسكافيه (



رؤية نقدية بقلم الشاعر و الناقد الكبير / أ. عبد المنعم كامل



كامرئ القيس ..
كنت تورطت وقت المجاعة ..
في ذبح قلبي
لكل الجميلات
ما كان لي ناقةٌ
أو جمل
هن يعطينني
- في المقابل - ذيل الضفيرة
أكتب لحنا عليه
وأترك بعض القبل

*********

صرت مندفعا كالنوافير
نحو فضاء المجرة
أو كالرصاص
أصيد يمام الغزل
قمت أرقص
مثل الهنود على النار
مبتهجا أن شعري
به البرتقال الربيعي
سرب الكناريا
ونهر الشُّعَل
لم أكن عارفاً أن رآني زحل
غاضبا من سلوكي نهج َ المغول
وقفزي مثل الحصان
على سور بستانه الكهرمان
بلا ندم
أو خجل
نظرة منه نحوي
رمتني بداء الحنين
على شكل موجات جاما
لتحرق بيتزا الأمل
كان سما إذن في العسل
وأنا أتباهى
بأني أغافلُ هذا الإلاها
وأسرقُ تفاحَهُ المشتعلْ
جاهلا
أن نفسي قتلتُ ،
وغيري
بوهم المماتِ اكتمَلْ

*********

بعد عشرين عاما
جلستُ أعدُّ الضحايا
وأفتحُ دفترَ عمري
وأسألُ – عبر الرمال –
قطيعَ الأيائلِ
أين الطريقُ لبيت الحبيبةِ
ما دلني أحدٌ
وأنا في الضباب الثقيل
على ظهر زحَّافةٍ سحبتها الكلابُ
لهُ لم أصلْ

*******

مثل جلمود صخرٍ
مشيت إلى قاتلي
في المرايا
وكان ارتحلْ
فجلستُ على القبر - قبري –
كطير الغُرابِ أنادي
وليس يُجيبُ الطَّللْ

************

في الأرض مترامية الأطراف ، سعى الشاعر وراء الجمال منذ الدهشة الأولى ، وظل يسعى وراءه طوال العصور ، ولم يدرك شيئا سوى الأكوان اللغوية الخالصة ، يحرك أصابعه على الأوراق لكي يتلمس أبعاد أكوانه ، يحاول أن يقبض على عالمه في اللغة لأنه لم يمتلك في راحتيه ليوم واحد أي قدر من الجمال في أنثى حية ، أو وطن حي ، أو وجود عملي حي ، يجلس فيحدق فيما بقي له ، ولم يكن يجد سوى القصائد التي كتبها ، سوى هذا الجمال الذي اختزنه في الكلمات والصور والرموز والأيقونات التي تحتشد في جسد القصيدة ، يستعيض بذلك الجمال اللغوي الخالص عن فقدانه الجمال في الواقع ، محنة حضور الجمال المحالة ، هذه المحنة الخالدة المتنقلة في أرواح عشاق الجمال الفانين الخاسرين إلى الأبد .
وها نحن أولاء نلمس مكابدة الشاعر في هذا النص لعلاء عبد الرحمن ، أحد كبار العشاق في عصرنا الحديث ، وقد التحم بالمحنة مرة واحدة ، مر العمر أو أهلكه الشاعر في ملكوت القصيدة ظانا أنه يحقق لنفسه موقعا فريدا في العالم ، وحين يفتح عينيه لا يجد شيئا هناك على أي زاوية من زوايا الكون ، فيجلس على قبره ، القبر الذي دفن فيه ذاته ورحلته ورؤاه وخياله وقصائده ، يجلس كالغراب وحيدا في البرية ، ينادي ولا يجيبه سوى الفراغ الموحش في وجود لا معنى فيه سوى معنى الموت .
ويحسن أن نبدأ من الذروة في هذا النص المتفرد ، وذروته هي المقطع الأخير فيه

مشيت إلى قاتلي
في المرايا
وكان ارتحلْ
فجلستُ على القبر - قبري –
كطير الغُرابِ أنادي
وليس يُجيبُ الطَّلل

من هذا القاتل الذي يمشي إليه الشاعر في المرايا ؟ ، القاتل الذي لا يستطيع الشاعر أن يجده إلا في الخيال أو الوهم ، أو في المسافة بين الخيال والوهم ، القاتل الحاضر الذي لا يكاد يغيب ، والغائب الذي لا يتحقق حضوره قط ، القاتل الذي رحل من كل مكان ، وبقي في كل مكان كالشبح ، من هذا القاتل الذي يئس الشاعر المقتول من العثور عليه ، فلم يجد إلا قبره – قبر الشاعر نفسه – فجلس عليه ينادي قاتله فلا يجيبه أحد ، ليس غير الطلل القائم يفتك بالوعي موحشا ومفعما بالصمت ، وأي طلل هذا ؟ أهو طلل الشاعر المقتول أم طلل الشعر القاتل ؟ الشعر الذي قتل صاحبه ، عبر هلكوت الرحلة الطويلة وراء الجمال الذي لم يكن ممكنا في غير الوهم أو في الخيال أو في المسافة بينهما .

كامرئ القيس ..
كنت تورطت وقت المجاعة ..
في ذبح قلبي
لكل الجميلات
ما كان لي ناقةٌ
أو جمل
هن يعطينني
- في المقابل - ذيل الضفيرة
أكتب لحنا عليه
وأترك بعض القبل

لم يذبح امرؤ القيس نفسه ، وإنما ذبح ناقته لبنات العشيرة ، ذبح ناقته ليقدمها قربانا لجمالهن ، يوم دارة جلجل ، هذا اليوم الذي لم يعترف امرؤ القيس لأي يوم سواه بالخلود

ألا رُبَّ يومٍ لك منهن صالحٍ ** ولا سِيّمَا يومٌ بدارةِ جُلْجُلِ

كان امرؤ القيس يسير في هامش مواز للجمال ، فلم تكن محنته قاتلة ، ظل قادرا على الوقوف في منتصف المسافة بين الربح والخسارة ، يحتفظ بالواقع في يد ، وبالشعر في اليد الأخرى ، ولذلك بقي الشعر والواقع متوازيين ، لا يتقاطعان ، وبقدر ما كان الشعر يفرض وجوده على الشاعر في امرئ القيس ، كان الإنسان فيه قادرا على فرض شروطه على الواقع ، ظل الرجل متصالحا مع نفسه ، كان يجمع القبائل لتؤازره في سعيه لإدراك ثأر أبيه ، وظلت ناقته تؤازره في تقديم نفسها قربانا لبلوغ ما يريده من الجميلات ، كان يملك الثمن في كل مرة ، لكن علاء عبد الرحمن لا يملك ثمنا إلا الشعر ، الشعر الذي هو ذاته ، يذبحه فيذبح نفسه لقاء إدراك وهم الحرية ، ووهم الجمال

غلاف الديوان



ذبح الشاعر قلبه ، لأنه في زمن المجاعة لم يكن يملك ناقة أو جملا ، لم يكن يملك سوى الشعر ، ولم يحصل من الجميلات إلا على ذيل الضفيرة ، ليكتب عليه لحنا ، ويترك لهن عليه بعض القبل ، ليصبح عشق الجمال قاتلا على نحو حاسم

إن علاء عبد الرحمن لا يمشي في خط مواز للجمال ، وإنما هو قائم في نقطة التقاطع بين الواقع والجمال إلى الأبد ، وهي نقطة لا يتيسر بلوغها لكل أحد ، إنها الموت الذي أشار إليه بيكاسو من قبل وهو يفسر معنى السريالية ، إنها النقطة التي لا يكون فيها وجود ، ولا يكون فيها عدم ، ولا تكون فيها صيرورة من أي نوع ، الفردية المطلقة والوحدة المطلقة ، وبلغة علاء عبد الرحمن نفسه ، هي الجلوس على القبر الهائل في برية الكون الموحشة .

يظن الشاعر أن اللحن الذي يكتبه هو الوجود الحقيقي ، أو هو الخلود ، إنه يستبدل بالوجود الحي وجودا لغويا خالصا ، هو بغيته وهدفه وقاتله آخر الأمر

صرت مندفعا كالنوافير
نحو فضاء المجرة
أو كالرصاص
أصيد يمام الغزل
قمت أرقص
مثل الهنود على النار
مبتهجا أن شعري
به البرتقال الربيعي
سرب الكناريا
ونهر الشُّعَل
لم أكن عارفاً أن رآني زحل
غاضبا من سلوكي نهج َ المغول
وقفزي مثل الحصان
على سور بستانه الكهرمان
بلا ندم
أو خجل
نظرة منه نحوي
رمتني بداء الحنين
على شكل موجات جاما
لتحرق بيتزا الأمل
كان سما إذن في العسل
وأنا أتباهى
بأني أغافلُ هذا الإلاها
وأسرقُ تفاحَهُ المشتعلْ
جاهلا
أن نفسي قتلتُ ،
وغيري
بوهم المماتِ اكتمَلْ

يندفع الشاعر ليجلب اللغة الجمرة من سُدُمِ المجرات ، ثم لينشئ من هذه اللغة كونه ، ويؤلف منها لحنه ، هذا الذي سيكتفي بترتيب مفرداته على ذيل الضفيرة ، ثم يمضي وحيدا ، وهو يظن أنه بذلك قد وضع الوجود كله في راحتيه ، ويتوهم أنه الحي الوحيد ، يستغرق في جمال صوره وأيقوناته ورموزه ، في طقسه الأسطوري الخالص ، يمتلك البهجة كاملة وهو يرى إلى هذه الصور والأيقونات والرموز ، يحتضن بهاء البرتقال الربيعي وسرب الكناريا وأنهار الضوء ، يحتقل بوجوده القائم في لغة توشك أن تتعالى على كل حيز ، وتتأبى على كل حدود ، يركض في الفلك وبين الكواكب ، حرا إلى حد الدهشة دون أن يدرك أن كل ما يحصل عليه من بهجة ليس أكثر من السم في العسل

جاهلا
أن نفسي قتلتُ ،
وغيري
بوهم المماتِ اكتمَلْ

نعم ، هذا هو الحصاد على نحو حاسم ، قتل الشاعر نفسه ، وهاهو ذا يقبض على قاتله في نهاية المطاف ، يقبض على قاتله في اللحظة غير المواتية ، اللحظة التي لا يملك فيها أي قدرة على التراجع ، قضي الأمر أيها الشاعر الذي يسكنني ، نجحت في أن تقتلني ، دون أن تشعر للحظة واحدة بالإثم ، يا لقسوة الجمال ، الجمال الذي لم يمنحني في البدء سوى ذيل الضفيرة ، ولم يتراجع عن أن يزج بي في أتون الموت في لحظة النهاية

بعد عشرين عاما
جلستُ أعدُّ الضحايا
وأفتحُ دفترَ عمري
وأسألُ – عبر الرمال –
قطيعَ الأيائلِ
أين الطريقُ لبيت الحبيبةِ
ما دلني أحدٌ
وأنا في الضباب الثقيل
على ظهر زحَّافةٍ سحبتها الكلابُ
لهُ لم أصلْ

*************

يحتشد السرد الشعري في هذا النص بالمشهدية عبر التفاصيل التصويرية الحسية التي تمثل أحد التكنيكات الأساسية لدى علاء عبد الرحمن ، إذ يجد القارئ نفسه في مواجهة الصور الجزئية منذ اللحظة الأولى ، وهو يتلقى ذيل الضفيرة ويرى إلى الشاعر يكتب عليه لحنا ، ثم يراقب حركة الشاعر مندفعا كالنوافير صوب فضاء المجرة أو كالرصاص في أفق اليمام ، وعلاء عبد الرحمن لا يسعى من خلال هذه التفاصيل إلى رسم لوحة تقليدية يمكن أن تنسجم أبعادها في إطار مكاني واحد ، وإنما هو يسعى إلى خلق لوحة تنسجم أبعادها في الزمان ، لأنه متجه من أول النص نحو طرح إشكال وجودي يتجاوز البعد المكاني ليحل في الزمن الخالص ، ونحن في الصورة أمام فضاء فوقي يتحقق فيه اندفاع ماء النوافير إلى أعلى ، بقدر ما يتحقق فيه حضور اليمام ، وحضور الرصاص أيضا ، ثم يواجه القارئ أيضا صورة الشاعر وهو يرقص كالهنود على النار وهو يحمل لوحته التي يتلاقى فيها سرب الكناريا والبرتقال الربيعي ونهر الشعل ، يرفع لوحته عبر المجرة في مواجهة الكوكب الملون ، يقفز مثل الحصان فوق سور بستانه الكهرمان ، ثم يعاين القارئ غضب الكوكب ، الذي يرمي الشاعر بداء الحنين عبر نظرة أخيرة فينطلق هذا الحنين على شكل موجات جاما ، وينتهي المشهد بإدراك الشاعر أن العسل لم يكن شيئا غير السم القاتل ، ثم يواجه القارئ صورة الشاعر بعد عشرين عاما يعد الضحايا ، ويسأل قطيع الأيائل عبر الرمال عن بيت الحبيبة .

إن علاء عبد الرحمن لا يقصد إلى المعنى قصدا مباشرا قط في أيٍ من قصائده في هذا الديوان ( نمر يشرب النسكافيه ) ولكنه يتجه إلى خلق الإحالات كما ذكرنا في دراسة سابقة لقصيدته ( متر ونصف ) وهو عبر الإحالات يقود وعي المتلقي إلى غاية النص في مهارة لافتة ، ونلاحظ أن علاء عبد الرحمن بارع جدا في إنتاج الصورة وفق شروط الإحالات ، فحين يكون الأمر متعلقا بصيرورة الجمال في أحوال لا تكاد تثبت ، يتجه إلى الصورة التي لا تنسجم إلا في الزمان ، وحين نصل إلى مشهد العدمية في المكان ، يُثبِّتُ الشاعر جزئيات الصورة لتقبلَ شرطَ الاتساق وتصبحَ أبعادها قائمة في توافق مكاني متسق ، لأن الشاعر يهدف حالئذ إلى أن يتشيأ الموت مكانيا على نحو كامل

مثل جلمود صخرٍ
مشيت إلى قاتلي
في المرايا
وكان ارتحلْ
فجلستُ على القبر - قبري –
كطير الغُرابِ أنادي
وليس يُجيبُ الطَّلل

الخميس، 25 ديسمبر 2014

مساومات على مفرق التواطؤ قراءة في ديوان "الرياح أهدرت حقها في المجئ" للشاعر أحمد حنفي

مساومات على مفرق التواطؤ

قراءة في ديوان "الرياح أهدرت حقها في المجئ"

للشاعر أحمد حنفي

بقلم / صالح أحمد


لواحدٍ من جيل 2000 الذي مازال يتخلق، يأتي هذا الديوان للشاعر أحمد حنفي(1)، بمثابة سعي إلى قصيدة تتخلى عن هذيان ذات لا ترى خارج نفسها، نحو نضوج يعي الذات والعالم محورين في دراما صراع لا ينتهي.وكذلك قصيدة تتخلص من أصوات الآباء الشعريين باحثة عن كتابة حميمية تخصها بصدق.

في هذا العمل الشعريّ،  تحشد الذاتُ نفسها في مواجهة الخارج، وعدوانه اليوميّ على استقلاليتها. فالصراع الداخلي قليل في هذا الديوان بالمقارنة مع مقارعة الخارج. وليس من الغريب أن تيمة "المساومة" هي الأكثر تردداً في النصوص، وسيطرة على ذهن الكاتب. حيث الضغط الماديّ مستمر، ليُـفقِد المرءَ قيمة بعد أخرى من إنسانيته، وصولاً إلى التواطؤ العام مع ما هو سلطويّ مهيمن، والتماهي مع خطابه الأيديولوجي الزائف. "ربما .. علقوني عليه بليلٍ تواطأ في خلسة الطيبين !".

قسّم الشاعر كتابه إلى ثلاثة أقسام (كراسات كما سماها)، وذلك على أساس من وحدة المضمون. القسم الأول (على قارعة السماء) يرصد تحولات العلاقة مع ما يرمز له دال "السماء". والثالث(ذاكرتي في رأسكَ أنت) مخصص لنصوص ثلاثة تنظر إلى الخلف، صوب الطفولة ومملكة الذاكرة. أما الثاني(هكذا أتحدث) فيشمل كل ما لا يقع تحت مضمون القسمين السالفين حيث "أتحدث" تشي بما يمكن أن يحويه حديث الشخص من أغراض شتى.

                     ********

ملامح عامة


ظاهرٌ في النصوص منحاها الواقعيّ، غير أنها ليست واقعية رواد التفعيلة (السياب – عبد الصبور – حجازي ..)، فقد استفادت من قصيدة الصورة ونموذج تفجير اللغة (جيلي السبعينات والثمانينات) عبر سرد الحدث (الأحداث) بواسطة صور تقدّم الشيء الواقعيّ مشعاً بطاقات الخيال(2)، وكذلك مارست النصوص ترميز العالم لتقدم الشيء الحقيقيّ مكتنـَفاً بالمجاز.

استخدم الكاتب التناص في بعض نصوصه مع شخصيتيْ المسيح وأبي فراس الحمداني. وقد تفاعلت ذات الشاعر مع الشخصية منتجة ذاتاً ثالثة، هي الفاعلة في النص، عن طريقها يشف كل من الذات والمتناصّ معه، كلٌّ عن الآخر. واهتمت النصوص بظروف كل شخصية تناصّت معها، مستفيدة من زمان وقوعها ومكانه والشخصيات التي لعبت دورا في قصتها (يهوذا مع المسيح – وسيف الدولة مع أبي فراس).
الشاعر / أحمد حنفي

على قارعة السماء


يستعر في هذا الجزء من الديوان صراع عنيف. بين الفرد المعاصر ومفاهيم موروثة عن الميتافيزيقا.

(بلاد من الموت تجثو
ولستُ من الماء غير مزاحٍ
تفرّغ من قهقهة الغانيات
ولستُ من الراحلين إلى لحيته.)

بين طموح إنساني وإرادة فوقية متعالية

(السماء تشيّع أوجهها المستعارة
تطهو بنصف عباءتها
وجبة للكساءِ
على حافة المطر المستطيرِ
تدلّي بقيتها في المساءِ
كما نعهد المطر الموسميّ
كما نعهد البحر في وجبة الموتِ
متشحاً بالصرامة.)

بين انجذاب باطنيّ إلى المطلق ذي طابع صوفيّ، وجملة من التعارضات تطرد العقل بعيداً "يبرر ابتعاده بالتوعك .."

(من غير قلبي..
يقدم كأس النجومِ؟
لمن أنبتت ذقنه شعرة من دمائي ؟
ومن غير قلبي ..
يردد وِرد الصباح بصوت المدائن ؟
لا قلب إلاك
أنت الذي لم يزل يرشف الودّ
من أوجه العابرين بنظرته السابحة.)

بين مسلك أرضيّ يدفعه المجتمع(الرفاق يضحكون ساخرين- النساء تشتهيني – الفاتحين بلادا من الفتيات ..)في تعاريجه، ومسلك سماويّ يدلّ إليه الماضي

(غير أنّ رفاقي يعضون أنفسهم ضحكاً
فاصبغيني بلونك
حين تنوء النساء بصبغي
وقصي عليهن قصتنا..
كيف كنا..
نمارس فرحتنا في الميادين
في برد ديسمبر المستحيل
وكيف نبدل أرواحنا في المساءِ
لماذا تمنيتُ..
أن استحيل إلاهاً على البحر ..
كي نلتقي
واغرق كل السفينِ
وأصبح عوناً لسحبكِ
تمسين عوناً لمائي.)

في هذه القصائد الخمس، نحن أمام مشروع شعري وليس قصائد متفرقة. فالنصوص متمحورة حول عدد من الرموز، كل نص يضئ جانباً منها، رموز لم تـُتخذ عرضاً بل هي من الأصالة بحيث تمثل ثوابتَ في وعي الكاتب بنفسه وبالعالم.

الرمز المركزيّ في هذا المشروع هو "السماء"، وهي مهبط ما ينزله الـله إلى الأرض ،ومن ثمّ جهة للإلهيّ، وفي سياقاتها اللغوية يحيط بها معنى العلوّ المفارق للحياة الأرضية.هذا المركز أثر على الموجودات القريبة منه فجعلها رموزاً هي الأخرى (النجوم – البحر "بوصفه المسطح المائي الذي يتقابل مع السماء في نقطة انتهاء الأفق،مما جعل الكاتب ينظر إليه كسلم إلى السماء"- وكذلك ظرفا الزمان: الصباح والمساء). والكاتب يتوسل التعبير بهذه الرموز في كل تجربة له مع السماء.

أما الخارج فقد انقسم إلى قسمين (الوليّ الصوفي والجد)من جهة يدعوان إليها، و(الفتيات-النساء –الرفاق) من جهة أخرى ينئون وينهون عنها. والعلاقة مترددة بين جفاء واتصال.
  
نكتشف خارج هذا المشروع أن مفردتيْ "الصباح" و"السماء" استخدمتا بنفس طاقة الترميز الحاصلة هنا في قصيدتين أخريين، "الصباح" في قصيدة "مشهد معتاد لي..غير معتاد له" :

(ينثني تبجيلا مزيفا
به ملمحُ الصباح)

و"السماء" في قصيدة "لم أخف أن تشاهد أمي حماقتنا" :

( أنني اعتدت أنفاسك اللاهثات عليّ
ونبضك حين يدثرني
وسيوفك ..
حين تبارز وجه السماء لكي لا تساومني.)

مما يؤشر على مدى تجذر وأصالة هذه الرموز في وعي الكاتب، كما أسلفت.

الزمن/ الإطار الفعال


ليس الزمن في قصائد أحمد حنفي شيئاً يمر، ولا هيئة جامدة يتلبسها الكون في الفصول الأربعة والليل والنهار. بل نقابل في النصوص زمناَ أشبه بالزمن الروائي لدى كُتـّاب الرواية الواقعية(3). الزمن بوصفه الظرف الموضوعي ذا التأثير على  حيوات الناس وأوضاعهم ومن ثم أمكن وصفُ مظاهره كعنصر حيّ وفعال من التجربة المرصودة .

في قصيدة (ليلة في أوائل الربيع) ،حيث الأنا فيه ناتجة من التفاعل بين شخصية الكاتب وشخصية المسيح المتناصّ معها، يأتي طقس الربيع بخماسينه وفراشاته المنجذبة إلى نارها، بنية تحتية لتجربة الصلب وتجلياً لمعناها الكوني.

المعالجة نفسها للزمن نجدها في قصيدة(ليلة شتوية). ولا يغيب عنا ما أوردناه من دور المساء والصباح الرمزي في كراسة "على قارعة السماء".

الاسمية


تغلب في قصائد الديوان العناصر الاسمية (مصدر-المعارف بأنواعها-اسم المرة...) على العناصر الفعلية التي تشير إلى زمن ماضي أو مضارع أو مستقبل. ويرجع إلى ذلك مظهر الخشونة والتصلب البادي في بنية القصائد.

ولنأخذ مثلا على ذلك المقطع الثاني من قصيدة من (الشواء يأكل الشواء)، وعدد كلماته 80 كلمة، ولا يتجاوز صفحة ونصف الصفحة من المطبوع. جاء فيه ستة مصادر [ امتداد – انتظار – صبر – انتشاء(مرتان)- قطف ] .تعرّف كتب الصرف المصدر كالآتي :" الفعل ما دل على حدوث شئ والزمن جزء منه، أما المصدر فيدل على حدث مجرد من الزمان." وعليه فإن الكاتب يجفف الحدث من زمنيته، مفضلا تشكيل النص من لوحات سكونية، لا حركة فيها. وهذا ناتجُ ذهنيةٍ نشطة، تمثلت التجربة وجزأتها إلى هذه الوحدات الجامدة، لتعيد عرضها في الوسيط اللغوي بعد ذلك.

وجاء فيه من اسم المرة أربعة [ دورة – نظرة – جلوة – وطأة ]. واسم المرة يقوم بعملية توقيف Stoppingلديمومة الحدث، من حيث أنه يكتفي بمرة واحدة من فعله الجاري. والكاتب إذ يكثر من هذه الصيغة الاسمية، يستعيض عن الحركة الدائبة في طبيعة التجربة قيد الوصف بعينات Samples من كل فعل.

وإن كانت فلسفة الجمال منذ أرسطو (فن الخطابة) حتى حداثة القرن التاسع عشر، تصر على أن "المحاكاة" هي عمل الفنان إزاء الطبيعة. فإن أحمد حنفي لا يفتأ يرينا عمل عقله على هذه الطبيعة. ففي نصوصه العالم معروض بعد تدخلات مضنية من تجزئة وتثبيت ونمذجة. إنه يشبه وعيَه بالعالم أكثر مما يتشبهُ بالعالم نفسه.

تتفاوت نسبة العناصر الاسمية من نص لآخر في الديوان، غير أنها قي العموم مرتفعة بشكل ملحوظ. وتجدر الإشارة هنا إلى قصيدة (ارتعاشات الصبار) وقد مثلت اختلافا بارزاً على شيوع الاسمية. فقد احتوت واحداً وأربعين فعلاً بنسبة 20% من كلمات النص. والقصيدة ينتظمها تدفق غنائي، ساعد على إبرازه أنها مكتوبة بضمير المخاطبة المؤنثة (أنتِ)، مما قرب السطر الشعريّ من المنطوق الشفاهي الذي تغلـّبَ على حيل الكتابة وتعسفها تجاه اللغة.

******

لا أذكر لمن  هي مقولة " إنّ الشاعر في كل ما يعمل، إنما يبحث عن الشبه "  لكن قصيدتان من كراسة "هكذا أتحدث" استدعت عندي هذه المقولة.

"معانقات عند سفح علاقة متهرئة" و "انبثاقات فردية من أنشودة الرحيل" قصيدتان طويلتان، يلفت الانتباه أنهما انتهتا في نفس التاريخ (10 ابريل 2000) ،وأن لهما نفس التكنيك، إذ يعمد الشاعر، تحت ضغط بحثه المحموم عن الشبه، إلى مطلق الإحساس "بالرحيل" و "المعانقة التي تكون عند اهتراء العلاقة"، متمثلاً مشاهد تثير في ذروتها مطلق الشعور الذي دخل النص مدفوعاً للتعبير عنه.

وعنوان القصيدة الثانية دال على هذا، إذ القصيدة مقاطع تمثل كلّ منها انبثاقة فردية : مقطع عن رحيل بين حبيبين ،مقطع في رحيل ولد عن أمه الثكلى.. وهكذا.
هذه المقاطع / "الانبثاقات" استـُخرجتْ من المقطع الأول "أنشودة الرحيل" الذي قام فيه الشاعر بإثارة معنى الرحيل مجرداً ومطلقاً. التقنية نفسها تتكرر في نص "معانقات..." وهو ثلاثة مشاهد، كل واحد منها مونولوج تراجيدي، يتقمص ..يتمثل.. يحمل الشحنة الوجدانية، عن تجربة العلاقة المهترئة التي يعيشها الشاعر.

******

يسري في هذه الكتابة تيارٌ من "السادوماسوشية" ، تتجلى في صورٍ تحتفي بالعنف والقسوة.

·   أفقأ عيني من على نهدٍ
يساوم الرموش غفوة الضجيجِ .

·   حين أصمت راحلاً في عينك العوراءِ
- من نظري إليها -

·   كان يشهد أسرارنا
لم يبح للمساء بها
حين نطفئ في وجهه التبغَ
هذا الذي نشتريه مناصفة

·   أذبحها
وتقبض النقود عند حاتيَ المدينة
وتصدق الأنباء :
"من الشواءِ .. يأكل الشواء"

وقد أراحنا الكاتب من بلورة هذه الاستشهادات المتناثرة في قوله :
"وتعجبني.. فظاظتك الأثيرة ."

******

على مدار خمس وعشرين قصيدة، السطر الأخير ينتهي بتقفية مع سطر سابق عليه، إلا ثلاث قصائد ،ليست من أفضل المكتوب، هذا بالإضافة إلى أن المقاطع كلها تنتهي بقافية على الأغلب. والحق أن هذه القوافي غير مجلوبة ،فهي ذات ارتباط عضويّ بالمعنى في نفس الوقت الذي تؤدي فيه دورها الموسيقي. بيد أن تكرار القالب يورث الرتابة ويشي بجمود شكل، يفتقد المرونة  الكافية لاحتواء مضمون، التغير الدائم هو قانونه.

ومن ثـَمّ نأمل من بعد هذا أن لا يضع الشاعر مختلف تجاربه في قالب واحد. في "رسالة الرائي" الرسالة الأشهر لـ"آرتور رامبو" يقول :
( الشاعر هو سارق النار بالفعل. يجب أن يحس ويلمس ويسمع اختراعاته. لو أن هذا الذي يعيده من هناك شكلٌ فليعطه شكلاً، لو أنه ليس بشكل فليعطه اللاشكل .. اعـثـروا على لغة ).(4)


صالح أحمد
الإسكندرية
نوفمبر 2007





هـوامـش



(1)    ديوان "الرياح أهدرت حقها في المجئ"- سلسلة إبداعات العدد234– الهيئة العامة لقصور الثقافة 2006


(2)    يفرق "د.مراد عبد الرحمن مبروك" بين الصورة الوصفية وهى التي "تصف الفعل في لحظة سكونه دون تتابعه واستمراريته. مع عدم تتابع المكان". وبين الصورة السردية وهى التي "تصف الفعل في لحظة تحركه مع تتابع الزمان والمكان". والشاهد من هذا أن أحمد حنفي يروي الحدث بما سُمّي هنا "الصور السردية". وعن طريقها يتحد الواقع الموضوعي بالخيال الذي هو من انتاج الذات، في وحدة تمثل قوام النص.
انظر (الظواهر الفنية في القصة القصيرة المعاصرة) ص95 – الهيئة العامة للكتاب طبعة 1989.


(3)    تعرّف "د. سيزا قاسم" الزمن في الرواية بالآتي : "الزمن حقيقة مجردة سائلة لا تظهر إلا من خلال مفعولها على العناصر الأخرى. الزمن هو القصة وهي تتشكل ، وهو الإيقاع."
(بناء الرواية) ص38 – مكتبة الأسرة 2004.


(4)    (السريالية في مصر) – سمير غريب – ص82 – الهيئة العامة للكتاب 1998.