السبت، 25 فبراير 2017

نقد الحياة في مجموعة (السيدة كاف) للدكتور/ عاطف عبيد

نقد الحياة في مجموعة (السيدة كاف)
للدكتور/ عاطف عبيد



بقلم/ أحمد حنفي

       قليلةٌ هي الأعمال التي تحتشد بالجمال والدَّهشة، ومجموعة (السيدة كاف) للأديب د. عاطف عبيد إحداها بالتأكيد؛ فقد ملأتني متعةً وأنا أقرؤها، لا وجود فيها للزَّمن إلا بشكلٍ نسبيٍّ نتبيَّنه من حدثٍ فارقٍ كالثَّورة (يناير) أو ما قبلها أو ما بعدها، وربما أنشأ لقصَّته حدثها الزَّمني الفارق كما في قصة (مغازي وحكايته ص147) مما أكسبَ تلك النصوص مرونةً وحيويَّة.
نقلَنا الكاتبُ لعدَّة أماكن؛ فمن ريف (كفر الشيخ) بقراهِ وعزبهِ وترعهِ ومصارفهِ إلى (القاهرة) بازدحامها وموالدها وشوارعها وفتياتها إلى ( الإسكندرية) و(دبي)، وبالرغم من ذلك لم يكن المكان بطلاً بقدر حضور الشخصيات والأحداث والعادات والتقاليد؛ فالشخصيات على مدار المجموعة مثَّلوا محوراً رئيسيّاً للسَّردِ، ولم يفت الكاتب تشريح المجتمع ونقده في تضاعييف قصصه وإن اتسمَ نقده بالسلبية؛ حيث لم يناقش ولم يفرض رأيّاً فلسفياً أو اتجاهاً أيدلوجياً، إنَّه اكتفى بالعرضِ وتركَ للقارئِ مساحته التي يقبل من خلالها أو يرفض تلك العادات والمسالب المجتمعية.

ووجدتني مدفوعاً بعد أن انتهيت من القراءة الأولى للمجموعة نحو البحث عن إجابة لتساؤلي، من أين تأتي تلك المتعة التي أثارتها بنفسي تلك النصوص؟ ثم بعد ذلك، ما الذي دفعني إلى إعادة قراءتها قبل تدوين ملاحظاتي على الورق؟ أهي من طزاجة الأفكار المطروحة؟ أم من بنائية النص ذات الطابع السردي السلس؟ أم من اللغة المتدفقة بعفويتها المنتمية لبيئتها؟ أم تراها كل ما سبق؟ ربما تكون القراءة التالية مجرد تفسير لتلك المتعة أو محاولة للبحث عن إجابة.


الشخصيات:

1- السيد كاف:

وهي التي عنونَ بها المجموعة، إنها امرأةٌ تتبدَّلُ في أحوال العشقِ، تنتقلُ من عاشق لآخر، مخلصة في خيانتها! لم يرسم لنا الكاتب صورة واضحة عن تكوينها الجسماني والنفسي والاجتماعي، بل نراه وقد رسم لها (صورة قلمية) لا تعتمدُ على مواقفَ وتصرفاتٍ وأحداث محددة، وإنما هي صورة أخلاقية لم يكشف فيها عن دوافع ذلك السلوك المنحرف، لتصير بذلك (السيدة ك) رمزاً وأيقونة للمرأة اللاهية اللعوب وتستحيل أنموذجاً متحرراً من قيديِّ الزمان والمكان، وهي (السيدة س) بالنسبة لي و(السيدة ص) ربما لآخرٍ، وهكذا.
إنَّ اختيار ذلك النموذج كعنوان للمجموعة يشي بانتشاره بين دفتيها، وهو ما تحقَّق بالفعل كما سنعرض لاحقاً.

2- عيسى المهدي:

ظهرت تلك الشخصية في ثلاثة مواضع (ص13، 33، 131)، يبدو شخصاً هامشيّاً، بلا أحلام تُذكر وبلا تاريخ موثَّق نطمئن إليه، تعمَّد الكاتب ألَّا يلتفت لهيئته ولا لوضعه الاجتماعي ولا لحالته النفسية كمكونات ثلاثة تحدد رسم الخطوط العريضة لأي شخصية، وربما لم يرَ أهمية لذكر تلك المكونات في ذلك النموذج الإنساني على الإطلاق، لكن هناك بُعداً رابعاً كان الأولى باهتمامه؛ إنَّه بُعد العقل الباطن، وهو ما تحدَّث عنه د. محمد مندور في كتابه (تأسيس فنون السرد وتطبيقاتها ص86) حيث ذكر أنَّ العقل الباطن "منطقة مظلمة داخل العقل البشري تكبت ثم تحجز فيه بعض النزعات والغرائز التي تقضي قواعد الأخلاق ومواصفات المجتمع وتعاليم الديانات بكبتها، فتترسَّب تلك المكبوتات فيما سمَّاه فرويد بالعقل الباطن ولكنها لا تموت، بل ربما زادها الكبت عنفاً وضراوةً. وهي تتحيَّنُ الفرص لتسيطر على سلوك الإنسان لا شعورياً وعلى غير وعي منه"

بالفعل لقد أثَّر ذلك العقل الباطن على سلوكيات وتصرفات شخصية (عيسى المهدي)؛ فإحساسه الدَّائم بالتهميش وعدم الأهمية جعله ذات مرة يجذب طرف الحديث ناحيته للتَّفاخر بأنَّه كان السَّائق الخاص للمشير/ عبد الحكيم عامر، ربَّما أراد أن يستمدَ شرفاً فاته أو أن يبني تاريخاً يفاخر به ويُقلِّل من شعوره بانعدام حيثيَّتِه، ونراه مرةً أخرى لا يكترثُ لابنه الذي تبحث عنه الشرطة وإنما وجد في ذلك مصدراً للفخر، يقول: "والله عندك واد بيحارب الحكومة يا عيسى يا مهدي" [ص34]، ونراه مرةً ثالثة يُحدِّثُ حمارته التي تتلكَّأ في مشيتها بنبرة صاحب الأمر والنَّهي. وبالتالي فإنَّ ذلك الصراع بين واقعه العادي غير الحافل بالإنجاز وبين رغبة عقله الباطن في صناعة تاريخ شخصي جعله يتحيَّنُ الفرصَ لا شعوريّاً لتزييف واقعه.

3- تجريد الشَّخصية:

اعتمد الكاتب على تقنية رمزية أو هي إليها أقرب في ومضتِه (لقاء ص152) حين جرَّد الشخصية من بشريَّتها وسمَّاها بصفتها، يقول: "التقى حزنان على قارعة الطَّريق فغمز كل منهما للآخر مبتسماً" إنَّهما نموذجان إنسانيان خالصان للحزن تقابلا صدفة وتآزرا بابتسامةٍ ربما يكون مفادها أنَّك لست الحزين الوحيد بالعالم، وهو ما فعله أيضاً بومضته (شقاوة حلم ص175) "التقى حلمان على قارعة الطَّريق"



4- المهمَّشون:

اهتمَّ الكاتب بهؤلاء البسطاء الذين يحيون من أجل كسب لقمة العيش ممَّن ليست لديهم أحلام يسعون لتحقيقها من أجل تغيير وتعديل وضعهم بالمجتمع، كتب عن الرِّيفيين البسطاء والباعة وسوق القرية وبائع الهريسة وبائعة الترمس، كما ألقى الضوء على هؤلاء الذين يتحدثون عن السياسة من البسطاء كما جاء في قصة (جوارب مسعد ص100)، يقول: "أصبح الذهاب إلى المقهى من طقوسي اليومية، أستمع إلى ضحكات هاربة من النوافذ، وحديث ساذج في السياسة، وأشياء أخرى مما تشتهر به مثل تلك الأماكن"، واستدعاء نموذج المقهى كما في المثال السابق كان موفقاً للغاية؛ حيث أصبحت المقاهي بمثابة الأندية الاجتماعية بالنسبة للمهمشين.

وربما يقوم المهمَّش بحيلة دفاعية ليقنعَ نفسه ومَن حوله أنه يحيا هانئاً، كما هو الحال في قصة (سيجارة لف)؛ فالبطل (صميدة المكاوي) يرى في قراريطه الثلاثة المشبَّعة بالأملاح أفضل في خصوبتها من فدادين العمدة، كما يرى أنه أفضل فلاحي مصر على الإطلاق ويُلقِّب نفسَه بفلاح مصر الأوَّل، ويرى أنَّ السجائر اللَّف أفضل من غيرها.. إلخ. إنَّه نموذج للمهمَّش الذي يؤكِّد على حضورِه بالرِّضا والاعتزاز بما يملك.

وقد تنوَّعت صورة المهمَّش؛ فهو المختلُّ (العبيط) تارة ص129، وهو مَن فقدَ عقله في حرب 1973 تارة أخرى كما في قصة (أبطال تحت الجسر ص107)، وقد يكون المهمَّش فتاة ليل رخيصة الأجر كما في قصة (قطعة جُبن ص91)، وهو ما دعا شخصية (سرور عطوان) في نص (الموت على جنب ص11) إلى دعوة المصلين قائلاً: "تعالوا جميعاً نجلس جوار الجدار القبلي للمسجد ونغطي أجسامنا ووجوهنا بالقشِّ حتى تُكتمَ الأنفاس ونموت على جنب كما عشنا على جنب"



تشريح المجتمع (نقد المجتمع):

يقول كوليردج "الأدب هو نقد الحياة وعليه أن يغوص في مناحيها".
ربما مالت معظم نصوص المجموعة نحو الواقعية باعتبارها تُعنى بتصوير الأشياء والعلاقات بصورة واضحة كما هو الحال في العالم الحقيقي الواقعي، فكما كان هناك اهتمام من الكاتب بتصوير الحياة اليومية للبسطاء كانت عاداتهم وتقاليدهم محلَّ عرض وتشريح في نصوصه، ويتَّضح ذلك من خلال محورين.

1- وصف فوضى المجتمع:



الأديب د. عاطف عبيد

يتَّصف المجتمع بالفوضى وعدم الانضباط وانتشار الرَّشاوي والمحسوبيَّات، ففي قصة (مطار المحروسة ص37) يجسِّد لنا ذلك كله من خلال مشهدٍ تهكُّميٍّ لطابور بمطار القاهرة، يقول: "وللطَّابور المصري ملامحه ومواصفاته الخاصة، فهو متعرِّج، مزدوج، بطيء، به أناس ينفخون الهواء ضيقاً، وآخرون يلعنون اليوم الذي جمعهم مع أناسٍ همجٍ في هذا الطَّابور" [ص38] كما لم يفته إظهار حيلة ربِّ أسرة جعل ابنه الرَّضيع يبكي بشدة ليقدمه الناس أمامهم ويفلت من الوقوف في الطابور الطويل البطيء!

كما التفت إلى عزف البعض على وتر الدِّين حين قرَّرت الديوك محاكمة ديكٍ آخر بتهمة أنَّه لم يؤذِّن لصلاة الفجر حقداً عليه من علاقته بدجاجة جميلة (قصة: ورع الديوك ص160)، إنَّهم ما كانوا ليحاكموه لولا حقدهم عليه؛ إذ لم يحاكموه لأنه عانقها، بل قاموا بالالتفاف حول الحدث وذلك عن طريق تأليب المجتمع عليه بدعوى تقصيره الديني، وبذلك تستحيل القضية من أخلاقية إلى دينية، أي من حدث خاص عارض إلى حدث عام.

وتعرَّض الكاتب إلى آفةٍ مجتمعيَّةٍ تطول المجتمع المصري منذ القدم؛ وهي ضياع قيمة الوقت، فنجد أهل القرية في قصة (مغازي وحكايته ص147) يؤرِّخون لأحداثهم بواقعةٍ طريفةٍ حدثت للطبيب البيطري الشاب حين أخرج ريحاً وهو يحاول تهدئة جملٍ هائج، لتصير تلك الواقعة حدثاً تاريخيّاً مفصليّاً عند أهل القرية!

2- التَّعرُّض لمسالب المجتمع وعيوبه:

كثيرةٌ هي الصفات التي لا تُحمد بوجودها في الفرد؛ فحين يخطئ أحدهم يتمسَّك بقراراته الخاطئة كما في قصة (كنترول زد ص43) حين أفسد بطل القصة على أخته حياتها وذلك لكونه من أعيان القرية الذين يجب أن يظلوا متمسكين بمواقفهم لا يبدِّلونها حتى لو اكتشفوا خطأهم فيما بعد.
كما عالج في قصتي (عناد ص51) و(طُرفة جدِّي ص121) صفة العناد الذي يُضيِّعُ على الفرد فرصة تحسين سلوكه، وظاهرة الإغراق في الحزن ظاهريّاً باعتباره وسيلة من وسائل كسب الاحترام المجتمعي.

وعن فوضى الدِّيقراطية وعدم فهمها على الوجه الأمثل ودفع الحاكم إلى الانفراد بالسلطة وغياب مبدأ الشورى وتكريس الديكتاتورية تدور أحداث قصَّته (نعناع برِّي ص127)، وعن اقتران السلطة بالمال والتجارة والتقاء المصالح الخاصة وتغليبها على المصالح العامة وما يقابلها من استسلام وسلبية مجتمعية تدور أحداث قصة (أيام عز ص95)
وجدير بالذكر أنَّ الكاتب تخلَّى عن عرض موقفه الخاص فيما نقل من آفاتٍ مجتمعيَّةٍ ودون انحياز لموقف على حساب آخر ليصير نقده بذلك نقداً سلبيّاً، ربما كان له وجاهته في ترك المتلقِّي يفكِّرُ في معالجة مثل تلك الآفات بطريقته الخاصة.




لقطة من مناقشة المجموعة بمختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية بتاريخ 8 مارس 2016

أدار الندوة الأديب الكبير/ أ. منير عتيبة


صورة المرأة:

معظم تجليات المرأة بالمجموعة دارت حول فكرة (السيدة كاف) المرأة اللعوب اللاهية المخلصة في خيانتها وذلك في قصص (منتهى الوفاء ص171)، (جوارب مسعد ص99)، (قطعة جبن ص91)، (زفاف مؤجل ص71)، (المرأة السنترال ص47) على سبيل المثال، لكنَّها أيضاً ظهرت بصورة الأم المضحِّية في قصة (بطتان ص177)، والمرأة الحكيمة في قصة (كمال ابن خالي ص137) متمثِّلة في شخصية (عظيمة) والتي تدير بيتها بحكمة يحسدها عليها الرجال، كما ظهرت مندفعة في قصة (فصام ص157)، وزوجة الأب المتسلطة في (أنفاس مختلفة ص145)، كما ظهرت مرة قنوعة وأخرى متردِّدة فاقدة للثقة.

إلَّا أنَّ لشخصية (صفية) في القصة التي تحمل اسمها [ص133] تُعدُّ محيِّرةً إلى حدٍّ بعيدٍ، فهي رسَّامة، فنَّانة، تنقش عبارات على مقتنيات قديمة وخواتم فضِّيَّة وذهبيَّة للسُّيَّاح، ثائرة ترى أنَّ مصر باقية، تدفعها الأحداث حتى تستشهد عند الاتحادية وبالرغم من ذلك كانت تعتاد شرب الخمر والسهر حتى ساعات متأخرة، وهي بالرَّغم من هذا الحال من التَّخبُّط والتهميش تكمن قيمتها الفنَّيَّة في سؤال مفاده - ماذا وجدت في الوطن الذي لم يلتفت إليها طيلة حياتها لتؤلفَ مقولات من أمثال (الشعب يريد)، (ارحل يعني امشي)، (مصر باقية)؟


طاقات اللغة الشعرية:

اعتمدت النصوص على ذكريات وخبرات مرَّ بها الكاتب تحتشد مجتمعةً في تلك النماذج القصصية، وهي بحكم شريطها اللغوي المحدود تلجأ إلى تركيز وتكثيف كل شيءٍ لتضمنَ اتِّساعاً في الدلالة وتعدُّديَّةً في التَّأويل لدى القارئ ليبقى النَّص متوهِّجاً مفتوحاً على مصراعيه لكلِّ قراءة واعية دون أن يخمدَ ذلك التَّوهُّج، وهي إحدى سمات لغة الشعر.

ولنختبر ذلك في ومضته (حنين ص155)، يقول: "أرادت التوبة، فاغتسلت بالخمر"، فمَن التي أرادت التوبة؟ وممَّ؟ ذلك أوَّل انفتاح دلالي يواجهنا نتجَ عن المسكوت عنه، ذلك المسكوت عنه أحد أهم وأقدم خصائص الشعر، فكما قال البحتري "الشعر لمحٌ تكفي إشارته"، رأينا ذلك في الشعر الجاهلي؛ يقول المثقبُ العبديُّ:

أفاطم قبل بينك متِّعيني        ومنعُك ما سألتُ كأن تبيني

فبأيِّ شئٍ تُمتِّعه؟ بنظرةٍ أم بلقاءٍ أم بقبلةٍ ..إلخ، وبالتالي يتركُ المساحة للمتلقي لأن يشترك معه في إكمال النَّصِّ، وتصبحُ كلُّ قراءةٍ انفتاحٌ للمعنى ورصيدٌ جديدٌ يُضاف إليه، وعلى ما سبق وجب على القارئ أن يبحث عن ملئ فراغات النَّصِّ بما يتناسب وحالته أثناء التَّلقِّي وما يتحمَّله النَّص لغةً وتأويلاً.

كما أنَّ (الخمر) كعلامةٍ لغويَّةٍ تنفتحُ على دلالتين؛ أهي الخمر بمعناها الذي عرفناه عند أبي نواس حين قال:

دع عنك لومي؛ فإنَّ اللَّومَ  إغراءُ     وداونِي بالتي كانت هيَ الدَّاءُ

صفراءُ لا تنزل الأحزان ساحتها     إن مسَّها  حجرٌ  مسَّته  سرَّاءُ

أم تراها الخمر بمعناها الرُّوحي لدى المتصوِّفة المؤشِّرة لديهم على نشوة الوصل بالذَّات الإلهيَّة رغماً على جريهم مجرى القدماء في وصفها بصفاتٍ تنتمي لبيئتها وحقلها الدلالي، كما هو الحالُ عند أمير العاشقين ابن الفارض حين قال:

شربنا على ذكرى الحبيب مُدامةً      سكرنا بها مِن قبل أن يُخلقَ الكَرْمُ

وقالوا:  شربنا  الإثمَ، كلَّا  وإنَّما      شربتُ التي في تركها عنديَ الإثمُ


أمَّا في ومضة (حنين) فلم يحدِّد الكاتب مدلول الخمر في انفتاحٍ دلاليٍّ آخرٍ، فضلاً عن كونه طوَّر صفةَ العلامة اللغوية (الخمر) من دال على الشربِ إلى دال على الاغتسال جرياً على مبدإ وجوب الغسل لمن أرادَ التَّوبة كمشاكلةٍ بلاغيَّةٍ، كما يمكن أن نكمل المسكوت عنه بقراءات أُخر.

السبت، 28 يناير 2017

نحو رؤيةٍ تسعى للاكتمال.. قراءة في مجموعة "تأكلُ الطير من رأسه" للقاص/ مصطفى زكي

نحو رؤيةٍ تسعى للاكتمال
قراءة في مجموعة (تأكل الطير من رأسه)
للقاص/ مصطفى زكي


بقلم/ أحمد حنفي



"أخبرني بما سيحدثُ لي؛ لكني لم أصدقه. أخبرني بأني سأصلب وتأكل الطيرُ من رأسي"
(صياح أخير للديك، ص 38)

"يحكون بأنَّ أحد أجدادي البعيدين قد صُلب. كان محبوساً مع نبيٍّ تنبَّأ له بأنَّه سيصلب، وتأكلُ الطيرُ من رأسه"    
(الإغواء الأخير لرجل عادي، ص 44)
..............................................................................

الكاتب/ مصطفى زكي

إننا نتعامل مع كاتبٍ يرى في المطبوعِ مشروعاً ونسقاً مخططاً، وليس مجموعةً من القصصِ المتفرقةِ كُتبت في فتراتٍ متباعدةٍ وبطرائقَ مختلفةٍ وبمضامينَ تكون نتيجة انفعالٍ لحظي بحدثٍ أو بموقف..

إنه يكتب وجهةَ نظره .. رؤيته .. مشاكل وطنه وأزماته .. كما يطرحُ حلولاً تبدو في ظاهرها تخاذلاً وسلبيةً لكنها تحمل في طياتها ثورةً وتطلعاً للأفضل.
المجموعة (تأكل الطير من رأسه) إنما حقيقتها التي تبدو عليها أنها عدة بِنىً تشتركُ مجتمعة في تشكيل الرؤيا وتأطيرِ ملامحها.

أربعُ كراساتٍ تحملُ عناوين (نوستالجيا - حكايات قديمة - حظر - حلول) حوت جميعها تسع عشرة قصة، يسبق تلك الكراسات مدخل بعنوان (إيكاروس 1) ويختتم مجموعته بخروج (إيكاروس 2)
وقبل المدخل مباشرة يوجد تصديرٌ من كلمات الكاتبة المكسيكية (أمبارو دابيلا) تقول: "لقد عشنا ليلة ليست لنا، وسرقنا تفاحات، وأشاروا علينا بعلامةِ الصليب، ووصمونا بالخطاة"
في ضوء ذلك التصدير نستطيع استشراف الجو العام الذي سيغلف المجموعة ويلقي بظلاله عليها، ربما ما سنقرأ هو محاولات لا نهائية لانتزاع الفرحة من بين براثن الواقع الجاثم على صدورنا، وربما الحلم والأمنيات الذي ننتظر تحقيقها، كما نستطيع أيضاً استشراف خيبة الأمل وتوالي الإحباطات كجوٍ نفسيٍ يطلُّ برأسه من جملة "أشاروا علينا بعلامةِ الصليب، ووصمونا بالخطاة"


(المدخل- الخروج)

هناك ما يجمع تلك الكراسات بين دفتيه، قام بذلك كلٌ من المدخل (إيكاروس 1) والخروج (إيكاروس 2)، فما دلالة ذلك؟
(المدخل و الخروج) مستلهمان من أسطورة تنتمي للميثولوجيا اليونانية حول "ديدالوس" وابنه "إيكاروس" بعد أن سجنهما "مينوس" ملك جزيرة كريت داخل متاهة، الحل الذي ابتكره "ديدالوس" هو الخروج من المتاهة طائراً بعد أن ثبتا أجنحة على ظهريهما بالشمعِ، لينصح ابنه بعدم الاقتراب من الشمس أثناء الطيران، لم يسمع "إيكاروس" النصيحة واقترب من الشمس التي أذابت أجنحته وسقط.

المدخل والخروج قصة واحدة قُسِّمت على قسمين (إيكاروس 1) الأزمة والتفكير في الحل، ذلك الحل الذي ينطوي على أنانيةٍ مطلقة من "ديدالوس" لأنه (كان يعلم من داخله بأنه -إيكاروس- لن ينجو، وأنه سيكمل طريقَه وحده.. وأن "إيكاروس" سيذهب للأبد..) ص 11

أما (إيكاروس 2) تمثل فكرة الخلاص المتمثل في إرادة "إيكاروس" الحرة بالاقتراب من الشمس. وبذلك نجح الكاتب في أمرين هامين أحدهما فني والآخر تقني؛ الأمر الأول يتمثل في مبدإٍ من أساسيات الفنون بصفةٍ عامة وهو (مبدأ العزل والاختيار)؛ عزلَ من قصته - بجزأيها - أسماء بعض الأعلام بالأسطورة كما عزل أسباب السجن والتفكير بالهروب وتثبيت الأجنحة بالشمع - على الرغم من أهميته في توضيح أسباب السقوط - لقد قام (مصطفى زكي) بعزل كل ما سبق ليتبقى الحدثُ مكثفاً مركزاً، كان التبئير لديه مسلطاً على فكرة الخلاص، وهو خلاص غير نوعي .. غير مُسبَّبٍ .. إنَّ الكاتبَ - وعلى مدار مجموعته - دائم الاتكاءِ على النتائجِ دون إرهاق المتلقي بتفاصيلَ لن يجني منها سوى البعد عن الرؤية وربما الملل، إنه يفتحُ الفضاء الدلالي في المسكوت عنه/ ما قام بعزله من أحداث، لتبقى الأزمة مطروحةً أمامنا بنتائجها دون مقدماتها تفصيلاً، تبقى أمامنا الخطيئة التي ارتكبها "ديدالوس" وأنانيته؛ فلم يهرب من متاهته - التي صنعها بنفسه - منفردا بل أخذ ابنه معه بالرغم من يقينه بعدم نجاته، وكان الخلاص الذي اختاره "إيكاروس" بالسقوط خلاصاً دراماتيكياً لحياةٍ بائسةٍ ..

لقطة من الندوة التي أُلقيت بها الدراسة بمركز الحرية للإبداع بالإسكندرية بتاريخ 19 أكتوبر 2016
أدار الندوة الناقد الكبير أ. عبد الله هاشم

أما الأمر الثاني الذي نجح فيه الكاتب وهو تقنيٌ بالأساس يتمثَّلُ في تقسيم القصةِ لجزأين (مدخل وخروج) وكأنَّ ما بينهما من قصصٍ تدورُ حول فكرةِ (الخطيئة والسقوط) وحول الخلاص بالبتر والإقصاء والانسحاب وأحياناً الاستسلام وعدم المقاومة. وعلى الرغم من تلك النهايات التي جاءت في معظمها سلبيةً على هذا النحو إلا أنها تنجح في إثارة سؤالٍ هامٍ .. ماذا بعد؟

والأمران اللذان نجح فيهما المبدع "مصطفى زكي" الفني منهما والتقني يشيان بمدى ما يتمتعُ به من رسوخٍ وتمكُّنٍ فيما يقدمُ لنا من أدبٍ ورؤية توشكُ على الاكتمال والتبللورِ؛ فكما أنَّ أيَّ فنانٍ يستخدمُ (العزل والاختيار) فيما يقدم لنا إلا أن التوفيق فيهما هو ما يؤكدُ على مقدار ما يتمتع به أيُّ كاتب من موهبةٍ وخبرةٍ وهو ذاته ما يميزُ كاتباً يعتمدُ على الحشدِ الذي لا طائل منه - وإن كان جمالياً- وكاتباً آخر يعتني برؤيته وبوجهةِ نظره وبنفاذِ موقفِه من العالمِ إلى قارئِه، كما أنَّ القصةَ القصيرةَ كفنٍ يميلُ إلى الاكتنازِ في المشهديةِ والحدثِ أليقُ به أن يُقدَّمَ من خلالِ كاتبٍ يعي ما يفعلُ لا ليكونَ نمطياً وإنما ليكون مختلفاً في طرحهِ وأدواتِه.


نوستالجيا

النوستالجيا، هي الحنين إلى الماضي بأحداثِه وشخوصِه، كما أنه تمَّ وصفها على أنها حالةٌ مَرضيَّةٌ؛ إذ أنها تُشيرُ إلى الألمِ المصاحبِ للتَّذكُّرِ، وهي بذلك تُعتبر أحدَ أشكالِ الاكتئابِ، وبالتالي فهي حنينٌ غير سويٍّ للماضي، وقد تكونُ محاولاتٍ لاسترداد وضعٍ يصعبُ استردادُه نتيجة عدم القدرة على التَّكيُّفِ مع الواقع ومتغيراتِه وأحداثِه المتلاحقةِ، إنها شعورٌ بالغربةِ أيضاً تحياهُ الذاتُ وتنفصلُ به عن الواقعِ.

ربما يكون المصريون والعرب عامةً يحيون تلك النوستالجيا بمستوي أكبر من غيرهم؛ فالماضي التليد الضائع وصعوبات الحياة التي يتعثرُ بها الشاب في محاولاتِه الأوَّليةِ لخوضِ غِمار الحياةِ تجعلهم عُرضةً أكثر من غيرهم من شعوب العالم في الوقوع أسرى لها.

ولا يستطيعُ أيُّ باحثٍ تفسير نتائجَ مرحلةٍ ما دون الرجوع إلى مقدِّماتها، والوقوفُ على أسبابِ الأزمةِ هو أولى الخطواتِ لحلِّها، والمجموعة التي بين أيدينا تجسدُ أزماتٍ شخصيةٍ ومجتمعيةٍ وسياسيةٍ حثَّت الذاتَ المبدعةَ للتفتيشِ في ماضيها وذكرياتِها للوقوفِ على أزمتِها من جهةٍ وأزمةِ مجتمعها من جهةٍ أخرى، فكانت الكراسة الأولى (نوستالجيا) بقصصِها الثلاث تجسيداً لبعض آلام وذكريات الماضي وآماله وأمانيه.

يختارُ مكان الحدثِ في قصصِه الثلاثِ، مدرسته الابتدائية، تلك المرحلة الثرية بشخوصِها وذكرياتِها وأحداثِها، إنها "سفر التكوين" لنا جميعاً؛ وهو ذاته عنوان قصته الأولى (ص 15)، يطرحُ بها نموذجاً شاذاً وعنيفاً لمدرسٍ يتحرَّشُ بالطلبةِ (يأكلهم على حد تعبير الكاتب)، مما أدى بهم للتخلص منه بإلقائه من النافذةِ مشنوقاً. القصةُ في مجملها تفسير للعنفِ المتولَّدِ في المجتمع بالبحثِ عن جذورِه ودوافعِه.

الأمر لم يقتصر على الخبرات السيئةِ فحسب بل تعداه في قصة (فراشات ص 19) ليوضحَ تطلعات وأمنيات الأطفال في تلك المرحلة وكلها أتت خياليةً متحررةً من قيود الواقع والمنطقِ كأن تكون سحابةً لتطيرَ بعيداً، أو تجاوز الزمن لتصير رجلاً ذا شاربٍ، أو يرى أحدهم أمَّه ثانيةً والتى ربما غيَّبها الموتُ، كلها أمنيات تحملُ في طياتها أملاً جميلاً يتوافق وطبيعة الأطفال في تلك المرحلة، ومن ثمَّ يتحولون لفراشاتٍ بكثيرٍ من الفرح.

ليتعاظم لدينا الإحساسُ بفداحةِ الممارسات الشاذة للمدرسِ في القصة السابقة عليها ومدى ما قضى عليه من براءةٍ كانت تنتمي إليهم فيما سبق، ليعودَ ثانيةً لما يلاقيه التلاميذُ من عنف المدرسين وقسوتِهم واضطهادِهم في قصته الثالثة (أحمد مبروك ص 25) مما هو محفورٌ بذاكرتِه وكيف أدى به ذلك العنفُ والإحساسُ بالقهرِ إلى العصيانِ وعدمِ الطاعةِ وإلى الكبت الذي لم يستطع قلبُه أن يتحمَّلَه مستقبلاً.

نستطيعُ القولَ أنَّ "نوستالجيا" هي محاولاتٌ في كتابةِ السيرة الذاتية لا بغرض التسجيلِ وإنما بغرضِ التفسير المستقبلي لما سيطرأ على المجتمع القريب من الذات من تحولاتٍ وانهيار، وكما هو معروفٌ أن السيرةَ الذاتيةَ تعتمدُ على عمليةِ التذكر، والتذكرُ نقلٌ غيرَ أمينٍ للأحداثِ؛ هناك ما يسقطُ سهواً، وهناك ما يُخبِّأه العقل الباطن، وهناك ما يمتنع الكاتبُ عن الإفصاحِ عنه لاعتباراتٍ شتى، لكنَّه في النهايةِ يعدُّ وثيقةً نفسيَّةً من الجائزِ جداً الاتكاءِ عليها لتقديم تفسيراتٍ لتصرفَّاتٍ آنيةٍ أو مستقبليَّةٍ. لذا فمن الطبيعي جداً إذا واجهتك سلطةٌ ما (أسرية/ سياسية) بعنفٍ واضطهادٍ أن تمارس الذاتُ المبدعةُ نفس ما تلقَّنته من خبرةٍ مربيَّةٍ تعلمتها من صديقها القديم.


حكاياتٌ قديمةٌ


تحتوي تلك الكراسة على أربع قصصٍ (حانات النفس الكئيبة - صياح أخير للديك - الإغواء الأخير لرجلٍ عادي - طوف)، تتناصُ مع الموروث الديني فيما سيأتي تفصيله في موضعه، تتقمصُ الذاتُ أربع شخصياتٍ ويكون ضمير المتكلم هو السائدُ فيها، كما كان الحال في قصص (نوستالجيا)، لكن الساردَ في (نوستالجيا) هو المؤلف نفسه، أما السارد هنا يكونُ كما ورد بالقصص الأربعِ على الترتيب: (يهوذا الإسخريوطي)، (صاحب يوسف بالسجن الذي صُلب)، (صانع صليب المسيح)، (ابن سيدنا نوحٍ الذي غرق "يافث").

الأربعةُ انتهوا نهاياتٍ مأساوية؛ يهوذا الذي استسلم لخيانته فراح يُعذَّبُ من ملاحقةِ وجه المسيح ونظراتِهِ الموخزةِ وصوتِه الذي يقتله كرموزٍ لجأَ إليها الكاتب لتوضيح العقاب والألم النفسي الواقع عليه، وصاحب السجن الذي صُلبَ وأكلت الطير من رأسه وتكرار الحدث مرات لا نهائية، وصانع الصلبان الذي يصنع الألم مقابل الذهب الوفير والخمر بدم باردٍ حتى انتهى به الحال مصلوباً داخل الصليب نفسه الذي عُلِّقَ عليه المسيح في إشارةٍ لا تخلو من الرمزِ، وأخيراً ابن سيدنا نوح الذي لم يؤمن وراح يقاوم الطوفان بعبثيةٍ ولا ينتهي به الحال ميتاً بل سيظل يهرب طيلة عمره نحو "الظلام المبلل" في عذابٍ أبدي ربما يشبه من بعيدٍ "سيزيف" وصخرته.

المسألةُ لا تتوقفُ عند فعل السردِ أو إظهار عاقبة الخيانةِ، أو الاختبارِ الخاطئ وعدم التصديق، أو إظهار بأن الجزاء من جنس العمل وأن الطمع يبررُ مهنتك الدموية، أو مصير الكفرِ والعصيان، المسألة هنا - حسب قراءتي - تتمحورُ حول أخطاءِ الذات وآثامها وخطاياها، واندفاعها نحو الهاوية وهي تعلم مصيرها مستقبلاً، الذاتُ ليست ضحيةً على طولِ حياتِها بل تأثمُ وتخطئُ. ربما في محاولةٍ لإظهارِ الأثرِ السلبي الذي جنته في طفولتِها من خبراتٍ سلبيةٍ، وربما لممارسةِ الكشفِ والبوحِ والاعترافِ كنوعٍ من التطهيرِ، وبحسابات المقدمات التي تُفضي إلى النتائجِ فإن مجيء تلك الكراسةِ بعد (نوستالجيا) يؤكدُ لدي اهتمامَ الكاتبِ بمطبوعِه على أنَّه مشروعٌ يتكاملُ وترتيبه ليس عشوائياً، فتكوينُ الماضي يؤشِّرُ إلى حدِّ بعيدٍ إلى شكلِ المستقبلِ ويتنبَّأُ به.

هكذا أرى الرؤيةَ الإجماليةَ تتضحُ وتتخذُ شكلاً يبدو إلى الآن تماسكاً غير متناقضٍ، ولا أدعي بالقطعِ أنَّ استخدامَ ضميرِ المتكلمِ يعني تورُّط المؤلفِ بقدر ما هو تورط للساردِ كنموذجٍ إنساني.


حظر

انتهينا من صراع (الذات/ الذات) لنلتقي في نقلةٍ نوعيةٍ إلى صراع (الذات/ السلطة).
تطالعنا الكراسة الثالثة بعنوانِها المقلقِ (حظر)، فمن يحظرُ تكون له سلطةٌ مطلقةٌ وصلاحياتٌ لا نهائية، ومن يُفرض عليه حظراً فلا يملكُ إلا الاستسلام .. أو الثورة.

بالكراسة خمس قصصٍ (حظر - اختفاء رجل وحيد - أشياء لا يمنعها الحظر - خلوة - طيف)، تدورُ جميعها حول ذلك الصراع بين (الذات/ الفرد) وبين السلطة التي تتحدي بابتسامةٍ باردةٍ الفرد - كبنية مجتمعية - وتسخرُ من تعميتهِ وتضليله كما هو الحالُ بقصةِ (حظر) حيث يضاجعُ ضابطُ الشرطةِ زوجةَ السارد.

تلك الممارسات السلطوية المتسلطة هي ذاتها التي تدفع ذلك المعتقلُ الثائرُ في قصة (اختفاء رجل وحيد) إلى الهياجِ والصراخِ والسبابِ والاشتباكِ مع حرس السجنِ في معركةٍ داميةٍ تكون نتيجتها النهائية شديدة الألم، وعلى قسوة التجربة يتكرر الفعل مراتٍ ومراتٍ دون ذِكر مقدماته والاكتفاء بنتائجه، تلك الثورات المتعاقبة من ذلك المعتقَلِ والسكوتُ عن أسبابها إنما يشي بكثرةِ أسباب تلك الثورات ومعلوميتها للجميع مما لا يستدعي الخوض في تفاصيلها والاكتفاء بالحدث ذاته (مركز التبئير) وهو تجلٍ آخر لأهمية (العزل والاختيار) كمبدأين من أهم مبادئ الفن.

وبالرغم من تلك السلطويةِ فإن الحظر لا يمنعُ الرحيلِ إذا تحولَ المجتمع إلى سقفٍ متآكلٍ لا يمنع المطرَ ولا يسترُ محتمٍ كما في قصةِ (أشياء لا يمنعها الحظر)، وبقصة (خلوة) فضحٌ سافرٌ لتدجينِ المجتمعِ من أجل السيطرةِ عليه، المسجونُ الذي تزوره زوجته من أجل الخلوة الشرعيةِ أصبح لا يهتمُّ بلقائها قدر اهتمامه بالأكلِ، إنه يحاول تمضيةَ الوقتِ وتضييعه في عباراتٍ باردةٍ مقتضبةً وهو لما يزل بعد يأكلُ، تنتهي الزيارة وتسير خلف الصول الذي يدخل بها لغرفةٍ يبدو أنها تستخدمُ لمضاجعة زوجات السجناء، تسيرُ خلفه وتعلم ما سيحدثُ، لا تبدي مقاومةً، يضاجعها (الصولُ/ رمزُ السلطة) "فتغمضُ عينيها وهي تشعرُ بعضلات خدها الأيسر تتراقصُ بطريقةٍ آليةٍ" ص 74، كما كان زوجها يهتزُ خده الأيسر بطريقةٍ آليةٍ أثناء الزيارة، في إشارةٍ لحدوثِ نفسِ الفعل معه أيضاً.

السلطةُ إذن تكسرُ الفردَ وتُدجِّنَه من أجل إحكامِ قبضتِها. إلا أنَّ استمرارَ مجابهةِ القمع السلطوي لن تتوقف؛ فهناك طيفٌ بعيدٌ لأنثى جميلةٍ تمدُّ يدَها من بعيدٍ تطلبُ العونَ والاستمرارَ من فتى آخر إذا سقطَ أحدهم وهو يرمي الظلم بحجر، في إشارةٍ رمزيةٍ للوطن كما في قصة (طيف).
ومن أجل كل ما سبق استوجب على الكاتبِ أن يطرحَ حلولاً للخروجِ من كبواتِ الماضي وخطايا الذاتِ وصراعها المحمومِ ضدَّ تجبُّر السلطة.


حلول

يبدو "مصطفى زكي" قاتماً في حلولهِ، سوداوياً، سمحَ للواقع بإحباطاتِه للتَّدخلِ في توجيه دفَّةِ الخياراتِ التي منحها للقارئ - على كثرتِها وتنوُّعِها -؛ فالكراسةُ الرابعةُ بها سبعُ قصصٍ ( بابل - تقمص أخير - غياب - البقاء فوق رصيف مبتل - محاولات الخروج - حفل تنكري - ميكي) باستثناء قصةٍ واحدةٍ تمضي الحلولُ باتجاهٍ سلبيٍّ، هي بالأحرى أسئلةٌ يطرحها علينا، لنشاركه في الاختيارِ والإجابةِ، وربما تُمثِّلُ دفعاً للإيجابيَّةِ حال رفضها جميعاً كإحدى وسائل علمِ النفسِ المضادِ للبحث عن حلٍّ يحفظُ الكرامةَ للخروجِ من كبوةِ الصدامِ مع الذكرياتِ من ناحيةٍ، والصدامِ مع الذاتِ من ناحيةٍ ثانيةٍ، والصدامِ مع السلطةِ من ناحيةٍ ثالثةٍ.

الأديب مصطفى زكي وهو يتسلم جائزة المركز الثاني بمسابقة ساويرس الأدبية عن مجموعته تأكل الطير من رأسه

فهل يكمنُ الحلُّ في الرحيلِ عن الوطنِ بلا عودةٍ، كما في قصة (بابل)؟ أم ترانا نتقمصُ دورَ العاجزِ الجنسيِّ لتبرير إخفاقِنا في حلِّ أزماتنا ومشكلاتنا كما في قصة (تقمص أخير)؟ أم الحل يكمنُ في النسيانِ وإنكار الآخر وانتشار حالة التغييب القسري كما في قصة (غياب)؟ أم تراه في الابتعادِ عن الضغوطِ السلطويَّةِ والحياتيةِ كالرجلِ الذي ترك بيته وزوجته/ كمصدر للسلطة، وافترش الرصيف كما في قصة (البقاء فوق رصيف مبتل)؟ أم المواجهة وتحمل العواقب - وهو حل إيجابي في ظاهره لكنه لم يغير - كما في قصة (محاولات الخروج)؟ أم أنَّ معاقبةَ الآخر المتطلعُ بأنانيةٍ مفرطةٍ بنفسِ المصيرِ الذي أوشكَ أن يوقعكَ فيه هو الحل كما في قصة (حفل تنكري)؟ أم ترى الحل يكمنُ في التعرِّي وبلع الإهانات كما في قصة (ميكي)؟

جميعُها سوداوية قاتمة تعلنُ في تحدٍ سافرٍ للمتلقي إحدى مصائرِه التي يتوجبُ عليه إما قبولَها بتبعاتِها وإما البحث عن حلولٍ بديلة لا تكونُ مآلاتُها بذاتِ الكيفيَّةِ. إنه عصفٌ ذهنيٌ للمتلقي ودعوةٌ للمشاركةِ في تشكيلِ مصيرِك ومصيرِ المجتمع.

وبعدُ ..
فالحديثُ عن الرؤية التي يطرحها "مصطفى زكي" في مجموعته "تأكل الطير من رأسه" تحتملُ المزيد والمزيد، أراها وقد أوشكت على الاكتمالِ، بدءاً من صراع الذات مع ذكرياتها، وصراعها مع ذاتها، وصراعها مع السلطة، وطرح حلولٍ عليك أيها المتلقي قبولها أو رفضها حسب استعداداتك الفكرية والذهنية وأحوالك المجتمعية، إنه ينقلُ قسوة الماضي وتطلعاته، ويكشف الذاتَ وخطاياها، ويفضح السلطةَ، ويشيرُ لك على حلولٍ مستمدةٍ من الواقع لرفضها ونفيها وتجاوزها.


التحوُّلُ من الواقعيَّةِ للرمز

تسري بعددٍ لا بأس به من قصص المجموعةِ (تسع قصص - نصف المجموعة تقريباً) حالةٌ من الاتجاه نحو الرِّمزِ واللا معقولِ بعد عدةِ أحداثٍ يصلحُ أن تنتمي للواقعِ فعلاً، صياغةٌ غير مألوفةٍ للأحداثِ تعكسُ الحالة السياسية والاجتماعية العبثية التي نحياها، وذلك لمزيدٍ من بلورةِ الرؤيا وتوضيحها بشكلٍ لا يخلو من متعةٍ فنَّيَّةٍ وجماليةٍ، ذلك التحوُّل من الواقعيةِ باتجاه الدلالات الرمزيَّةِ يخلقُ تصادماً بين معقوليَّةِ الحدثِ ولا معقوليَّتِه ومن هنا تنشأُ الجدليَّة.

من الجائزِ أن تكونَ للأحداثِ السياسيَّةِ قبيل وعقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 أثرها في تلك العبثيَّةِ من "إحساسٍ بالخيبةِ والارتدادِ إلى الداخلِ والانطواء على الذاتِ" [راجع: مفهوم الواقعية في القصة القصيرة عند يوسف إدريس، د. السعيد الورقي ص 118] وهو ما يؤثِّرً على "أسلوبِ صياغة الأدب في التجائه إلى الرمزيةِ والغموض، إحساساً منه بغموض الموقف من ناحيةٍ، ومحاولة البحث عن قناعاتٍ داخليةٍ من ناحيةٍ أخرى" [السابق ص 118] مثلما فعل شباب الكتاب عقب هزيمة 1967.

القصصُ التي تحوَّل فيها من الواقعية للرمزيةِ هي: (سفر التكوين - فراشات - أحمد مبروك - الإغواء الأخير لرجلٍ عادي - اختفاء رجلٍ وحيد - طيف - بابل - تقمص أخير - ميكي) ولعلنا نكتفي بنموذجٍ واحدٍ للوقوفِ على الظاهرة.

في قصةِ (أحمد مبروك) يجسدُ "مصطفى زكي" معاناة صديقِه وما يواجهه من عنتِ مدرس الرياضيات واضطهاده له، حدثٌ عادي ربما مرَّ به معظمنا، حدثَ ويحدثُ ومن المتوقع حدوثه غداً، الولدُ نفسيته لم تتحمل، صمت بعد أن تحداه ولم يبكِ ولم ينشج كعادتِه، وقبل انتهاء اليوم الدراسي حدث أمرٌ عجيب:

"ظلَّ هكذا، لم يتحرك سوى في الحصة الأخيرة عندما سمعنا حشرجتَه ونشيجَه يعلوان، نظرنا إليه بفزع، كان يتلوَّى مكانه وهو يلهثُ، ودون سابقِ إنذارٍ قامَ بفردِ جناحينِ عملاقينِ خلفه رفرفَ بهما قليلاً قبل أن يطيرَ من الشباكِ المفتوحِ جانبه" (قصة: أحمد مبروك، ص 27)

إنَّه اختارَ طريقة (إيكاروس) في الخلاص، حدث لا معقول يتناسبُ وعبثية موقف مدرس الرياضيات وعنته غير المبررِ، كما قدَّم بذلك إشارة لموتِه وغيابِه المبكر.

يعودُ للأحداث الواقعيةِ من جديدٍ لنكتشف إصابته بجلطتين عطلت ثانيتهما نصفه الأيسر تماماً، يطلب من خطيبته أن تحلمَ به وهو سليمٍ "دون عاهاتٍ أو عطب" ص 29، ويختتم بحدثٍ لا معقولٍ آخر:

"ما علمناه بعد ذلك أن أمَّه دخلت لتوقظَه لم يكن بالفراشِ، بحثت عنه في البيت بجنونٍ؛ لكنه لم يكن موجوداً، وعندما عادت لغرفتِه، كان الشباك مفتوحاً، كانت مضاءةً بضوءٍ خافت لا مصدر له، وتفوحُ في الجوِّ رائحةُ حلمٍ" (القصة: ص 29)

إنه نوع من الاحتجاجِ على الواقع العبثي الذي يجثمُ على صدورنا.


رمزيَّةُ السقوط الجنسي

بسبعِ قصصٍ تجلَّت ظاهرة (السقوط الجنسي) كرمزٍ يعملُ على إيضاحِ الرؤيا وتعميقِ الحالة، وقد تعددت دوافعُ هذا السقوط ليقوم "مصطفى زكي" بتعريةِ الواقعِ الاجتماعي والسياسي لبيان قبحِه وقسوتِه بآن.

ففي قصص (سفر التكوين - حفل تنكري - ميكي) كان السقوطُ الجنسيُّ ذا دوافعَ اجتماعيةٍ؛ (سفر التكوين) كشفٌ وتعريةٌ للتحرشِ بتلاميذ المرحلة الابتدائية من قِبَل مدرسٍ شاذٍ (يأكلهم) يقابله صمتٌ مجتمعي وغيابٌ للراقبةِ، أما في قصة (حفل تنكري) فالتتطلع الذي لا تحكمه ضوابط أخلاقيةٍ والمحفوفُ بالأنانيةِ أوقعَ صاحبه فريسةً لمديره الشاذ ساعدته في ذلك زوجته التي كان سيضحي بشرفها من أجل ذلك، وكان التعري من أجل العمل واستئناف الدراسة الجامعية سقوطاً آخر للمجتمع لبطل قصة (ميكي).

وفي قصتي ( حظر - خلوة) جاء السقوطُ الجنسيُ انعكاساً للصراعِ مع السلطةِ، مرةً بتعميةِ الزوج وخداعه ومضاجعة زوجته برغبتها - سقوط جنسي حر - كما في قصة (حظر)، وأخرى مضاجعة من أجل التدجين وكسر الذات من (الصول/ رمز السلطة) نحو السجينُ تارةً وزوجته منزوعة الإرادة - سقوط جنسي قسري - تارةً أخرى كما في قصة (خلوة).

بينما جاء الإحباطُ السياسيُّ والاجتماعيُّ سبباً في السقوط الجنسي أو الإخفاق الجنسي في قصتي (تقمص أخير - البقاء فوق رصيف مبتل)، وبهذا الشكل استطاع الكاتبُ أن يقدِّم تبريراتٍ فنيَّةٍ تجعلُ من ذلك السقوطُ رمزاً أكثر من كونِه مجرد حدثٍ حقيقي.


استراتيجيةُ التناص

منذُ عنوان المجموعة والتناصُ ظاهرة تفرضُ ذاتَها على معظمِ قصصِ المجموعة وبخاصةٍ الكراسة الثانية (حكاياتٌ قديمةٌ)، يشتبكُ مع الموروث الديني والعقدي، فكما ذكرتُ في الحديث الخاص بتلك الكراسةِ أنَّ الساردَ تقمص عدة شخصياتٍ، قدَّم خلالها تناصاً تطابقياً في قصتي (حانات النفس الكئيبة - صياح أخير للديك) حيث كان في الأولى (يهوذا) الذي باع السيدَ المسيحَ بثمنِ عبدٍ - ثلاثين قطعة فضة - وعذابه واضطرابه في يوم العشاء الأخير، بينما في الثانيةِ صاحب السجنِ الذي صُلبَ.
وقدَّم التناصُ الانفصاليِ في قصتي (طوف - حفل تنكري) حيثُ أعلن موت النص الأصلي - فنيّاً - في النص الثاني؛ إذ لم يعلن موت ابن نوحٍ الذي لم يؤمن وتركه في عذابِه الأبدي جرياً على المعمول به في الميثولوجيا اليونانية (أسطورة سيزيف)، كما أنَّه تناصَّ مع الفيلم العربي (دمي ودموعي وابتساماتي) في قصته (حفل تنكري) تناصاً انفصالياً؛ حيثُ الزوجة التي كانت الثمن الذي دفعه لصاحب العمل من أجل حصوله على وظيفةٍ مرموقةٍ بالفيلم نراه قد تبدَّلَ وتحوَّل ليكون سقوطه الجنسي هو الثمن كما مرَّ بنا، وهو الثمن العادل لأمثالِه.


استخدام الضمائر

على الرغمِ من أنَّ "ضمير الغائب (هو) هو الأكثرُ استعمالاً في السرد الشفوي والمكتوب جميعاً" [في نظرية الرواية - بحث في تقنيات السرد، د. عبد المالك مرتاض ص 175]

إلَّا أنَّ الغلبة كانت لضمير المتكلم (اثنتا عشرة قصة)، بينما احتلَّ ضمير الغائب (ثماني قصص) باعتبار أن (إيكاروس 1&2) قصة واحدة، وذلك في غيابٍ تام لضميرِ المخاطب.

"لضمير المتكلمِ القدرة المدهشة على إذابة الفروق الزمنية والسردية بين الساردِ والشخصية والزمن جميعاً؛ إذ يستحيلُ الساردُ نفسُه في هذه الحالِ إلى شخصيةٍ كثيراً ما تكون مركزيَّةٍ" [السابق: ص 184]

وبذلك أحسسنا في أغلب قصصِ المجموعة بروحِ المؤلفِ، كما ذاب الحاجز الزمني الذي يفصل بين زمن السرد (وقت الحدث) وزمن السارد (وقت الحكي)، كما أنَّ لذلك أثره على تعلق المتلقي والتصاقه بالعمل السردي أكثر لأنه - ضمير المتكلم - يُحيلُ إلى الذات بالضَّرورةِ، وذلك أيضاً لاعتباره ضميراً للسردِ المناجاتي يستطيعُ التوغُّلُ إلى أعماق النفس البشريةِ ويُعرِّيها بصدقٍ ويكشفُ عن نواياها وأفكارها؛ وبالتالي كان الكاتبُ مدركاً لأهمية ذلك الضمير في إبراز الرؤيا.


السرد اللا زمني

تعتبرُ قصةُ (صياحٌ أخيرٌ للديك) من أبرزِ قصصِ المجموعة على عدة مستويات من حيث استخدام استراتيجية التناص إلى الإيقاع الحاد والمتسارعِ إلى الدقةِ في اختيارِ المفردات وتوظيفها، لكنَّ من المدهش والعجيب بها - على سرعة إيقاعها وتعاقب أحداثها - أن زمن السرد غائبٌ تماماً، إنها سردٌ لا زمني.

فتكرارُ الحدثِ - الصلب - يتمُّ كلَّ مرةٍ على نفسِ النحوِ، وبالتالي يتوقف الزمن ولا ينمو لأنَّ كل محاولات الفكاكِ من الحدث تفشل، إنَّه أشبه بحلمٍ للحظةٍ زمنيةٍ توقفت وتعادُ مراتٍ لا نهائيةٍ.
كما أنَّ بقصةِ (طوف) ذاتَ الظاهرةِ حيثُ توقفَ الزمنُ لحظة الطوفان ويستمر التوقف باستمرار تكرار محاولات النجاة السرمدية.


الإيقاع

استطاعَ "مصطفى زكي" أن يتحكم بإيقاعِ قصصه والارتفاعُ به وتسريعه عن طريقِ استخدامه للجملِ القصيرةِ المتعاقبةِ، وكانت الفعلية منها بطبيعة الحال أكثر إيقاعاً وديناميكيَّةً.

مثال على إيقاع الاضطراب المرتبط بالحالة النفسية في قصة (حانات النفس الكئيبة) ص 36
ومثال آخر على إيقاع الترقب في قصة (فراشات) ص 20
ومثال على الجمل المتلاحقة التي تعكس الحالة النفسية الفزعة بقصة ميكي ص 122


في النهاية ..

يتأكدُ لدينا أن "مصطفى زكي" كاتبٌ صاحبُ مشروعٍ إبداعي، يخططُ له بعنايةٍ واهتمام، لديه رؤية ووجهة نظرٍ يطوِّعُ أدواتِ فنِّه لخدمتِها.