الأربعاء، 9 يوليو 2014

هشام دياب و المحروسة (2) (إعادة إنتاج الذات في الآخر)

هشام دياب و المحروسة (2)
نجمٌ بزغَ في قصيدة العامية بمجرَّة درب الشعر

(إعادة إنتاج الذات في الآخر)


بقلم / أحمد حنفي


إن كان من اليسير أن تكتشف موهبتك ، فمن العسير أن تجد مسارك للتميز فيها ، و قالوا قديماً: الخطوة الأولى دائماً تكون الأصعب و ها أنا مازلت أخطوها ؛ فحين كتبت في مقالةٍ سابقةٍ أو بالأحرى شهادةٍ إنسانيةٍ شعريةٍ عن الشاعر السكندري الشاب "هشام دياب" و كان عنوانها (هشام دياب و المحروسة) انتقدني البعض من أصدقائنا المشتركين لأنني لم أدلل من داخل شعره على ما أسميته بالشعرية الحقيقية التي يقدمها ، و كأنهم أغرابٌ لا يرونها أو ينتظرون أن أرشدهم لما غُمَّ عليهم ، و هم بالحالين – على غرابتهما – يمتلكون نقطةً موضوعيةً لها وجاهتها و لا ينبغي لعاقلٍ تجاهلها ، و هو ما دعاني أن أتسائل إذا كان هذا حال الصديق ، فما بال الغريب الذي لم يقرأ شيئاً لهشام و يراني أصفه بالشاعر المتجاوز و الفارق ؟!


الشاعر / هشام دياب


و الحق أقول لكم ، أنني لم أشأ أن أتصدى لتجربةٍ نقديةٍ عجولةٍ يكون مآلها أن يكتنفها الخلل أو يصيبها العوار ؛ ذلك أن الشاعر الذي ينتج إبداعاً غير مألوفٍ يستلزم ناقداً غير نمطيٍّ ؛ فليس من المعقول أن تلج عالماً جديداً كليَّةً بذات الأدوات المعهودة التي ألفت استخدامها ، فالناقد حينها يشبه المستكشف الجسور و الذي لا يعلم يقيناً ماذا ينتظره في تلك التضاريس التي يطأها للمرة الأولى ، بل لعله يجد مانعاً مستعصياً لا تسعفه أدواته التي حمل من اجتيازه فيعود أدراجه باحثاً عن أداةٍ جديدةٍ من تطويره أو ربما يخترع أخرى بها من الصفات ما يرى صلاحيتها لاجتياز ما صادفه في سفرته الاستكشافية الأولى ، و هكذا يظل حائراً بين تلك التضاريس العصيةِ و بين محاولات تطوير أدواته حتى يكتشف فجأةً أن لديه الآن كل عدته الملائمة لمواصلة المسير و الاكتشاف و أن تلك الأدوات غير مألوفةٍ هي الأخرى تماماً كالأرض الجديدة التي يطأها ، هذا المستكشف الجسور – الناقد غير النمطيِّ – لما يزل يستكشف و يطور من أدواته و ربما يخترع أخرى ليستطيع القول "ها أنا ذا أكتب دراسةً عن هشام دياب" لذا فأنا غير مستعدٍ الآن لأن أتصدى لما يرقى للدراسة النقدية ، لكنني سوف أتحدث عن إحدى قصائده كقارئٍ استهوته شاعريَّةٌ متألقةٌ تلمع بالضحى أقفُ عند إشارةٍ من هنا و ملمحٍ من هناك بالقدر الذي يشي بما يتمتع به هشام دياب من طاقةٍ إبداعيةٍ متناسقةِ الأركانِ و من رؤيا و أدواتٍ و أسلوبٍ فريدٍ و لغةٍ شعريةٍ و عصريَّةٍ و حداثةٍ و مناطقَ نفوذٍ يستقلُّ بها منفرداً.

و ربما كان من المفيد ـــ و نحن بصدد الحديث عن شاعر مفارق ـــ أن نلقي الضوء على نصٍ يوضح ما نرمي إليه ؛ و لعل قصيدة "كلمات متقاطعة" من تلك القصائد التي تستحق أن نقف أمامها قليلاً ، و لكي نكون موضوعيين أكثر فيجدر بنا أن نشير إلى أن تلك القصيدة تسارع لتتم عقدها الأول ؛ فقد كتبها الشاعر بتاريخ 6 مايو 2005 . و كعادتنا دوماً قبل الحديث عن أي نصٍ نورده كاملاً لنضعه بين يديِّ القارئ الكريم ليعايشه قبل أن يقرأ ما كُتب عنه.


  كلمات متقاطعة

   أفقياً ..
   الحكمة ، الشعر ، الفحم ،
   أنا و انتم (متشابهات)
    كل الحاجات (معكوسة)
   مين اللى ألّف أول شطرة شعر ف العالم / حرف عطف
   مين اللى لحّن أول جملة حب ف العالم / للتعجب

   رأسياً ..
   كلمة من كل الحروف (مبعثرة)
   للتفسير / تخصنى
   للتمنى / حرف جر
   و ضمير الغائب (معكوسة) / للتعجب

   ملحوظة : 
   كل الأماكن بيضة ف الجدول
   والحل مش ف العدد الجى !!!!

***

يبدو جليّاً أنَّ النَّص يتميَّز بقصرٍ نسبيّ ، أنَّ جمله شديدة الإيجاز شديدة الإيحاء ، أنَّ تشكيله البصري يمثِّل علامةً سيميوطيقية تعتبر دالّـةً ذاتَ أثرٍ أصيلٍ على المعنى بل إنَّ ذلك التشكيل البصري هو الموجِّهُ الرئيسُ للمعنى و المسؤولُ عن ملء فراغات النص داخل وعي القارئ ، يبدو جليّاً أيضاً أنَّ العنوان يتجاوز دوره كمفتاحٍ أوَّليّ للولوجِ فلم يكن مبرراً لذلك التشكيل البصري فحسب بل تعدَّاه إلى إعادة طرح المعنى في ضوء القراءة الأولى للنصِّ لتجد نفسك مضطراً للتأمل من جديدٍ بقراءةٍ ثانيةٍ و متأنيَّةٍ فيما يطرحه النصُّ محاولاً كشف العلائق المشتركة بين كلِّ الإجابات التي سألَ عنها انطلاقاً من أنها متقاطعةٌ متداخلةٌ لا مستقلَّةٌ منفصلةٌ ؛ لذا فعليك اكتشاف المساحات المشتركة بين كلٍّ من ]الحكمة[ و ]الشعر[ و ]الفحم[ و ]كلمة من كُلِّ الحروف (مبعثرة)[ قطعاً عليك اكتشاف ذلك بنفسك ، و ينبغي لحظتها أن يملأك اليقينُ أنَّ ما اكتشفته صحيحاً و أنَّه كذلك مختلفاً تمام الاختلاف عما اكتشفته أنا و عمَّا سيكتشفه غيري ؛ لأنه ببساطةٍ نصٌّ موجَّهٌ إليك وحدك أيُّها القارئُ ليس من أجل أن يُمتعك ـــ لأن المتعةَ ليست من صفات الشعر عند "هشام دياب" ـــ و لكن من أجل أن تُكملَ النَّصَّ أو بالأحرى أن تُجيب عن تساؤلاته حينها نستطيع القول أن الشاعر لم يصدر عن رؤيا فحسب بل جعل قارئه شريكاً فيها ، ضالعاً في تكوينها ، متورطاً في مسئوليَّتها.

إنه يبدأ مبارزته الذهنية مع متلقيه بالبحث عن معنى (الحكمة) داخله ، تلك التي سبقت (الشعر) و ربما كانت له بمثابة (الفحم) أو الوقود الذي يشعل جذوته ، إنَّ الحكمة إذن تمثلُ السبيل لولوج الشعر و ربما لمعرفة أسباب التشابه بين الذات الشاعرة و مخاطبيها مما يؤهلها لإعادة إنتاج ذاتها في الآخر أو بالأحرى إعادة إنتاج جدليتها داخل وعي الآخر ، كذا علي الحكمة إيجاد المبرر الكافي لمعرفة السبب وراء جميع الأوضاع (المقلوبة / المعكوسة) للأشياء ..

" الحكمة ، الشعر ، الفحم ،
أنا و انتم (متشابهات)
كل الحاجات (معكوسة) "

ثم البحث عن الأوليات ؛ في أوَّلِ من كتب شعراً في العالم و أوَّلِ من لحن جملة حبّ في العالم ، و لكن أيِّ عالمٍ يقصد ؟! بالقطع إنه عالمك أنت.
أنت الشاعر الأوَّل ، و أنت أوَّل من غنى شعرك ، و بالضرورة كان حبّاً ما هو الذي دفعك لذلك ، أنت أيها الإنسان بداخلك الشاعر الأوَّل و الملحن الأوَّل ، و الدليل على ذلك حرف العطف بين الشاعر و الملحن ، فلو أنك تأملت قليلاً لابد أن تتعجب !

هكذا لم يعطف "هشام دياب" جملة الملحن الأول على الشاعر الأوَّل اعتباطاً ، كذا لم يأتِ بشبه الجملة (للتعجب) على سبيل المشاكلة مع نموذج الكلمات المتقاطعة ؛ بل إنَّ رسالةً ما يلقيها بقلب متلقيه مفادها "أعد اكتشاف نفسك كما فعلتُ" ، و بالتالي فالشاعر يعيد إنتاج تجربته في الآخر ليس بغرض الوصول لذات النتيجة و لكن لغرض البدء من ذات النقطة وصولاً للنتيجة التي تفرزها كل ذات على حدة ، و هو الأمر المدهش و الذي يستحق تأمله و الوقوف أمامه أكثر من ذلك.

و لم يكتفِ "هشام دياب" بطرح الذات في الآخر بل ترك للآخر فرصته لكتابة (كلمته / سيرته / رؤيته) و لديه كلَّ الخياراتِ ، كلَّ الحروفِ ، و كلَّ الحلولِ المتاحةِ لتسطير ذاته ..

" كلمة من كل الحروف (مبعثرة) "

و ما بين التفسير و التمني و قضايا الخاص و العام و حروف (الجر / الجبر / القهر) و ثنائية الحضور و الغياب و دهشة التعجب ثانيةً – نجد الكثير و الكثير داخلنا لنملأ به فراغات الذات و التي تحوي كلَّ ما سبق دونما فواصل واضحة بينهم ..

" كل الأماكن بيضة في الجدول "

لذا كان طبيعياً جداً ألَّا توجد حلولٍ في العدد القادم ذلك أن كلَّ ذاتٍ تطرح شفرتها الخاصة و التي تميِّزها عن غيرها ، فالحل بداخلك أنت !
و هكذا استطاع النص أن يغيِّر شيئاً ما بداخل المتلقي ، عن طريق اقحامه بإنشاء (نصه الموازي / أنموذجه الخاص) مما أعطى للنص المقدرة و الفاعلية و مِسحة من الدياليكتيك أكسبته خصوصيةً و فرادةً قلما نجدهما في قصيدة العامية.

إننا حقاً بإزاء شاعرٍ مغايرٍ و مفارقٍ ضلَّ طريقه للمحروسة العاصمة لكنه وجد المحروسة الفتاة ، المحروسة الحلم ، و التي لا يتوانى أن يهديها بين الحين و الآخر نصّاً جديداً ، مهراً فريداً لن تجده سوى عنده.

إنه شاعر لا يبحث عن إمتاع قارئه ؛ فموسيقاه جافة و يكاد لا يلتفت للقافية و جمله القصيرة تعزز ذلك الإحساس و معانيه لا تستقلُّ قطارَ الرغبةِ متوجهةً لتداعب النفس بل على العكس تماماً تستقلُّ قارباً شراعياً وقوده من رياح الشعر الصافي منطلقاً صوبَ العقلِ مباشرةً ليُعاد إنتاجه من جديد في عمليَّةٍ تبدو على تعقيدها الشديد يسيرةً سلسةً إذا ما مارسها "هشام دياب" ، أو ربما كان يرى أنَّ تلك المتعة الظاهرية لا تتعدى جسدَ النَّصِّ ، ذلك الجسد الذي لا ينبغي للقارئ أن يواقعه ، بل لعله يرمي لتلك المتعة الروحية مستدامة الأثر التي تجعلك حين تفرغ من إعادة إنتاج النص لا تملك إلَّا أن تقول أنك قرأت "قصيدةً جيدةً .. بل هي جيدةٌ إلى حدٍّ بعيدٍ"

فأن تنتج نصاً ثم يعيد قارؤك إنتاجه كليةً .. فأنت بالضرورة تؤسس لشعريَّةٍ مغايرةٍ لكلِّ ما هو مطروح .. و عليك أيها القارئ (الواعي / المدرَّب) و أنت تقرأ نصاً للشاعر المختلف "هشام دياب" ألَّا تترك وجدانك يستمتع بكلماته ؛ فغالباً لن يجد ضالته عند نصوصه ، بل عليك أن ترسل ذهنك مجادلاً شرساً بل محارباً يشبه الأبطال الأسطوريين ليناقش أفكار "دياب" غير المروضة كليّاً .. حتى إذا ما استأنسها ـــ وهي العصيَّةُ الأبيَّةُ المراوغةُ المتفلِّتةُ ـــ حقَّ له أن يُمتعَ وجدانه بما نالَ بعد طولِ عناءٍ ..

لحظتها .. و لحظتها فقط تستطيع أيها القارئُ منهوكُ القوى أن تستسلمَ للمتعةِ الخالصةِ .. المتعة التي احتلَّت الوجدان ليس دون مبرِّرٍ معروفٍ ؛ و لكن لأنها غازلت الذهن.


أحمد حنفي – الإسكندرية
الأربعاء – 9 يوليو 2014
11 من رمضان المعظم 1435

أبحاث ذات صلة:
(1) هشام دياب و المحروسة - 1
(2) تجليات البحر في القصيدة السكندرية المعاصرة
(3) انتفاء الذات في قصيدة "حكايات بتموت" للشاعر / أحمد السيد علي
(4) الذات و عبور اللحظة الراهنة (قراءة في قصيدة النثر عند أشرف دسوقي علي)


الثلاثاء، 1 يوليو 2014

انتفاء الذات في قصيدة " حكايات بتموت " للشاعر / أحمد السيد علي

انتفاء الذات
في قصيدة " حكايات بتموت "  للشاعر / أحمد السيد علي

بقلم / أحمد حنفي

( 1 ) القصيدة :

" حكايات بتموت "

حكاية
أنا راجع
و هعدي بحور الرمله ..،
و اعود
لا جيوش النعمان غلبتني
و لا حطم إيدي في قيود
أنا راجع
و معايا الضحكة ..
و الحلم
إنِّي اضمِّك ليا
أنا راجع
و معايا المهر

و قوافل م النوق الحمر
أنا شايف
على مرمى العين
الناس في مدينتي

احتضار
دبلانة يا ضحكة ورديه
عطشانة يا أحلامي الجايه
مش تلقي نهاية ترضيكي
و نهايتي مش زي ما هي

شهقة
شوف
مكتوب لي اني اوصل لمدينتي
و أقدم لعروستي المهر
مكتوب لي
أفضل وياها
و أكمل وياها العمر
مكتوب إن حكايتي معاها
تتسطر من عصر لعصر
صوتي اتنبح
بس الأكيد هافضل شبح
ملهوش وجود
وقت امتزاج ..
لون الجِمال ..
لون السواد ..
لون القبور


( 2 ) حول النص :


لواحدٍ من جيل الشباب صدر ديوان " الواد في سنِّي " للشاعر / أحمد السيد على و الذي اعتبر بمثابة التدشين الرسمي له كأحد أبرز شعراء العامية الشباب بالإسكندرية ، و النص الذي بين أيدينا اليوم له موقع الصدراة في المطبوع و قد قسمه الشاعر لثلاثة عناوين داخلية هى : ( حكاية – شهقة – احتضار ) ..

المقطع الأول: حكاية

يبدأ الشاعر نصه متناصاً مع قصة الشاعر الجاهلي المعروف "عنترة بن شداد العبسي" حين شرع في رحلته المشهورة لبلاد الملك "النعمان بن المنذر" ــ الحيرة ــ طلباً للنوق الحمر مهر ابنة عمه عبلة ، غير أنَّ تلك الرحلة لم تشقِ شاعرنا كما فعلت مع "عنترة" ، يقول:

" و هعدي بحور الرمله ..،
و اعود
لا جيوش النعمان غلبتني
و لا حطم إيدي في قيود"

ربما لجأ الشاعر إلى ذلك التمييز بين ذاته و "عنترة" لاختلاف المقدمات في القصتين و بالتالي ما يستتبعه من اختلاف النتائج ، كذا اختلاف الظرف السسيولوجي بينهما حيث ينتمي شاعرنا إلى المدينة ، يقول:

" أنا شايف
على مرمى العين
الناس في مدينتي"

لذا تحولت كل العقبات التي صادفت "عنترة" إلى رموز أكثر من كونها عقباتٍ حقيقيةً ؛ فبحر الرمال الذي عبرته الذات غير تلك التي أوقعت "عنترة" ، و دوال التعطل المرتبطة "بنعمان" "عنترة" غير دوال "نعمان" الذات.

ذلك التمييز بين الذات الشاعرة و "عنترة" و الذي لازمه تمييزاً بين دوال تعطل عبرتها الذات دون مواجهةٍ و نظيرتها التي عرقلت "عنترة" حيناً ، يشي بتمييزٍ آخر بين ذاتٍ فارسةٍ تخطَّت عقباتها و أخرى متوهمةٍ حالمةٍ مثَّلها الشاعر.

الشاعر / أحمد السيد علي


غير أن الشاعر وقع في معضلة الإفراط في التعبير عن المعنى حين قال:

" أنا راجع
و معايا المهر
و قوافل م النوق الحمر"

و ما المهر بقصة "عنترة" سوى النوق الحمر ، فضلاً عن حرف العطف الذي سبق "قوافل" و الذي جعلها جزءً من المهر لا كله.

و الواضح أن غنائيته و احتفاءه بالقافية هما ما أوقعاه في ذلك الإفراط و الذي عدَّه "بودلير" أحد سمات الشعر الزائف.


المقطع الثاني: احتضار

يأتي ذلك المقطع مغايراً في بنيته الشكلية ؛ حيث تحول الشاعر من قصيدة التفعيلة (كشكل/كقالب) إلى الرباعية ، و هو شكلٌ غنائيٌّ ذو إيقاعٍ زاعقٍ عزَّز من ذلك تفعيلة الخبب و اعتماده على نظام تقفيةٍ اُصطُلِحَ على تسميته بالعرجة (أ أ ب أ).

و قد تجاوز الشاعر مشهداً دراماتيكياً في قصة "عنترة" و لم يذكره ؛ حين جاء مظفراً بمهر "عبلة" ليجدها و الحيَّ في حفل عرسها ، ذلك التجاوز الذي أضاف للنص حيويةً و تدفقاً سيما و أن ذلك (المقطع / الرباعية) مثَّل أثر ذلك المشهد المحذوف على الذات الشاعرة من احتضارٍ للحلم و الضحكة الذين عاد بهما ، و يكون المقطع بذلك بمثابة نعيٍ للحظِّ العثر و خيبةِ الأملِ مقترباً بذلك – و إلى حدٍّ بعيدٍ – بفن "العدُّودة" أحد أشكال الأدب الشعبي اللهجي بصعيد مصر.


و قد تمثَّل ذلك الاحتضار في دالتي "دبلانة" للضحكة ، و "عطشانة" للأحلام. لكن هل يكون الموت تحققاً لذلك الاحتضار ؟


المقطع الثالث: شهقة

يفاجئنا الشاعر في بداية ذلك المقطع بالتفاتٍ لضمير المخاطب ؛ حيث كان الحديث موجهاً في بداية المقطع الأول (لحبيبته / ضمير المخاطبة) ، فكيف أدَّى ذلك الالتفات دوره في نقل المعنى و تحوله ؟

بالفعل أصبح ذلك الالتفات دالاً على انحسارِ حبيبته من الحدث فجأة ، ذلك الانحسار قد أحالها من أنثى حقيقية تتمتع بكل ما للإنسان من سمت و صفات و تتصف بكل ما (للمحبوبة / الملهمة) من وشائج و علاقات تجذبها لواقعٍ تحياه الذات الشاعرة فعلاً ، إلى رمزٍ للوصلِ و النشوةِ غير المحققين بل لا يرجى تحققهما ؛ ذلك كونها فكرةً تتموقع في ذهن الشاعر و بالتالي انتفاء وجود تلك المحبوبة بالأساس ؛ مما فسَّر لنا كيف أنَّ دوال التعطُّلِ التي صاحبت قصة "عنترة" لم تقم بنفسِ الدورِ مع الذات ، فالذاتُ لم تمر بها أصلاً في واقعها حتى توهمت سهولة تجاوزها إذا ما صادفَ و مرَّت بها.

ذلك التحول من الأنثى الحقيقية إلى (الرمز / الفكرة التي لا يرجى تحققها / الوهم) قد جعل من الالتفات دالةً سيميوطيقيةً لها دورها الرئيس في نقل المعنى ، و هو الموضوع الذي يستحق الوقوف أمامه و دراسته في ضوء الدرس السيميوطيقي ، و لعلي أتوفر عليه قريباً إن شاء الله.

و قد تحقق ذلك الالتفات منذ بداية المقطع حين قال:

"شوف"

تلك الكلمة التي لا تخلو من معاني القوَّةِ و الإصرارِ على تحقيق ما يتوهم أنَّه مكتوبٌ في طالعه .. يقول:

"شوف
مكتوب لي اني اوصل لمدينتي
و أقدم لعروستي المهر
مكتوب لي
أفضل وياها
و أكمل وياها العمر
مكتوب إن حكايتي معاها
تتسطر من عصر لعصر"

إنها رغبة الذات التي تتطلع للظفر بحلمها (العروس / الحبيبة / السعادة / الخلود) .. إنه باختصارٍ : حلمٌ لتحقيق الحلم !

إنَّ هذا التحول الفاضح للذات المدَّعية و الكاشف لعجزها و سلبيتها لم يتوقف عند حدِّ المكاشفة فحسب بل تخطَّاه إلى حدِّ الاعترافِ بالعجز الكامل عن تحقيق ذلك (الحلم / الوهم) ، يقول:

"صوتي اتنبح
بس الأكيد هافضل شبح
ملهوش وجود
وقت امتزاج ..
لون الجِمال ..
لون السواد ..
لون القبور"

و هنا كانت "الشهقة" .. شهقة الموتِ .. موت الحلمِ .. وأد الحكاية قبل أن تبدأ ؛ فالذات اكتشفت بعد إفاقتها من سكرة ذاك (الحلم / الوهم) أنها كانت و ستظل شبحاً .. لا وجود لها في العالم المادي ، ذلك (اللاوجود) لا يعني انتفاءً تاماً للذاتِ بقدر ما يعني انحسارها و تعطلها و هو المبرر للانحسار المفاجئ للمحبوبة في بداية المقطع.

و قد اشترط الشاعر وقتاً لذلك الانتفاء و الانحسار و التعطل لحظة أن يمتزج لون (الجمال / الحلم) بلون (السواد / الحداد على موت الحلم) بلون (القبور / وأد الفكرة تماماً) ؛ ربما كان لذلك التتابع الكرونولوجي أثره الدال في مراحل اكتشاف الذات لحقيقتها بدءً من تحققها وصولاً لانتفائها.


صاحبت تلك "الشهقة" انتقالاً من الخبب إلى الرجز ، الأمر الذي خفَّف من حِدَّةِ الإيقاعِ و سرعته ، ربما قصد الشاعر بذلك أن ينقل لنا حالةً من الهدوء النسبي الملائم لحالة الإرهاقِ المصاحب لقوله (صوتي اتنبح) ، و كذا التي تلائم – نوعاً – الإحباط الناتج عن اعتراف الذات بعجزها و تعطلها كتجليين لانتفائها.

و لم يتخلص الشاعر من معضلة الإفراط في التعبير عن المعنى في موضع آخر بذلك المقطع في قوله: (ملهوش وجود) ، ربما كان ذلك الإفراط ظاهرةً مصاحبةً لمعظم الشعراء في ديوانهم الأول و على شاعرنا أن يتخلص منها في كتاباته القادمة.

إجمالاً نستطيع القول أن "أحمد السيد علي" يقدم شعريةً حقيقيةً ترتكزُ على رؤيةٍ خاصةٍ و وعيٍ بأدواته التي لو أجاد استخدامها بطاقتها القصوى لأصبح من متصدري المشهد الشعري السكندري لقصيدة العامية قريباً.


أحمد حنفي - الإسكندرية
6 مايو 2014
7 من رجب 1435


أبحاث ذات صلة:


(1) الذات و عبور اللحظة الراهنة ( قراءة في قصيدة النثر عند أشرف دسوقي علي )


(2) الصورة و براعة الاستهلال في قصيدة العامية ( نص تداخلات للشاعر / أحمد عواد أنموذجاً )