السبت، 6 أغسطس 2016

الإسكندريةُ الشاعرةُ وتعاقبُ الأجيالِ

الإسكندرية الشاعرة وتعاقب الأجيال*

      بقلم
   أحمد حنفي

أحمد حنفي

          "هنا سأبني مدينتي التي طالما حلمت بها" هكذا تحدث الإسكندر الأكبر عندما وقعت عينه على قرية "راقودة"، تلك القرية الصغيرة التي تسكن بأحضان البحر، وما لبث أن فرغ من كلامه حتى أمر مهندسه "دينوقراطيس" بالشروع في تشييدها، هكذا بدأت الإسكندرية, قصة حبٍ من النظرة الأولى أوقعت الملك الشاب في غرامها ومن خلفه كل من ولد أو سكن أو مرَّ بها منذ ذلك الحين.
وتوافرت في الإسكندرية ـــ منذ عهدٍ مبكرٍـــ عبقرية المكان, فكانت القنطرة التي عبرت منها إلينا الثقافة اليونانية بكل إرثها الفلسفي والفني والعلمي وامتزج ذلك الإرث بالحكمة المصرية القديمة فتفاعلا في رقيٍّ شديدٍ وأنتجا حضارةً جديدةً تفرَّدت بها الإسكندرية عن سائر المدن المصرية واليونانية ما لبثت طويلاً لتختمر في عقول مفكريها وفلاسفتها وعلمائها وفنانيها حتى فاضت بنورها وبصيرتها فصارت البوابة التي صدَّرت العلوم والفنون ليس لبلاد اليونان فحسب ولكن للعالم بأسره.
إنَّ الإسكندرية بثقافتها الهيلينستية لتعدُّ أنموذجاً فارقاً وفريداً بين حضارات العالم؛ فلم ينشأ بها صراعاً يذكر بين حضارة الوافد الفاتح وبين حضارة المقيم, لم يفرض اليونانيون ثقافتهم عنوةً ولم يرفض السكندريون الآخر, بل امتصَّا بعضهما ليعيدا تكوين الضمير الإنساني داخل أروقة مكتبة الإسكندرية, وكان للأدب ـــ والشعر خاصةً ـــ نصيبه الوافر من ذلك التكوين.
فعلى الرغم من معرفة اليونانيين بفن "الإبيجراما" كأحد فنون الشعر لديهم, إلا أنَّ ذلك الفن ارتبط باسم شاعر الإسكندرية العظيم "كاليماخوس" والذي أخلص لهذا الفن الشعري المكثف ساخراً من شعراء الملاحم اليونانيين من أمثال "هوميروس".
ويؤكد "ثيوكريتس" على استقلالية الإسكندرية الثقافية ورؤيتها الجديدة التي تبثها في ضمير الإنسانية وذلك حين ثار على قواعد الوزن الشعري والتي كانت تقتضي وزناً معيناً لكلِّ غرضٍ شعريٍّ, وآثر أن يستخدم الوزن السداسي في معظم قصائده الرعوية, وقد عرفت الساحة الشعرية السكندرية في عصرها الهيليني القصائد المطوَّلة ـــ الملاحم ـــ ولعلَّ أشهرها ملحمة "أبوللونيوس" الشهيرة "الأرجونوتيكا" أو "بحارة الأرجو", "والتي يعتقد بعض النقاد أنها الأصل الذي خرج منه نصف الأدب الحديث, فليس القدر هو الذي يحرك الأحداث فيها كما كان الحال في ملاحم هوميروس, وإنما روح المغامرة, أي الإنسان"[1]
وهذا يدلُّ على مدى النضج الذي صدر منه "ثيوكريتس"؛ ذلك أنه رفض أن يكون الإنسان لعبةً بيد القدر يحركها كيفما يشاء لكنه رأى أنَّ الإنسان هو من يصنع مصيره أو على الأقل يتحمل مسئولية اختياراته.
هكذا كان شعراء الإسكندرية منذُ ألفيِّ عام, لم يكونوا مقلِّدين وإنما أعادوا إنتاج وتجديد الشعر اليوناني ومن ثَمَّ إعادة تصديره للتراث الإنساني من جديد, "فمن المعروف أنَّ الشعر السكندري القديم المكتوب باليونانية هو النموذج الذي حاكاه شعراء الرومان من أمثال هوراس وأوفيد"[2]
وإذا ما تجاوزنا تلك الحقبة بكلِّ زخمها وازدهارها وريادتها وقدمنا إلى الإسكندرية الإسلامية نلتمس شعراءها بين شوارعها الجميلة والتي مازالت محتفظة بتخطيط "دينوقراطيس" لها مع تناغم عجيب ببناياتها المتعددة ذات الطابع الإسلامي من دور وقصور وحمامات وبساتين وأحياءٍ جديدةٍ نشأت لتستوعب الوافدين من العرب الفاتحين من قبائل لخم وجذام والتي استوطنت - ومازالت - غرب الإسكندرية، ذلك التناغم لم تفسده العمارة الرومانية التي توسَّطت الحقبتين اليونانية والإسلامية، حتى أضحت شوارعها متحفاً مفتوحاً تقف منارتها - إحدى عجائب الدنيا - حارساً على كلِّ ذلك وشاهداً على مجدٍ يضرب بجذوره في الماضي.
ليكون موعدنا مع القرن السادس الهجري؛ فلم يكن مقدَّراً للإسكندرية أن ينبغ بها شاعرٌ عربيٌّ من أبنائها ويذيع صيته ليملأ كلَّ أرجاء مصر قبل ذلك القرن, والذي بذلت الدولة الفاطمية فيه كلَّ غالٍ وثمينٍ من أجل بناء دولةٍ تنافس العباسيين في الترف والأبهة، يقول "جوستاف لوبون" في كتابه حضارة العرب: "يتصف عصر الفاطميين, الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون ... وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد ... وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور"[3]
وكان للإسكندرية نصيبها من ذلك الترف مما عمَّق تراثها المعماري من تشييدٍ للمساجد والمدارس والتي عملت بدورها على تعميق ثقافة أبنائها؛ إذ "كانت المساجد مراكز فكرية, فالجامع الجيوشي كان مركزاً هاماً من مراكز الفكر بالثغر, تصدَّر به أكبر العلماء لتدريس الفقه والقراءات والنحو وغير ذلك"[4]
وساعدت هذه البيئة العلمية النشطة في الإسكندرية على إقامة حركةٍ شعريةٍ بالثغر حيث "كانت بها آنذاك نهضة شعرية واسعة"[5]
وقد أشار د. شوقي ضيف إلى أنَّ الثقافة العربية الإسلامية هي ثقافة شعبية عامة تُلقى في المساجد، وكان للشعراء فيها حلقات أتاحت لشباب العامة المشاركة في الشعر وغير ذلك من العلوم.[6]
فساعدت هذه النهضة الثقافية على انتشار التعليم وظهور طبقة من العلماء والأدباء والمشتغلين بالفلسفة أعطت الإسكندرية قوتها الثقافية التي ساعدت على تشكيل وعي[7] أبنائها فلم يكن عجيباً إذن أن نرى شاعراً حداداً مثل "ظافر الحداد السكندري" (ت:529ه) أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية وحتى عصر النهضة بلا منازعٍ.
وكان شعراء الإسكندرية في العصر الإسلامي والذين نبغوا في الشعر كثيرين، منهم "ابن قلاقس" الشاعر الرحالة الذي عشق البحر وطوَّف في أرجائه شمالاً وجنوباً ما بين صقلية واليمن واتصل بالخليفة العاضد آخر الخلفاء الفاطميين وعندما بارت سوق الشعر بمصر ارتحل خارجها وقضى نحبه وهو مازال في الخامسة والثلاثين تاركاً ديواناً بثَّ في أرجائه حديثه عن الإسكندرية والبحر ومنارتها.
كما مكث بها من غير أبنائها الكثيرون فمنهم "أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي" ـــ صاحب الرسالة المصرية ـــ، والإمام البوصيري ـــ صاحب البردة عين عيون المديح النبوي ـــ وبها توفي ودُفن، و"تقيَّة الصورية"، وغيرهم العديد والعديد، منهم مَن هم مِن أبنائها ومنهم مَن وفد عليها واستقرَّ بها حيناً وخلَّف لنا شعراً ينتمي إليها؛ فشعر الإسكندرية "يتجاوز شعراءها الذين ينتمون لها إلى غيرهم من الشعراء الذين تغنوا بالإسكندرية دون أن يكونوا سكندريين، وحتى دون أن يكونوا مصريين"[8]
وهذا الحد للشعر السكندري ـــ تراث الإسكندرية الشعري ـــ والذي وضعه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي مقبولٌ إلى درجةٍ بعيدة؛ فالإسكندرية كانت دوماً محط أنظار الشعراء يأتوها للاستجمام أو الاستشفاء أو طلباً للعزلة عن واقعهم للتواصل مع أعمق نقطةٍ بوجدانهم بحثاً عن حالةٍ إبداعية ذات طابعٍ مستقل.
ويردف حجازي بقوله:
"الإسكندرية لم تكن لكلِّ شعرائها وطناً أو مسقط رأس لكنها كانت بالنسبة لهم حلماً أو فكرة"[9]
وما كاد يطلُّ علينا العصر الحديث حتى ازدادت أعداد شعراء الإسكندرية وازدانت بهم وأخذ التراث الشعري السكندري في النمو سواء كان شعراً عربياً أم زجلاً أم شعراً مكتوباً بلغاتٍ أخرى كاليونانية والإيطالية.
والإسكندريةُ غنيةٌ بأدبائها أثَّرت فيهم ــ ولـمَّا تزل ــ ونراها مبثوثةً في كتاباتهم شعراً ونثراً تحتضن أحرفهم وتحنو عليهم، فتلك الحقبة التي عاش فيها "بيرم التونسي" (ت:1961 ) و"خليل شيبوب" (ت:1951) و"عتمان حلمي" (1894 – 1962) و"عبد الحميد السنوسي" شهدت الجم الغفير من الشعراء المتميزين أمثال "نقولا فياض" (ت:1959) – "وردة اليازجي" (ت:1924) – "عبد الرحمن شكري" (ت:1958) – "زكريا جزارين" (ت:1955) – "حسن فهمي" (ت:1930) – "محمد غالب" (ت:1950) – "فخري أبو السعود" (ت:1940) – "عبد اللطيف النشار" – "محمد مفيد الشوباشي" – "أحمد راسم" (ت:1958) – "منيرة توفيق" (ت:1965).
كذلك العديد من الشعراء غير العرب الذين تنتمي أشعارهم لتراث الإسكندرية الشعري، نذكر "قنسطنطين كفافيس" الشاعر اليوناني العالمي ـــ "أونجاريتي" الأب الشرعي للشعر الإيطالي الحديث ـــ "مارينيتي" رائد المدرسة المستقبلية في الشعر والنثر ـــ "راؤول ولكنسون" ـــ "هنري تويل" ـــ "ألك سكوفي" ـــ "رنيه تاسو" .. وغيرهم العديد.
وتستمر الإسكندرية في إنجاب أجيال جديدة من المبدعين شعراً وسرداً ونقداً، وها هو مؤتمرنا الذي يسلطُ الضوءَ على جيل جديدٍ ومتميِّزٍ من شباب الأدباء والنقاد لعلَّه يؤشرُ بصدقٍ إلى المستقبل الواعد للحركة الأدبية بالإسكندرية وقدرتها على التواصل والمواصلة كعلامةٍ مائزةٍ على جبين الضمير الإبداعي العالمي.



* الكلمة التي ألقيتها في مؤتمر اليوم الواحد لفرع ثقافة الإسكندرية بعنوان (إبداعات الشباب السكندري - دورة الراحل خالد السروجي) يوم 2 يونيو 2016 والذي شرفت بأمانته العامة .. وكان المؤتمر تحت رئاسة الشاعر والناقد الكبير/ أ. أحمد فضل شبلول

[1] شعر الإسكندرية و شعراؤها ، أحمد عبد المعطي حجازي ، مقال نشر بجريدة الأهرام – العدد 43248 بتاريخ (الأربعاء 25 من ربيع الأول 1426 ه – 4 مايو 2005) السنة 129
[2] السابق
[3] حضارة العرب ، غوستاف لوبون ، ترجمة: عادل زعيتر ص219 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000
[4] الحركة الفكرية و الأدبية في الإسكندرية في القرن السادس الهجري ، د. فوزي محمد أمين ص 45 ، دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية 2004
[5] عصر الدول و الإمارات ( مصر ) ، د. شوقي ضيف ص251 ، دار المعارف ، ط الثانية
[6] السابق ، راجع ص 251
[7] ظافر الحداد ـــ أمير شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية، أحمد محمد حنفي، بحث مخطوط في انتظار الطبع
[8] شعر الإسكندرية و شعراؤها ، أحمد عبد المعطي حجازي [مصدر سابق]
[9] السابق

الخميس، 4 فبراير 2016

مقدمة كتاب: تحولات الذَّات

مقدمة كتاب:
تحولات الذَّات
أنماط الذَّات في قصيدة العاميَّة السكندريَّة المعاصرة
تأليف: أحمد حنفي


أحمد حنفي
تعتبرُ الذَّاتُ بعلاقاتها الثلاث (الذَّات والآخر/ الذَّات والموضوع/ الذَّات والعالم) من الموضوعاتِ التي شغلتني – ولمَّا تَزَل- لِما لها من علاقةٍ وثيقةٍ ومباشرةٍ بالرؤيا التي يطرحها الشاعر.
ويبدو أنَّ النَّقدَ بمفهومِه القديمِ قد فقدَ دورَه الذي سُمِّيَ من أجلِه نقداً؛ فلا نجدُ الآنَ قراءةً نقديَّةً تخلصُ في نهايتِها بحكمٍ قاطعٍ بجودةِ نصٍّ من عدمه، وعلى الرَّغمِ من أهميِّةِ ذلك الحكم فقد باتَ – على الأقلِّ – ليس قاطعاً باتّاً.
بالطبعِ لا أهدفُ إلى الإشارةِ بأنَّ جميعَ النصوصِ متساوية في جودتها؛ فالتباينُ والتمايزُ من مُسلَّمات الكونِ، لكنَّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَه .. ما معيار تلك الجودة؟
والإجابة على هذا السؤالِ لابدَّ وأن تكونَ ضمن نطاقِ فرضيَّةٍ أساسيَّةٍ مفادها أن تنتمي تلك النصوصَ إلى شعراءٍ حقيقيين بالفعلِ، يمتلكون رؤيا شموليَّةً واضحةَ المعالمِ والأركانِ جنباً إلى جنبٍ كلزوميَّةٍ اشتراطيَّةٍ بجوارِ فنِّيَّاتِهم .. لتصيرَ الرؤيا أحد أهم وأخصِّ مقوِّماتِ الإبداعِ الشِّعريِّ.
ولا شكَّ الآنَ أنَّهُ قد مضى عهدُ النَّاقدِ الذي يؤخِّرُ قصيدةً على حسابِ أخرى انتصاراً للوزنِ والقافيةِ، وهما على أهمِّيَّتهما لا يُضيفان للنَّصِّ جمالاً يُخفي فراغَهُ من المضمونِ ورؤيا كاتبه .. كما مضى عهدُ النَّاقدِ الذي يحتفي بظواهرَ لغويَّةٍ وأخرى بديعيَّةٍ من شأنِها الخروج عن المعنى لا الولوج فيه .. بل لن أكونَ مبالغاً إن قلت بانتهاءِ عهدِ النَّاقدِ الذي يُقدِّمُ نصّاً شعريّاً مكتوباً باللغةِ العربيَّةِ على حسابِ آخرٍ لَهَجِيٍّ (عامِّيٍّ) لمجرَّدِ انتصارٍ زائفٍ للُّغةِ دونَ النَّظرِ لموقف الشَّاعرِ من العالمِ.
لنجدَ أنفسنا مدفوعين باتجاهِ السؤالِ الأقدمِ؛ ما دور الشعرِ؟
ليستحيلَ الآنَ من مجرَّدِ كونِه سؤالاً إلى إجابةٍ عن سؤالِنا الأوَّلِ حولَ معيارِ جودةِ النَّصِّ الشِّعريِّ ..
قطعاً ليس الإمتاعُ مقصداً من مقاصد الشعرِ فهناك شاعرٌ مثل (هشام دياب) – أحد من قامت عليهم أبحاث الكتاب – لا يبحث عن إمتاعِ قارئه بل يتجه صوب ذهنه مباشرةً لإقامةِ جدليَّةٍ يكونُ محورها رؤياه لا لفرضها على المتلقي ولكن لمناقشتها وإعادةِ إنتاجها وطرحها في ضوءِ مقاربةِ المتلقي ذاته.
وكما أنَّ الإمتاعَ ليس من مقاصد الشعرِ إلَّا أنَّهُ إحدى سماتِه كفنٍ جميلٍ وهو ما لا يضطلع به الشعرُ وحده، يشترك في ذلك كل أنواعِ الفنونِ الجميلةِ كالرسمِ والنَّحتِ والموسيقى مثلاً .. وبالتَّالي تتعاظمُ أهمِّيَّةُ الشعرِ كمُرسلةٍ لغويَّةٍ في كونِه يطرحُ ذاتاً تحملُ موقفها تجاه العالمِ.
وأينما تموقعت الذات في موقفها من العالم تبعتها الرؤيا؛ فالذَّاتُ الشخصيةُ التي تتمركزُ داخلَ دائرةٍ يُشكِّلُ العالمُ محيطاً لها – أي: تحلُّ في العالمِ – هي تلك الذَّات التي نرى العالم من خلالها .. والذَّاتُ الشخصانيَّةُ التي تحلُّ بديلاً عن العالمِ حين يخلعُ الشاعرُ عن ذاتِه إنسانيَّتها ليدخلَها ثوبَ الألوهةِ الفضفاض [1] وتكونُ الرؤيا تبعاً لذلك مبتدعةً لعالمها الخاص .. أمَّا الذَّاتُ اللا شخصيَّة تلك التي تتحرَّكُ على محيطِ الدَّائرةِ بينما يقبعُ العالمُ في مركزها – أي: يحلُّ العالمُ فيها – فهي الذَّات التي نراها من خلالِ العالمِ. [2]
وحينَ تحدَّثَ النقادُ قديماً عن شرفِ المعنى كأحد معايير جودة الشعرِ إنَّما عَنوا بذلك شيئاً آخر خلاف الإمتاعِ .. إنَّهم انتبهوا لدورِ الشعر كمرسلةٍ .. ولدورِ الشاعرِ كذاتٍ مُرسِلَةٍ تملكُ رؤياها وموقفَها من العالمِ كما ذكرت.
ولهذا كان تتبُّعي للذَّاتِ وأنماطها كبوَّابةٍ للرؤيا كما تجلَّت في ستةِ نصوصٍ لستةِ شعراءٍ ينتمي خمسةٌ منهم لجيلِ الشعراءِ الشبابِ ممَّن يقدِّمونَ شعريَّةً حقيقيَّةً وسكتت عنهم أقلامُ النقادِ .. وهي أهميَّةٌ أخرى أزعمها للكتابِ في الوقتِ الذي يملأ الأدعياء سماءنا صياحاً ونشازاً.
ضرورة أخرى يكرِّسها الكتابُ وهي التأكيد على انتماءِ قصيدة العاميَّة للأدبِ العربيِّ، فالمُطالعُ المدقِّقُ لتاريخِ الأدبِ العربيِّ على امتدادِ قرونِه يلحظُ مدى ما يتَّسمُ به من قابليَّةٍ لاستيعاب فنون الشعرِ غير المعربة، ووضعها في المكانِ اللائقِ الذي يناسبها قدراً ونقداً، هذه القرون تركت أثرها على الشعر العربي، ومن منا لا يعلم ذلك؟! .. بل تركت أثرها على ثوابت أخرى لم يظن القدماء أنها ستتغير وتتبدل، من لغةٍ وبلاغةٍ وطرائق تعبيرٍ وبنيةٍ إلى شكلٍ وأوزانٍ وتشكيلٍ بصريٍّ ومجانيةٍ وموضوعاتٍ لم تُطرق وذائقةٍ مغايرةٍ.
وعلى الرغم من ذلك البون الزمني الشاسع إلا أننا وجدنا ما يربط الحاضر بالماضي وربما حدَّثنا عن المستقبل، وجدنا وشائج وصلات لا تنعت الجديد إلا بالابن الشرعي للقديم وأنه ليس محدثاً ولا مخترعاً.
هذه الوشائج والصلات هي ذاتها ما ظنها بعض القدماء ثوابت لن تتغير، وتعاملوا معها باعتبارها جماداتٍ لا تنمو لكن حقيقتها وواقعها أنها كائنات حية تنمو وتؤثر وتتأثر وتعتلُّ وتصحُّ وتتخذ أشكالاً شتى ليس من عصرٍ إلى عصرٍ ولا من إقليمٍ إلى إقليمٍ فحسب وإنما من قصيدةٍ إلى قصيدة.
إن ما يربط معاصرينا بأسلافهم هي اللغة ذاتها بيد أنها تطورت، والبلاغة نفسها والتي ربما اتخذت أشكالاً أكثر ملائمةً للعصر ولغته، والذائقة عينها والتي تطورت تبعاً لما أحدثه العصر في اللغة والبلاغة، وأوزاناً حالفها النصيب الأوفر من التجديد والابتكار، وهدفاً أسمى للقصيدة والتي تبحث عن متلقى لا يشعر أنها غريبة عنه وعن لغته اليومية وحياته المعقدة وذائقته الجديدة.
فلا غرو إذن أن نعد (قصيدة العامية) من شعرنا العربي ومن تراثنا الإبداعي، ولم لا وهي التي أفسحت لنفسها ذلك المجال وزاحمت قصيدة الفصحى؛ متخذةً منها شرعيتها ومن الجمهور الذي ساندها مكانتها.
وإننا حين نتحدث عن قصيدة العامية فكلنا يقينٌ أنها لم تنشأ من قبيل المصادفة وإنما من قبيل التطور، ذلك التطور الذي لا نُقيـِّمه وإنما نتعامل معه بكل ما يمنحه لنا من أدواتٍ وخصائصَ ليست من الشعر بغريبةٍ ولا منكرة.
وبالرغم من كل ما سبق فقد زاد حذرنا الآن ونحن نحاول جاهدين أن نرى كيف لشاعرٍ معاصرٍ يكتب باللهجة العاميَّة أن يوظف موروثه البلاغي ويطوره ويطوِّعه لخدمة نصه لا لهدم التراث كما يدعي البعض.
وربما سنقولُ بعد الانتهاءِ من الكتابِ أنَّ قصيدة العامية لا تقدم شيئاً منفصلاً عن تراثنا الشعري، وإنما تقدم لنا وجهة نظرها لذلك الموروث، إنها جزء من نسيجه لا يكاد ينفصم عنه وعن جمالياته وبلاغته، إنها باختصار .. (أدب عربي).


الهوامش
[1] راجع: تحولات النظرة وبلاغة الانفصال، عبد العزيز موافي، ص 226 وما بعدها.
[2] السابق.





الخميس، 28 يناير 2016

زمن الماضي البسيط واختزال العالم

زمن الماضي البسيط واختزال العالم
وسيلة العبور نحو الحقيقة
قراءة في رواية (ليالي دبي/ شاي بالياسمين) للكاتب الكبير/ السيد حافظ


بقلم/ أحمد حنفي

 
أحمد حنفي
بدايةً .. فنحنُ أمام نص روائي يؤسس وعياً جمالياً مغايراً من حيث الشكل وطرق الأداء، وهو نص يؤطِّر بذلك الوعي المغاير فكرة الغريب ومفهوم الاغتراب المكاني والنفسي والاجتماعي.
بنية الرواية لا تتَّصف بالمرونة والانسيابية، بل نجده نصاً مرهقاً يتكون من مجموعة بنى مركبة يتعدَّد فيها الرواة وتتنوَّع فيها الأماكن وتختلفُ فيها الحقب الزمنية وتتمايزُ فيها أشكال السرد.
بالرواية حكايتان مختلفتان من حيث الانتماء الزمني؛ إذ لكلٍّ منها زمنه الخاص:
الحكاية الأولى، حكاية (فتحي رضوان خليل) الكاتب المثقف الذي واجه بمصرَ إحباطاتٍ دفعته للسفر إلى (دبي) مصطحباً زوجته معه، فتحي رضوان العاشق لــ (سهر) تلك الفتاة الحلم والتي تورَّط معها في علاقة غير شرعية.
الحكاية في مجملها تسلط الضوء على حياة مثقف وكاتب معاصر ناقد لوطنه ومجتمعه من أجل غدٍ مختلف ومغاير، وربما كان هناك تماهياً بين شخصيتي فتحي رضوان والمؤلف وهو الأمر الذي نجد له قرائن في أصداء السيرة الذاتية التي بثها كاتبنا الكبير/ السيد حافظ على مدار الرواية.
الحكاية الثانية، حكاية (كاظم) وقصة عشقه لــ (سهر) والتي تدور أحداثها بالشام وتشتبك معها قصة (الحاكم بأمر الله والجارية شمس) حيث تقوم شمس بدور المعادل الموضوعي لسهر.
الحكايتان لا تتقاطعان في الجزء الأول – شاي بالياسمين – ولكنهما متوازيتان، كما أنَّ بنية النصِّ بها مقاطع تحت مُسمَّى (تنهيدة)، تلك التنهيدات كانت تسبق قصة سهر، تتناول أحداث الفتنة الكبرى زمن خلافة الإمام"علي بن أبي طالب".
ومقاطع أخرى تحت عنوان (همسة)، تلك الهمسات كانت تسبق قصة فتحي رضوان وتحكي عن الصراع بين الحكم والعقيدة متمثلاً في قصة إخناتون.
كما كان لأدب السيرة الذاتية دوره الحاشد كفواصل بين الحين والآخر فيما جاء تحت عنوان (شخصيات في سيرة مسيرة ابن حافظ فيما حدث وما جرى في بلاد المسخرة)، وهي (نصوص / متون) تعتمد على مبدإ الكشف والفضح لمواقف جمعت الكاتب مع بعض رموز وأعلام الفن والثقافة والسياسة بمصر والوطن العربي سواء كانت تلك المواقف بالسلب أم الإيجاب.
وكل ما سبق يضعنا أمام نصٍّ يُكرِّس لمفهوم جمالي جديد لا يمنح مبررات فنية لذلك الشكل بقدر ما يثير داخل المتلقي عدة أسئلة، أهمها:
كيف يحتفظ الكاتب بحريته والتي هي أساس العملية الإبداعية وفي الوقت نفسه ينصاع لقوالب وقيود يفرضها الشكل الروائي التقليدي؟ أي كيف يكون حراً وأسيراً بآن؟
الكاتب الكبير/ السيد حافظ

هذان السؤالان هما ما أجاب عنهما السيد حافظ بذلك التمرد في بنية وشكل روايته (ليالي دبي)، ذلك التمرد الذي كان حلقة في سلسلة تمرد الرواية الجديدة والتي صاحبها تغيُّر التقاليد الفنية المعتادة للرواية الواقعية وتطور التقنيات السردية بما يتلائم والأنماط الجديدة والرؤى التي تطرحها.
والحقيقة أنَّ رواية (ليالي دبي) لا تنتمي لتيار روائي بعينه؛ فإذا ما نظرنا إلى قصة (الحاكم بأمر الله وشمس) ورؤية الكاتب لشخصية (الحاكم) باعتباره رمزاً للعدل والحضارة والرُّقي كما أننا لو نظرنا لتنهيداته وهمساته والتي جسدت الصراع الديني السياسي فهي رواية أفادت من الرواية التاريخية من جهة كإفادتها من ظاهرة الإسقاط السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، كما أنَّنا لو نظرنا لقصة (فتحي رضوان خليل) باعتباره المثقف الذي يقف من الأشياء على مسافة تفرضها رؤيته ووعيه بالواقع فإنَّنا نستطيع القول أن تلك الرواية تنتمي إلى روايات تيار الوعي، وهي تلك التي ترى أنَّ الحقيقة لا تكمن في الواقع المعاش بل هي التي تكمن في الوعي الإنساني بهذا الواقع؛ فشخصية (فتحي رضوان) ما كانت تكتسب تلك الأهمية وذلك المعادل الموضوعي للكاتب نفسه إلا بامتلاكها وعياً بواقعها ومشكلات وطنها كذا مشكلاتها النفسية والعاطفية.
ومن سمات روايات تيار الوعي انفراط عِقد الحبكة الدرامية المحكمة واختلال توازن الزمان وتسلسله ليصبح زمناً نسبياً وتصبح الأحداث تروى من خلال تقطيرها في وعي الراوي أو إحدى الشخصيات.
((( راجع: قراءة النص، د. عبد الرحيم الكردي ص  )))

وجدير بنا أن نقف أمام الزمن الخاص الذي أنشأه الكاتب لروايته، فهناك تداخلات زمنية بين قصة الحاكم وشمس من جهة، وكاظم وسهر من جهة، وفتحي رضوان وعشقه من جهة ثالثة؛ ليصبح فعل الكتابة تقاطع مع الواقع وانتقال من حدث ماضوي لحدث ماضوي آخر كذلك الانتقال بين الصراع الديني السياسي أيام الفراعنة وما شابهه في أحداث الفتنة الكبرى، أيضاً قصة الحاكم وشمس وما ناظرها من قصة سهر مع كاظم وفتحي رضوان، ذلك التقاطع بين الواقع ووعي الكاتب في فعل الكتابة صاحبه تقاطعاً بين فعل القراءة - الذي يقوم فيه المتلقي بإعادة إنتاج المعنى - وفعل الكتابة ذاته.

وبالتالي يطرح السؤال نفسه، لماذا عمد الكاتب إلى إعادة طرح رؤيته في الحكايتين، وإعادة طرح موقفه في العلاقة بين الدين والسياسة في التنهيدات والهمسات، وإعادة طرح محنة اغتراب الأديب في قصة فتحي رضوان ولقطات السيرة الذاتية التي نثرها على مدار النص؟ وبما أن كل كاتب يهدف إلى وصول رؤيته عموماً للمتلقي فلمَ كل هذا التشظي الذي حفل به نص (ليالي دبي)؟
أعتقد أن الإجابة على تلك التساؤلات مرتبطة بمعرفة الزمن الخاص للرواية، ومن الجيد أن ننطلق من عند (رولان بارت) حين تحدَّث عن زمن الماضي البسيط باعتباره "حجر الزاوية في السرد، هو الإشارة الدائمة إلى الفن .... ولم تعد مهمته التعبير عن الزمن؛ بل إنَّ دوره إيصال الحقيقة إلى نقطةٍ ما وأن ينتزع من الأزمان المعيشة والمتعددة والمتراكبة حدثاً لفظياً صرفاً يجتثُّ التجربة الوجودية من جذورها"
((( راجع: الكتابة في درجة الصفر، رولان بارت، ترجمة: د. محمد نديم خشفة، ص40 وما بعدها)))

إنَّ مقولة التاريخ يعيد نفسه تؤكد على فكرة زمن الماضي البسيط، تلك الأحداث المتكررة وذاك الهم المصري والعربي الذي نفشل في تغييره رغم أنه يتكرر في مشهد عبثي من آلاف السنين.
إنَّ الكاتب الكبير/ السيد حافظ استطاع أن يجعل من الزمن الماضي زمناً مصطنعاً يفترض وجود عالم مختزل إلى خطوط دلالية مصاغة بماضوية يختبئ هو خلفها حيث يستدرج القارئ لتلك الحقيقة المتشظية عبر الزمن.
ذلك التشظي الزمني صاحبه تشظياً مكانياً وآخر شكلياً حيث يختلط السرد بالمسرح بالسيرة الذاتية بالسيناريو بالمقال الصحفي بالهوامش بالفواصل.
وبالتالي يمكننا أيضاً أن نعتبر رواية (ليالي دبي) من الروايات المنتمية لتلك التي تتكئ على جماليات التشظي والتفكك، وهي جماليات تعتمد على التجاور والتوازي والتزامن.
فدلالة حكاية (فتحي رضوان) تنبع أهميتها من مجاورتها لحكاية (كاظم وسهر)، كما أن دلالة حكاية (كاظم وسهر) تبرز هي الأخرى من خلال توازيها مع قصة (الحاكم بأمر الله وشمس).
وكل قصة ليست سبباً في وجود الأخرى كما أنها ليست نتيجة لها، فهي أحداث مفككة في ظاهرها لا يربطها مبدأ العلاقة السببية. ذلك التشظي وذلك التفكك إنما قام في رأيي مقام تقنية كسر حاجز الإيهام لدى المتلقي/ كسر الحائط الرابع، وهي تقنية مسرحية بالأساس.
إنه لا يريد للمتلقي أن يقع تحت سُلطة السرد وإنما يريد له أن يشتبك بوعيه مع النص والرؤيا، إنه لا يمارس التطهير، بل يضع المتلقي أمام الأزمة ويتركه ليبحث لها عن حل.
لنخلص إلى أن تلك الرواية تنتمي للروايات الجديدة التي أعقبت الرواية الواقعية من حيث أنها:
·       تمردت على التقاليد الراسخة للرواية الواقعية.
·       تخلت عن الحبكة الفنية المحكمة واستبدلتها بالتصميم الفني الذي يشبه التصميم في الفنون التشكيلية.
·       الحرية في القفز بين الأنواع الفنية وغير الفنية والإفادة من تقنياتها وبخاصة المسرح والسينما والسيرة الذاتية والكتابة الصحفية.
ومن الجائز لنا القول أن تلك المعايير والمفاهيم الأدبية الجديدة التي يكرسها نص (ليالي دبي) تفرض علينا الخضوع لمنطق ذلك الشكل الروائي للتعامل مع معطياته التي يمنحها لا مع القوالب الجاهزة التي تُفرض عليه، فلا يتعيَّن أبداً هنا البحث عن التسلسل والسببية في بناء الحدث كما لا يجب الحديث عن الشخصيات من حيث أبعادها البيئية وبنائها وتماسكها من عدمه بقدر النظر إلى اعتبارها أيقونات أو علامات ذات دلالات أعمق، وذلك لأننا بإزاء شكل جديد، متمرد، يفرض جمالياته والتي لن أكون مجاوزاً إن اعتبرت التمرد الفني قيمة بحد ذاته يحاول النص تجسيدها.