رجلٌ
وامرأة
نص لعلاء عبد الرحمن
من ديوانه ( نمر يشرب النسكافيه (
رؤية نقدية بقلم الشاعر و الناقد الكبير / أ. عبد المنعم كامل
كامرئ القيس ..
كنت تورطت وقت المجاعة ..
في ذبح قلبي
لكل الجميلات
ما كان لي ناقةٌ
أو جمل
هن يعطينني
- في المقابل - ذيل الضفيرة
أكتب لحنا عليه
وأترك بعض القبل
كنت تورطت وقت المجاعة ..
في ذبح قلبي
لكل الجميلات
ما كان لي ناقةٌ
أو جمل
هن يعطينني
- في المقابل - ذيل الضفيرة
أكتب لحنا عليه
وأترك بعض القبل
*********
صرت مندفعا كالنوافير
نحو فضاء المجرة
أو كالرصاص
أصيد يمام الغزل
قمت أرقص
مثل الهنود على النار
مبتهجا أن شعري
به البرتقال الربيعي
سرب الكناريا
ونهر الشُّعَل
لم أكن عارفاً أن رآني زحل
غاضبا من سلوكي نهج َ المغول
وقفزي مثل الحصان
على سور بستانه الكهرمان
بلا ندم
أو خجل
نظرة منه نحوي
رمتني بداء الحنين
على شكل موجات جاما
لتحرق بيتزا الأمل
كان سما إذن في العسل
وأنا أتباهى
بأني أغافلُ هذا الإلاها
وأسرقُ تفاحَهُ المشتعلْ
جاهلا
أن نفسي قتلتُ ،
وغيري
بوهم المماتِ اكتمَلْ
*********
بعد عشرين عاما
جلستُ أعدُّ الضحايا
وأفتحُ دفترَ عمري
وأسألُ – عبر الرمال –
قطيعَ الأيائلِ
أين الطريقُ لبيت الحبيبةِ
ما دلني أحدٌ
وأنا في الضباب الثقيل
على ظهر زحَّافةٍ سحبتها الكلابُ
لهُ لم أصلْ
*******
مثل جلمود صخرٍ
مشيت إلى قاتلي
في المرايا
وكان ارتحلْ
فجلستُ على القبر - قبري –
كطير الغُرابِ أنادي
وليس يُجيبُ الطَّللْ
************
في الأرض مترامية الأطراف ، سعى الشاعر وراء الجمال منذ الدهشة الأولى ، وظل يسعى وراءه طوال العصور ، ولم يدرك شيئا سوى الأكوان اللغوية الخالصة ، يحرك أصابعه على الأوراق لكي يتلمس أبعاد أكوانه ، يحاول أن يقبض على عالمه في اللغة لأنه لم يمتلك في راحتيه ليوم واحد أي قدر من الجمال في أنثى حية ، أو وطن حي ، أو وجود عملي حي ، يجلس فيحدق فيما بقي له ، ولم يكن يجد سوى القصائد التي كتبها ، سوى هذا الجمال الذي اختزنه في الكلمات والصور والرموز والأيقونات التي تحتشد في جسد القصيدة ، يستعيض بذلك الجمال اللغوي الخالص عن فقدانه الجمال في الواقع ، محنة حضور الجمال المحالة ، هذه المحنة الخالدة المتنقلة في أرواح عشاق الجمال الفانين الخاسرين إلى الأبد .
وها نحن أولاء نلمس مكابدة الشاعر في هذا النص لعلاء عبد الرحمن ، أحد كبار العشاق في عصرنا الحديث ، وقد التحم بالمحنة مرة واحدة ، مر العمر أو أهلكه الشاعر في ملكوت القصيدة ظانا أنه يحقق لنفسه موقعا فريدا في العالم ، وحين يفتح عينيه لا يجد شيئا هناك على أي زاوية من زوايا الكون ، فيجلس على قبره ، القبر الذي دفن فيه ذاته ورحلته ورؤاه وخياله وقصائده ، يجلس كالغراب وحيدا في البرية ، ينادي ولا يجيبه سوى الفراغ الموحش في وجود لا معنى فيه سوى معنى الموت .
ويحسن أن نبدأ من الذروة في هذا النص المتفرد ، وذروته هي المقطع الأخير فيه
مشيت إلى قاتلي
في المرايا
وكان ارتحلْ
فجلستُ على القبر - قبري –
كطير الغُرابِ أنادي
وليس يُجيبُ الطَّلل
من هذا القاتل الذي يمشي إليه الشاعر في المرايا ؟ ، القاتل الذي لا يستطيع الشاعر أن يجده إلا في الخيال أو الوهم ، أو في المسافة بين الخيال والوهم ، القاتل الحاضر الذي لا يكاد يغيب ، والغائب الذي لا يتحقق حضوره قط ، القاتل الذي رحل من كل مكان ، وبقي في كل مكان كالشبح ، من هذا القاتل الذي يئس الشاعر المقتول من العثور عليه ، فلم يجد إلا قبره – قبر الشاعر نفسه – فجلس عليه ينادي قاتله فلا يجيبه أحد ، ليس غير الطلل القائم يفتك بالوعي موحشا ومفعما بالصمت ، وأي طلل هذا ؟ أهو طلل الشاعر المقتول أم طلل الشعر القاتل ؟ الشعر الذي قتل صاحبه ، عبر هلكوت الرحلة الطويلة وراء الجمال الذي لم يكن ممكنا في غير الوهم أو في الخيال أو في المسافة بينهما .
كامرئ القيس ..
كنت تورطت وقت المجاعة ..
في ذبح قلبي
لكل الجميلات
ما كان لي ناقةٌ
أو جمل
هن يعطينني
- في المقابل - ذيل الضفيرة
أكتب لحنا عليه
وأترك بعض القبل
لم يذبح امرؤ القيس نفسه ، وإنما ذبح ناقته لبنات العشيرة ، ذبح ناقته ليقدمها قربانا لجمالهن ، يوم دارة جلجل ، هذا اليوم الذي لم يعترف امرؤ القيس لأي يوم سواه بالخلود
ألا رُبَّ يومٍ لك منهن صالحٍ ** ولا سِيّمَا يومٌ بدارةِ جُلْجُلِ
كان امرؤ القيس يسير في هامش مواز للجمال ، فلم تكن محنته قاتلة ، ظل قادرا على الوقوف في منتصف المسافة بين الربح والخسارة ، يحتفظ بالواقع في يد ، وبالشعر في اليد الأخرى ، ولذلك بقي الشعر والواقع متوازيين ، لا يتقاطعان ، وبقدر ما كان الشعر يفرض وجوده على الشاعر في امرئ القيس ، كان الإنسان فيه قادرا على فرض شروطه على الواقع ، ظل الرجل متصالحا مع نفسه ، كان يجمع القبائل لتؤازره في سعيه لإدراك ثأر أبيه ، وظلت ناقته تؤازره في تقديم نفسها قربانا لبلوغ ما يريده من الجميلات ، كان يملك الثمن في كل مرة ، لكن علاء عبد الرحمن لا يملك ثمنا إلا الشعر ، الشعر الذي هو ذاته ، يذبحه فيذبح نفسه لقاء إدراك وهم الحرية ، ووهم الجمال
![]() |
غلاف الديوان |
ذبح الشاعر قلبه ، لأنه في زمن المجاعة لم يكن يملك ناقة أو جملا ، لم يكن يملك سوى الشعر ، ولم يحصل من الجميلات إلا على ذيل الضفيرة ، ليكتب عليه لحنا ، ويترك لهن عليه بعض القبل ، ليصبح عشق الجمال قاتلا على نحو حاسم
إن علاء عبد الرحمن لا يمشي في خط مواز للجمال ، وإنما هو قائم في نقطة التقاطع بين الواقع والجمال إلى الأبد ، وهي نقطة لا يتيسر بلوغها لكل أحد ، إنها الموت الذي أشار إليه بيكاسو من قبل وهو يفسر معنى السريالية ، إنها النقطة التي لا يكون فيها وجود ، ولا يكون فيها عدم ، ولا تكون فيها صيرورة من أي نوع ، الفردية المطلقة والوحدة المطلقة ، وبلغة علاء عبد الرحمن نفسه ، هي الجلوس على القبر الهائل في برية الكون الموحشة .
يظن الشاعر أن اللحن الذي يكتبه هو الوجود الحقيقي ، أو هو الخلود ، إنه يستبدل بالوجود الحي وجودا لغويا خالصا ، هو بغيته وهدفه وقاتله آخر الأمر
صرت مندفعا كالنوافير
نحو فضاء المجرة
أو كالرصاص
أصيد يمام الغزل
قمت أرقص
مثل الهنود على النار
مبتهجا أن شعري
به البرتقال الربيعي
سرب الكناريا
ونهر الشُّعَل
لم أكن عارفاً أن رآني زحل
غاضبا من سلوكي نهج َ المغول
وقفزي مثل الحصان
على سور بستانه الكهرمان
بلا ندم
أو خجل
نظرة منه نحوي
رمتني بداء الحنين
على شكل موجات جاما
لتحرق بيتزا الأمل
كان سما إذن في العسل
وأنا أتباهى
بأني أغافلُ هذا الإلاها
وأسرقُ تفاحَهُ المشتعلْ
جاهلا
أن نفسي قتلتُ ،
وغيري
بوهم المماتِ اكتمَلْ
يندفع الشاعر ليجلب اللغة الجمرة من سُدُمِ المجرات ، ثم لينشئ من هذه اللغة كونه ، ويؤلف منها لحنه ، هذا الذي سيكتفي بترتيب مفرداته على ذيل الضفيرة ، ثم يمضي وحيدا ، وهو يظن أنه بذلك قد وضع الوجود كله في راحتيه ، ويتوهم أنه الحي الوحيد ، يستغرق في جمال صوره وأيقوناته ورموزه ، في طقسه الأسطوري الخالص ، يمتلك البهجة كاملة وهو يرى إلى هذه الصور والأيقونات والرموز ، يحتضن بهاء البرتقال الربيعي وسرب الكناريا وأنهار الضوء ، يحتقل بوجوده القائم في لغة توشك أن تتعالى على كل حيز ، وتتأبى على كل حدود ، يركض في الفلك وبين الكواكب ، حرا إلى حد الدهشة دون أن يدرك أن كل ما يحصل عليه من بهجة ليس أكثر من السم في العسل
جاهلا
أن نفسي قتلتُ ،
وغيري
بوهم المماتِ اكتمَلْ
نعم ، هذا هو الحصاد على نحو حاسم ، قتل الشاعر نفسه ، وهاهو ذا يقبض على قاتله في نهاية المطاف ، يقبض على قاتله في اللحظة غير المواتية ، اللحظة التي لا يملك فيها أي قدرة على التراجع ، قضي الأمر أيها الشاعر الذي يسكنني ، نجحت في أن تقتلني ، دون أن تشعر للحظة واحدة بالإثم ، يا لقسوة الجمال ، الجمال الذي لم يمنحني في البدء سوى ذيل الضفيرة ، ولم يتراجع عن أن يزج بي في أتون الموت في لحظة النهاية
بعد عشرين عاما
جلستُ أعدُّ الضحايا
وأفتحُ دفترَ عمري
وأسألُ – عبر الرمال –
قطيعَ الأيائلِ
أين الطريقُ لبيت الحبيبةِ
ما دلني أحدٌ
وأنا في الضباب الثقيل
على ظهر زحَّافةٍ سحبتها الكلابُ
لهُ لم أصلْ
*************
يحتشد السرد الشعري في هذا النص بالمشهدية عبر التفاصيل التصويرية الحسية التي تمثل أحد التكنيكات الأساسية لدى علاء عبد الرحمن ، إذ يجد القارئ نفسه في مواجهة الصور الجزئية منذ اللحظة الأولى ، وهو يتلقى ذيل الضفيرة ويرى إلى الشاعر يكتب عليه لحنا ، ثم يراقب حركة الشاعر مندفعا كالنوافير صوب فضاء المجرة أو كالرصاص في أفق اليمام ، وعلاء عبد الرحمن لا يسعى من خلال هذه التفاصيل إلى رسم لوحة تقليدية يمكن أن تنسجم أبعادها في إطار مكاني واحد ، وإنما هو يسعى إلى خلق لوحة تنسجم أبعادها في الزمان ، لأنه متجه من أول النص نحو طرح إشكال وجودي يتجاوز البعد المكاني ليحل في الزمن الخالص ، ونحن في الصورة أمام فضاء فوقي يتحقق فيه اندفاع ماء النوافير إلى أعلى ، بقدر ما يتحقق فيه حضور اليمام ، وحضور الرصاص أيضا ، ثم يواجه القارئ أيضا صورة الشاعر وهو يرقص كالهنود على النار وهو يحمل لوحته التي يتلاقى فيها سرب الكناريا والبرتقال الربيعي ونهر الشعل ، يرفع لوحته عبر المجرة في مواجهة الكوكب الملون ، يقفز مثل الحصان فوق سور بستانه الكهرمان ، ثم يعاين القارئ غضب الكوكب ، الذي يرمي الشاعر بداء الحنين عبر نظرة أخيرة فينطلق هذا الحنين على شكل موجات جاما ، وينتهي المشهد بإدراك الشاعر أن العسل لم يكن شيئا غير السم القاتل ، ثم يواجه القارئ صورة الشاعر بعد عشرين عاما يعد الضحايا ، ويسأل قطيع الأيائل عبر الرمال عن بيت الحبيبة .
إن علاء عبد الرحمن لا يقصد إلى المعنى قصدا مباشرا قط في أيٍ من قصائده في هذا الديوان ( نمر يشرب النسكافيه ) ولكنه يتجه إلى خلق الإحالات كما ذكرنا في دراسة سابقة لقصيدته ( متر ونصف ) وهو عبر الإحالات يقود وعي المتلقي إلى غاية النص في مهارة لافتة ، ونلاحظ أن علاء عبد الرحمن بارع جدا في إنتاج الصورة وفق شروط الإحالات ، فحين يكون الأمر متعلقا بصيرورة الجمال في أحوال لا تكاد تثبت ، يتجه إلى الصورة التي لا تنسجم إلا في الزمان ، وحين نصل إلى مشهد العدمية في المكان ، يُثبِّتُ الشاعر جزئيات الصورة لتقبلَ شرطَ الاتساق وتصبحَ أبعادها قائمة في توافق مكاني متسق ، لأن الشاعر يهدف حالئذ إلى أن يتشيأ الموت مكانيا على نحو كامل
مثل جلمود صخرٍ
مشيت إلى قاتلي
في المرايا
وكان ارتحلْ
فجلستُ على القبر - قبري –
كطير الغُرابِ أنادي
وليس يُجيبُ الطَّلل
في الأرض مترامية الأطراف ، سعى الشاعر وراء الجمال منذ الدهشة الأولى ، وظل يسعى وراءه طوال العصور ، ولم يدرك شيئا سوى الأكوان اللغوية الخالصة ، يحرك أصابعه على الأوراق لكي يتلمس أبعاد أكوانه ، يحاول أن يقبض على عالمه في اللغة لأنه لم يمتلك في راحتيه ليوم واحد أي قدر من الجمال في أنثى حية ، أو وطن حي ، أو وجود عملي حي ، يجلس فيحدق فيما بقي له ، ولم يكن يجد سوى القصائد التي كتبها ، سوى هذا الجمال الذي اختزنه في الكلمات والصور والرموز والأيقونات التي تحتشد في جسد القصيدة ، يستعيض بذلك الجمال اللغوي الخالص عن فقدانه الجمال في الواقع ، محنة حضور الجمال المحالة ، هذه المحنة الخالدة المتنقلة في أرواح عشاق الجمال الفانين الخاسرين إلى الأبد .
ردحذفكل الشكر للشاعر الكبير اﻷستاذ أحمد حنفي على النشر و على التعليق أيضاً
ردحذفالعفو أستاذ علاء ما أنا إلا ناقل و إنه ليشرفني تعليقك كما أضاف إلىَّ القراءة لك كشاعرٍ مبدعٍ أتشرف به
حذف