باعَ أرضه ..

باعَ أرضَِه ..


قصة قصيرة بقلم / أحمد حنفي



ليس من السهل أبداً الكشف عن أسراره القابعة خلف عدسات نظارته العتيقة ، إنه يبدو كسلحفاةٍ حين يلوذُ بالركنِ الأكثر ظُلمةٍ على مقهى "الناموس" ليترك لساقيه البراح الذي لطالما افتقدتاه على قصرهما و اكتنازهما ، يداه المتكاتفتان تنمَّان عن رغبةٍ جارفةٍ و حنينٍ قاتلٍ لمن يملأهما ، لائذاً بكوفيته التي يدَّعى أنها إنجليزية المنشإ ، حول عنقِه المنغمسةِ بكتفيه يلفها بإحكامٍ في محاولةٍ يائسةٍ لأن يستمدَّ منها غُلالةً من ترجيع صدى البراءةِ المنتميةِ لمرحلةِ ما قبل الذهول.
عيناه أغمضهما مرغماً في استسلامٍ للذةِ استنشاقِ الدخان الأزرق الذي يملأُ أركان المقهى المنغلقة أبوابه على مرتاديه في تلك الساعةِ التي تزحفُ ببطءٍ صوبَ الفجرِ تاركاً لأذنيه المجالَ لأن تلعبَ دورَ بوابةٍ للخيال اللذيذ على خلفيةِ أصوات التمحُّنِ و الغنجِ و صرخاتِ المومساتِ و آهاتهنَ المسيطرةِ على تكوينه و الصَّادرةِ من فيلم البورنو الذي اعتادَ رواد مقهى "الناموس" أن يشاهدوه مختلطاً بأدخنتهم الملونة و كمنعتقٍ لطاقاتهم المختزنةِ و المهدرةِ بآن.
لم يكن "حمَّاد" أبداً يحاولُ الهروبَ من مشاهدة الجنسِ علناً لكن مقلتيه منكفأتانِ أكثر من اللازمِ ، غائرتانِ بحيث لن تريا تفاصيل و لا أعضاء مُرتجَّةً ، فقد آثرَ أن يغمضَ عينيه بعد أن أبدى إعجابه بأداءِ رجلٍ يضاجعُ امرأةً مُدَّعياً أنه يمتلك نفسَ المهارات و الإمكانياتِ الجسديةِ ليصطدمَ بصخرةٍ من الضحك الهيستيري من الجلوسِ يغلقُ على ألمها عينيه حين همس له أحدهم بأنفاسٍ متقطِّعةٍ من الضحك أنهم يشاهدونَ فيلماً سحاقياً ، إنه يستسلمُ للأصواتِ المرتعشةِ في إغماضته ، ليست تلك المنبعثةِ من أفلام البورنو على وجه التحديد و لكن المختلطة بأصواتٍ تنبعثُ من أعماقه الغامضة.



يطوي واقعه مع جفونه و يطبقُ عليه كأنه يخشى أن يتفلَّتَ عابراً نهرَ التوجُّسِ و البرودةِ ، بأصابعه المرتعشةِ يقبضُ على كوفيته و ليصيرَ أكثفَ اكتنازاً يعتصرُ عينيه .. يخفتُ نور الركنِ أكثرَ حتى يصيرَ متماهياً مع الظلالِ و الضبابِ لا يحرك ساكناً ، مُدَّخراً ما تبقى له من وهجٍ مؤونةً لذاكرتهِ التي انطلقت مُلبيَّةً غريزتَه لتستحيلَ أصوات المومساتِ طلقاً صناعياً لاستدعاءِ اللحظةِ السحيقةِ التي هُتكَ فيها عرضه للمرةِ الأولى خلف قضبان السككِ الحديديةِ و هو لما يزل بعدُ حدثاً.
إنه أحبَّ أن يُهتكَ عرضه ، أمسى من ليلتها يتجوَّلُ في الأرجاءِ المتاخمةِ للبحثِ عن صائدٍ جديد ، لابدَّ و أن يكونَ الصَّائدُ جديداً كلّ مرَّةٍ حتى لا يُشعر صائدَه بأن فريستَه أصبحت أسيرةَ مازوخيتها ربما كان ذلك في ظاهره تحوُّطاً من انتشارِ أمره في أوساط المثليين لكنه في حقيقته رغبةً في أن يؤتى عنوةً في كلِّ مرَّةٍ ، لم يكن ليستسلمَ لصائده أبداً و لم يتصنَّع المقاومةَ ، إنه يُقاومُ بالفعلِ ، هو يحبُّ ذلك لدرجةِ أنَّ الليلةَ التي تُفسدها مقاومتُه كان يسيرُ فيها كالمجنونِ يبحثُ عن صائدٍ جديرٍ بمهمته يشبع فيه رغبتَه المستعرةَ.
لم يكن منطقِّياً أبداً في مبرِّراته قدرَ منطقه في انتزاعِ اللذةِ ، كلُّ شئٍ يأتي في المرتبةِ الثانيةِ ، لا يهم ، فقط اللذة هي الأحقُّ بالتقديسِ و التنزيهِ ، أينما كمُنت كمُن.
يتذكَّرُ كيف بدا لونه آفلاً حين أعلنت الطرقاتُ شهادتها و هْو يفغرُ للعابرينَ سبيلاً لشهوتهِ ، عندها طرقَ الموتُ بابَ بشاشتهِ و تسربلَ معطفَه ثمَّ ولَّي لينزفَ من وجنتيه الخجل.
يتذكَّرُ كيف تعلَّقَ في شاهقٍ من ذهولٍ و أيقنَ أنَّ الرجوعَ يُكلِّفه رحلةً من بكاءٍ يُطوِّفُ فيها و يضرعُ من وثنٍ لوثن.
يتذكَّرُ كيف انتهى و هْو مشتعل الرَّأسِ ، خالي الوفاضِ ، يدحرجُ صخرتَه في ضبابِ الصعودِ ، يجرجرُ تاريخَه مديةً تتشكَّلُ كانت ، و سيفاً يموءُ على دمهِ المتخثَّرِ ، رمحاً يضاجعه في المساءِ ، ركاماً من الوجلِ المنسدل.
يتذكَّرُ .. يزدادُ انكفاءً .. يتكوَّرُ .. يظلمُ المقهى تماماً .. تسكتُ الأصواتُ ليستحيلَ المقهى جزءً من الفراغِ الكونيِّ .. يتكوَّرُ .. يتوقَّفُ عن التَّذكُّرِ .. ينزفُ من جميعِ فتحاتِ بدنهِ الآسنِ .. يتكوَّرُ .. يتوقَّفُ قلبُه عن الخفقانِ .. تنتابه غُصَّةٌ في حلقهِ .. يتكوَّرُ .. يصبحُ ككرة سلَّةٍ عملاقةٍ .. يهتزُّ بشدَّةٍ .. يسكنُ .. يهتزُ .. يزدادُ كثافةً .. يشعُّ نوراً و وهجاً و ألقاً .. ينفجرُ .. يتناثرُ أعضاءً .. يزحفُ على أرضيَّةِ المقهى كلُّ عضوٍ منفرداً و مختلطاً بالنشارةِ .. تتنافرُ الأعضاءُ .. تزحفُ .. يبحثُ كلُّ عضوٍ عن جسدٍ يحتاجهُ .. تزحفُ .. الأعضاءُ صارت أشلاءً .. الأشلاءُ تتبخَّرُ .. كلُّ شِلوٍ يبحثُ عن جسدٍ يحتلُّه .. تتبخَّرُ .. لا أجساد تُحتلُّ في فراغِ الذَّاتِ .. تتكثَّفُ عند نهرِ التَّوجُّسِ و البرودةِ .. تتشكَّلُ بفعلِ الألمِ الشديدِ و الضغطِ و أحلامِ التَّطوُّرِ .. يتكوَّرُ عارياً تحتَ ظلالِ اليقطينِ .. تنفرجُ أساريرُه .. يسيرُ غير خاجلٍ من عُريه .. يقتربُ من ضفَّةِ النَّهرِ .. يمدُّ يده بثقةٍ ليشربَ .. تنفرجُ أساريرُه .. تتلقَّفُه الأرضُ التي باعها .. تتحسَّسُ أعضاءَه .. تضمُّه لضرعها المثخنِ اشتياقاً .. تدثِّرُه بلفافةٍ من حنينٍ .. و تُربِّتُ عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق