الأحد، 22 مارس 2020

السرد، والصورة، وتجليات الغرابة في ديوان (سقط شيء من شيء) لمحمد القليني



عن البنية السردية والصُّورة وتجلِّيات الغرابة
في ديوان (سقطَ شيءٌ مِن شيءٍ) للشاعر/ محمد القليني



بقلم: أحمد حنفي


(1)
البنية السردية والصورة

بعدَ أن فاجئنا الشَّاعر المبدع (محمد القلِّيني) بديوانِه الأوَّل (أركضُ طاويًا العالمَ تحت إبطي) ونحنُ ندركُ أنَّنا أمام فتحٍ جديدٍ للشِّعريَّةِ العربيَّةِ، لم نستدل على ذلك الفتحِ بسيلِ الكتاباتِ النَّقديَّةِ التي تلقَّفَت الديوانَ من الخليجِ للمحيطِ، كما لم نستدل عليه بالجوائزِ التي حصدَها، ولكن انغماسَ الديوان في روحِ الشِّعر وتقديمه الدهشة والمتعة كان كفيلاً له أن يحجزَ لنفسِهِ مكانًا بارزًا في طليعةِ الدواوين التي مِن شأنها أن تقودَ الحركةَ الشِّعريَّةَ مستقبلاً، وظلَّ المهتمُّون بالشِّعرِ ينتظرونَ بشغفٍ ويتساءلونَ: ماذا سيُقدِّمُ القلِّيني بعد هذا الدِّيوان البديع؟
ثُمَّ يأتي معرض القاهرة الدَّولي للكتاب في يناير 2018 حاملاً معه إجابةً للسؤالِ الذي ظلَّ يتردَّدُ في كواليس الحركةِ الشِّعريَّةِ لمدة عامٍ أو يزيد؛ فيكون لجناحِ الهيئة المصرية العامة للكتابِ حظٌّ من ذلك النجاح الذي حقَّقه القلِّيني في ديوانِهِ الأوَّلِ عندما أصدَرَت ديوانَه الثاني (سقطَ شيءٌ مِن شيءٍ)، ومِن المرَّات النَّادرة أن تنفدَ نسخُ كتابٍ في جناحِ الهيئةِ في يومٍ واحدٍ، وهو ما تكرَّر عدَّة مرَّاتٍ على مدارِ أيَّامِ المعرض.
هناكَ ظاهرةٌ إذن، شيءٌ ما لم يسقط بعدُ، أظنه الشعرَ بمفهومِه الذي ظلَّ تائهًا فترة مِن الزَّمنِ بين الغثِّ والتكرارِ والتَّقليدِ واجترارِ تجاربِ السَّابقينَ والكسلِ عن البحثِ عن رؤيةٍ خاصةٍ تُعيدُ ترتيبَ مفرداتِ الكونِ مرَّةً أخرى على نحوٍ لم يسبق له مثيل، وبالفعلِ، فالمُطالعُ لديوان (سقطَ شيءٌ مِن شيءٍ) يستطيعُ الوقوفَ على طزاجةِ منظورِ التَّناولِ وبكارةِ التجربةِ، ويستطيعُ أن يرصدَ لغةً شعريَّةً لا تسيرُ على نموذجٍ ونسقٍ سابقٍ، كما يستطيعُ أن يجدَ ما أسماه (كولريدج) بالخيالِ الثَّانويِّ اللازمِ للإبداعِ، خيالٍ حاضرٍ بحضورِ ركائزِه الإبداعيَّةِ التي تُفجِّرُ طاقاتِ اللغةَ عن طريقِ الإزاحات البلاغيةِ والدلاليةِ كما سنبيِّنُ بعدَ قليلٍ.

والقلِّيني شاعرٌ تعرفه إذا طالَعتَ فهرسَ ديوانِهِ؛ فلديه طريقة مخصوصة في عنونةِ قصائدِه وتبويبِها وترتيبِها بين دفَّتيِّ كتابٍ، طريقة تستحقُّ الوقوفَ أمامها؛ انطلاقًا من مبدإٍ يرى في العنوانِ نصًّا مستقلاً وليس عتبة أولى للولوج فحسب. طريقته تلك التي رسَّخها منذ صدور ديوانِه الأول واستثمرها بنجاحٍ وكفاءةٍ في ديوانِه الثاني.
ولقد رأيتُ أن أتحدَّثَ بإيجازٍ عن سمتين بارزتين بالديوان؛ أولاً البناءِ السَّردي للقصائدِ والذي يُعدُّ أحد أهمِّ ملامحِ القلِّيني الشِّعريَّةِ، وثانيًا الصورة باعتبارِها وسيلةً للتَّكثيفِ السَّرديِّ وليست غايةً أو حليةً شعريَّةً.

البِنيةُ السَّرديَّةُ في قصيدةِ (جنون):
 والجدير بالذكر أن القلِّيني يعتمد حضور عناصر السَّردِ كأحد الركائزِ الإبداعية في الديوان، وهنا تجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ البعض يضعُ السردَ كمقابلٍ للشعرِ، حتى أنَّ هناك من النقادِ مَن يعتبرُه مرادفًا للنثرِ، والأمرُ على خلاف ذلك حتمًا؛ فقد خَلُصَ (جيرار جينيت) في كتابِه (مدخل لجامعِ النصِّ) كما ذكرَ د. شوكت المصري إلى أنَّ السردَ ليسَ نوعًا أدبيًا مثل الشعرِ والروايةِ وغيرهما، وإنما هو إمكان أداءٍ قائمٍ في اللغةِ بالأساسِ، بوصفه نظامًا للصياغةِ مطروحًا للتحقُّـقِ داخلَ النصوصِ الأدبيةِ كافة، على اختلاف أنواعها وتصنيفاتها الأجناسية. [راجع: تجليات السرد في الشعر العربي الحديث، د. شوكت المصري، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 2015، ص15]
يقول (جينيت): "هناك صيغٌ مثل السردِ، وهناك أجناسٌ مثل الروايةِ .. إنَّ الروايةَ ليست سردًا فقط، وبالتالي لا يوجدُ صنفٌ واحدٌ للسردِّ، بل لا يوجدُ حتى صنفٌ للسرد" [مدخل لجامع النص، جيرار جينيت، دار الشئون الثقافية العامة ببغداد، طباعة دار توبقال للنشر بالرباط ص80 - نقلاً عن كتاب: تجليات السرد في الشعر العربي الحديث (مرجع سابق)]
ونستطيعُ أن نقفَ على طبيعة البنية السردية للقصيدة عند القلِّيني في قصيدة (جنون) ص11 كنموذجٍ، وهي أولى قصائد الديوان، والتي تقعُ مع قصيدتين أخريين في كرَّاسةٍ سمَّاها (قصائد الذكريات) وهو ما يوحي أنَّنا بصدد مطالعة قصائد يغلب عليها طابع (النوستالجيا)/ الحنين إلى الماضي، لكنَّ ذلك لم يحدث!
تضمُّ (قصائد الذكريات) ثلاثَ قصائد، هي: جنون، بيانو، الذكريات الجميلة. وبالفعل تُمثِّلُ تلك القصائد الثلاث وحدةً موضوعيَّةً لرؤية الشاعر عن الذكريات باعتبارها ذكريات مجردة لا باعتبارها أحداثًا، إذن الذكرى لديه ليست وعاءً لحدثٍ، إنما نراها في تلك القصائد كائناتٍ حيَّةً لا تنتهي بالتَّقادمِ، لها صفات بشرية، من الممكن أن يقلَّها أتوبيس نقل عام، أحيانًا تخاف وتبكي كطفلٍ تائهٍ، تتكلمُ وتُجيبُ على أسئلتنا، تقودُ سيارةً وتضعُ ملابسها في الدواليب. وقد تكون شبحيَّةً أو أثيريَّةً لتقفزَ في رأسِ أحد المارةِ بعد سقوطها من رأسِ صاحبِها، وقد تكون كالطعامِ الجميل أو الطعامِ السَّيِّءِ وعليك في الحالين أن تتخلَّصَ منها حتى لا يُصابُ القلبُ بالتَّسوُّسِ أو بالمغصِ المؤلم، (لو لم يتبرَّزها القلبُ – الديوان ص18)
لقطة أثناء إلقائي الدراسة بمعرض دمنهور للكتاب- مارس 2018

تتحدَّثُ القصيدةُ عن حدثينِ، ربما ثانيهما امتدادٌ للأوَّلِ، يفصلهما مونولوجان داخليَّان متتاليان، ثمَّ نتيجة للحدثِ الثَّاني يشتملُ على (نفيٍ دلاليٍّ) كظاهرةٍ تخطَّت ما أسماه السيميوطيقيين بالإزاحة الدلالية.
الحدثُ الأوَّلُ لذكرى تائهةٍ في الطريقِ سقطَت من رأس صاحبها -لا يذكر الحدثَ أو السببَ- تحاول اللحاقَ بأتوبيس نقلٍ عام في محاولةٍ يائسةٍ منها للعودة، ولكن (الكمساري) يرفض صعودَها بحجة أنَّ (أوتوبيس النقل العام لا يُقلُّ الذكريات- ص11)، والحدثُ الثاني يستخدم فيه القلَّيني ذات الفضاء المكاني للحدثِ الأوَّلِ (الشارع) وذات العقدة الرئيسة (سقوط الذكرى من رأس صاحبها وفشلها في العودة)، ويبدأ الحدث بتقنية الاسترجاع FLASH BACK/ SWITCH BACK  حيثُ يعودُ إلى اللحظة التي سقطت فيها تلك الذكرى من رأس صاحبها وهو يقودُ سيَّارةً، ويُعرِّفنا من خلال ذلك الاسترجاع بطبيعة تلك الذكرى، حيثُ كانت (نظرةَ حبٍّ ودَّعَ بها طفلَه النَّائمَ- ص12)، ويعودُ من ذلك الاسترجاعِ إلى زمن السَّرد الأصلي حيثُ ترتجفُ الذكرى في الشارعِ، فنراها وقد تخلَّت عن جسدِها (المُؤنسنِ) لتنتقلَ إلى هيئةٍ شبحيَّةٍ/ أثيريَّةٍ وتقفز إلى رأسِ سيِّدةٍ كانت تمرُّ أمامها بالطريقِ، هي سيِّدةٌ طلَّقها زوجُها لأنها عاقرٌ، ومثَّلَ ذلك القفزُ لحظةَ الدَّفعِ للحدثِ الثاني؛ حيثُ وجدَت الذكرى الدِّفءَ الذي فقدته بسقوطها من رأس صاحبِها الأوَّلِ، كما أنَّها منحَت المرأةَ كلَّ شحناتِها التي حملَتها معها من عقل صاحبِها تجاه ابنهِ النَّائمِ، أي: منحَتها دفءَ مشاعر الأمومةِ التي غابت عنها. تعودُ المرأةُ لبيتِها وفي يدها..
"وفي يدِها قطارٌ يسيرُ على قضبانٍ بلاستيكيَّةٍ  
ونادَت بشوقٍ: استيقظْ يا طفلي الجميلِ 
لقد عادَت ماما 
ومعها هديَّةٌ لك"
[الديوان ص12، 13]
ثُمَّ نجدُ القلِّيني قد فصلَ هذين الحدثين بمونولوجينِ داخليَّين متتاليين، هما:
"كما أنَّ هناكَ أطفالَ شوارعَ،   
هناكَ أيضًا ذكرياتُ شوارعَ"
[الديوان ص12]
"الذكرى قد تكونُ جملةً ما      
أو نظرةً ما"
[الديوان ص12]
والمعروفُ أنَّ (المونولوج الداخلي) أحد أبرز تكنيكات الوعي؛ إذ أنه يهتمُّ بمحتوى الوعي الداخلي -المحتوى النفسي للشاعر في نموذجنا-  وعلى هذا فقد جرى تعريفه على أنَّه "تصوير لأفكارٍ اتخذت من قبلُ شكلاً لفظيًا في ذهنِ الشخصيةِ (الشاعر)، هو المحاكاة المباشرة لكلامِ المرءِ لنفسِه" [الرؤية والعبارة – مدخلٌ إلى فهم الشعر، عبد العزيز موافي، ص113]
وبذلك، فالمونولوجان يمثلان قطعًا في السياق السرديِّ، هما أشبهُ بجملتين اعتراضيَّتين، لكنهما جملتانِ اعتراضيَّتانِ مُبيِّنتانِ كاشفتانِ وليستا بدليتانِ شارحتانِ، تكشفُ لنا الأولى جانبًا لطبيعةِ الذكرى التي نستكنهُ ماهيَّتها للمرَّة الأولى كما يقدِّمها النَّصُّ، تلك الذكرى التي قد تضلُّ، تمامًا كأطفالِ الشوارعِ الذين دفعَهم الظرفُ الاجتماعيُّ -الخارجُ عن إرادتِهم- إلى ذلك المصير، بينما الجملة الثانية -المونولوج الداخلي الثاني- كانَ تعريفًا للذكرى، أو بالأحرى أمثلة عليها؛ فقد تكون جملةً أو نظرةً، وليس بالضَّرورةِ أن تكونَ حدثًا كاملاً، والقلِّيني بذلك يُكرِّسُ عالمًا خاصًا لقصيدتِهِ عن طريق إحداثِهِ "نوعًا من المباغتةِ الدلاليةِ، التي تمنحُ جمالياتِ القصيدةِ قيمةً مضافةً" [السابق ص118]
أما نهايةُ النَّصِّ فقد جاءت كنتيجةٍ للحدثِ الثاني؛ حيثُ اتَّهمَ أهلُ المرأةِ إيَّاها بالجنونِ، لكنَّ القلِّيني ينفي تلك الشُّبهةَ ويدرأها بعيدًا، لا عن شخص المرأةِ وإنما عن طريقِ توجهه لنفي الدالِ، الجنونِ ذاتِه، محقِّقًا مباغتةً دلاليةً أخرى، يقول:
"أهلُ المرأةِ    
اتَّهموها بالجنونِ        
وفي الحقيقةِ لا يوجدُ أشخاصٌ مجانينُ  
وليسَ ثمَّةَ شيءٌ        
يُدعى "الجنونَ"       
كُلُّ ما في الأمرِ أنَّ بعضَ الأشخاصِ     
يعيشونَ بذكرياتِ أشخاصٍ آخرينَ"
[الديوان ص13]
لقد أحدثَ القلَّيني ما يمكنُني تسميتَه نفيًا دلاليًا لدال (الجنون)؛ حيثُ فجَّرَ العلاقة السيمانتيكية القائمة بين عناصر المثلث الدلالي (الدال، المدلول، المرجع) عن طريق ذلك الفصلِ القسريِّ بين (الدل/ الجنون) و(المرجع/ ذلك التاريخ الطويل لدال الجنون ذاته في العقل الجمعي الإنساني أدبيًا ونفسيًا واجتماعيًا وقانونيًا ...إلخ) وهو ما عملَ على إعادةِ التَّصوُّراتِ الذهنيةِ لدى المتلقِّي، ويصبحُ النفيُّ الدلاليُّ بذلك كالإزاحةِ الدلاليَّةِ، ولكنَّ الإزاحةَ الدِّلاليَّةَ لكي تتحقَّقَ بشكلٍ كاملٍ داخلَ النَّصِّ ينبغي أن يحدثَ ذلك بطريقةٍ ذاتيَّةٍ ودون وجود أدنى علاماتٍ إرشاديَّةٍ سوى الذَّكاء العاطفي للقارئِ وقدرتِهِ على تخييلِ المراجعِ الغائبةِ للدلالاتِ الحاضرةِ داخلِ النَّصِّ. لكن، ما فعلَه القلِّيني أن نفى المرجعَ تمامًا لدال (الجنون) داخل النَّصِّ:
وليسَ ثمَّةَ شيءٌ        
يُدعى "الجنونَ"
وهو بذلك يتخطَّى مفهوم الإزاحة الدلالية التي تُمثِّلُ خرقًا وانتهاكًا للعُرفِ اللغويِّ إلى ما هو أبعد مِن ذلك، وهو ما أسميته بالنَّفيِّ الدلاليِّ والذي لم يكتفِ فيه بنفي الصِّلةِ بين الدال ومرجعهِ لإنتاجِ مدلولٍ جديدٍ، بل قام بنفي المرجع عن طريق نفي داله من الأساس، ليبقى (الجنون) بلا مدلولٍ، عاطلاً من الشحناتِ الدلاليةِ. وهو ما يدفعنا للاقترابِ مِن طريقةِ القلِّيني في صياغةِ الصورةِ الشِّعريَّةِ ودورِها الذي كلَّفها به.
وقد استخدم القليني في سرده الشعري ضميرَ الغائب، الذي جرى على لسانِ الراوي العليم/ الرائي الوحيد للحقيقة، وبذلك فقد جعلَ من ذاته نافذةً نرى من خلالها العالم، وقدَّمَ لنا في قصيدتِه الذَّاتَ الشخصانية التي تحلُّ بديلاً عن العالم، حيثُ صارت الذاتُ مبتدعةً لعالمِها الخاص. [راجع في تعريف الذات الشخصانية كتاب: تحولات النظرة وبلاغة الانفصال، عبد العزيز موافي، ص 226 وما بعدها]

معرض دمنهور للكتاب- مارس 2018
أدار اللقاء الشاعر/ محمد خميس
وشارك بالمناقشة الشاعر/ أشرف البولاقي

الصورة الشعرية وعلاقتها باللغة:
اعتمد القليني على مبدإ الإزاحة اللغوية لينتج لنا الصورة وهو ما يطلقون عليه تفجير طاقات اللغة، أي أنَّ الصورة لديه ظلٌ لقدراتِه اللغوية وصدى لها وتأتي لخدمة المعنى وليست غاية يسعى وراءها ولا حلية، وقد اعتمد في ذلك على أمرين:
الأول: الإزاحة البلاغية:
وهي تلك الإزاحة المحدودة التي تأتي عن طريق الأساليب البلاغية المعروفة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، وهو ما تحتفظ فيه المفردات بدلالاتها ومعانيها كما استخدمت في اللغة المعيارية/ المعجمية، مثل:
"أقطف نجمتين وأعجنهما جيدًا
وأضيف إليهما ماء سحابة عذبةٍ" ص28
فتظلُّ النَّجمتان محتفظتان بمعناهما المعجميِّ وكذلك مفردات (ماء- سحابة- عذبة)؛ فلم يفصل دلالاتهم عن المرجع وإنما الإزاحة كانت في الدور الذي يقومون به.
الثاني: الإزاحة الدلالية:
والمقصود به ما نادى به (ريلكة) من ضرورة أن نتعامل مع الألفاظ باعتبارها أوانٍ فارغةً من المعنى، على أن يقوم الشاعر بإعادة ملئها بدلالاتٍ جديدة، أي كما ذكرنا تفجير للعلاقات السيمانتيكية/ الدلالية بين أضلاع المثلث الدلالي، الدال والمدلول والمرجع، وبالتالي إعادة إنتاج التصورات الذهنية لدى المتلقي، كأن يقول:
"القيامة
هي أن يفتحَ اللهُ هذا الدرج" ص49
فالمتلقي صار لديه مفهومًا وتصورًا عن القيامة مهَّد له النص منذ البداية.
والقليني يقف موقفًا وسطًا بين الصورة الرمزية والصورة السريالية، ولعلَّ من أسباب ذلك إدراكه أنَّ الصورةَ الشعريةَ لم تعد مجرد حِلية تتزين بها القصيدة، إنها من منظوره تقوم بدور التوسط بين نقيضين أو بين حقيقتين متباعدتين أو ما يسمونها (الوظيفة الترابطية للصورة)؛ "إذ تعنى بالربط أو الجمع بين الأشياء أو الظواهر التي لا رابط بينها، فيما نطلق عليه التجانس الكوني" [الرؤية والعبارة، عبد العزيز موافي، ص 445] ويبدو أيضًا أن وظيفة الصورة عند القلِّيني لا تبتعدُ عن وجهة النظر الشكلانية التي ترى أنَّ "الصورة لا تعمل من أجل أن يسهل علينا فهم معناها، بل تعمل على خلق إدراك متميز للشيء.. خلق رؤيته وليس التعرف عليه" [نظرية المنهج الشكلي- نصوص الشكلانيين الروس،ت: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ومؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1982، ص 71]
والدِّيوانُ يزخرُ بالعديدِ من الجوانبِ التي تستحقُّ الوقوفَ أمامها بالنظر والتَّحليلِ، مِن ذلك العلاقات الثنائية التي تنتشر في كل قصائدِ الديوانِ، فلا تكاد قصيدة تخلو مِن إحداها، كثنائيةِ الفقراءِ والأغنياءِ، وثنائيةِ الذكرياتِ الجميلةِ والذكرياتِ السيئةِ، وثنائية الفرد/ الذات والمجتمع/ الآخر. كما تسيطرُ على الدِّيوان حالةٌ من الغرابة تتجلَّى في عِدَّة مظاهر كظهور المألوف في سياقِ غير المألوفِ، وازدواجِ الذَّاتِ، وصناعةِ الأسطورة، حتى ليمكننا القول أنَّ ديوان (سقطَ شيءٌ مِن شيءٍ) للشاعرِ المبدعِ محمد القلِّيني ديوانٌ ثريٌّ بالشِّعر يمنحك متعةً طالما بحثتَ عنها.

(2)
تجليَّاتُ الغرابةِ

(سقط شيء من شيء)، هكذا عنونَ القليني ديوانه البديع الذي حددَ لنا منذ الوهلةِ الأولى نوع العلاقة بين الأشياء وطبيعتها؛ فالشيءُ لغةً هو الموجود، وهو ما يُتَصوَّرُ ويُخبَرُ عنه، أي أنه اسمٌ لأي موجودٍ ثابتٍ متحققٍ يصحُ أن يتصوَّر ويخبر عنه سواء أكان حسيّاً أم معنويّاً، كما أنَّه يُطلق على المذكر والمؤنث، وبالتالي فهو من ألفاظ العموم، وبذلك تتسعُ دلالتُه لتشملَ سائرَ المدركات.
أما السقوط، فهو الوقوعُ من أعلى لأسفلَ، وبذلك نلتمسُ من العنوانِ طبيعة تلك العلاقة بين ثنائيين/ شيئين، أولهما ساقطٌ، وثانيهما مسقوطٌ منه/ عنه، ولا يشيرُ العنوانُ إلى كيفيةِ ذلك السقوطِ أو ماهيَّتِه، أهو سقوط حرٌ وإراديٌ أم أنه سقوطٌ قسري.
كما يشير العنوانُ أيضاً إلى أنَّ دالةَ السقوطِ هي الدالة العليا التي تُلقي بظلالِها على قصائد الديوان.
وبقراءةٍ أولى نستطيعُ أن ندركَ كم كان العنوانُ أميناً في معناه ودلالتِه؛ فلا نكادُ ننتهي من قصيدةٍ حتى ندركُ تلك العلاقةَ الثنائيةَ بين شيئين، وندرك معها نوعَ ذلك السقوط؛ فالديوان محتشدٌ بالعلاقات الثنائيَّةِ فلا نكاد نجد قصيدة تخلو من إحداها، فنجد ثنائيات مثل: (الذكرى- ورأس صاحبها)، (الفقراء- والأغنياء)، (الذكريات الجميلة والذكريات السيئة)، (الفرد/ الذات- والمجتمع/ الموضوع/ العالم)، (الشارع والشاعر)، (السؤال والإجابة الصحيحة)، (السر والعلن)، (الحنين وعدم منطقيته)، (الخيانة والثقة)، (الاسم ومدلوله)، (الإقدام والإحجام)، (اليقين والشك)، (الفطرة والتَّصنُّع)، (الحب والتضحية)، (القصيدة البسيطة والقصيدة المتثاقفة)، (الذات والحبيبة)، (المجتمع والثورة/ التغيير)، (الشاعر والسياسي)، (قصيدة النثر/ الحداثة والمجتمع)، (الذات والذات)، (الجبر والاختيار).
مجلة الثقافة الجديدة- سبتمبر 2018

كلُّ هذه العلاقات الثنائية يُحيطُ بها السقوط، هي علاقاتٌ مضطربةٌ غيرُ سويَّةٍ، كما أنَّها -من خلال الملاحظة الأوليَّة- تنفي المبدأ القائلَ: "لكلِّ ساقطةٍ لاقطةٍ"، إننا نرى الشيء -كما يعرضه الشاعرُ- إذا سقطَ كان سقوطُه أبدياً، وهو ما يؤشِّرُ إلى أحاديَّةِ الفرصِ وسرمديةِ السقوط.
والديوان يشتبكُ مع مفهوم (الغرابة) وتجلياته بصورة كثيفة، لا نكادُ نقرأُ قصيدةً إلا ونسألُ أنفسنَا، من أين تأتي المتعةُ التي خلَّفتها بداخلنا؟ أهي من تلك المفردات البسيطة التي تخلو من التقعر، كما يخبرنا الشاعرُ نفسُه في مطلع قصيدته (نصيحة ص81)، يقول:
أنا أكتبُ قصيدةً بسيطةً وشفاهيَّةً
تنامُ على الأرصفةِ مع البوابينَ
وتأكلُ الفولَ كلَّ صباحٍ
وتهربُ من الكمساريِّ آخرَ الشَّهرِ
أم أنَّ تلك المتعةَ تتسلَّلُ إلينا ناشئةٌ من قدرتِه العجيبةِ على فتحِ مغاليق ذاتِه وطرحِ رؤيةٍ تتجاوزُ حدودَ العاديِّ والمألوفِ، أم من قدرتِه على السردِ والحكيِّ وبناء أسطورتِه الخاصة كما في قصيدتي (البحر ص72) و(20/4/1983) على سبيل المثال، أم من خلال الإزاحات اللغويةِ والبلاغية والدلاليةِ التي يمتلئ بها الديوان، أم من كل ما سبق وزيادة؟
عن نفسي، وجدتُ متعتي أثناء فعل القراءةِ نابعةً أكثر ما يكون من تلك الرؤيةِ التي تتزيَّا بالغرابةِ والإدهاشِ في آن، ولكن ما الغرابةُ في أبسطِ تعريفاتِها؟
يقولُ العلامة د. شاكر عبد الحميد في كتابه (الغرابة- المفهوم وتجلياتُه في الأدب) ص7:
"الغرابة ضد الألفةِ، نوع من القلق المقيم، حالة بين الموت والحياة، التباس بين الوعي وغياب الوعي، حضور خاص للماضي في الحاضر، وحضور خاص للآخر في الذات، قلق غير مستقر بين الزمان والمكان، إقامة عند التخوم؛ تخوم الوعي والوجدان، إفاقة ليست كاملة، حالة حدودية، أو بينية، تقع بين انفعالات الخوف والرهبة والتشويق وحب الاستطلاع والمتعة والطمأنينة والتذكر والرعب والتخيل والوحشة والالتباس والفقدان لليقين... الغرابة نوع من الخيال، لكنه الخيال المرتبط بالخوف وانعدام الأمن والوحشة والتوجس، إنه باختصار: خيال الوحشة"
ولمن قرأ الديوان أقول: أليس لمفهوم الغرابة السابق حضورٌ في الديوان؟
وربما جدر بنا الآن الاقتراب أكثر من تلك التجليات لنلتمس بعدها صورةً كليَّةً للرؤية التي يقدمها لنا الشاعر.
أولاً: ظهور المألوف في سياق غير المألوف:
من ذلك مثلاً ظهور أفكار الماضي وذكرياته وسلوكياته في الحاضر، ظهور التصورات والأفكار التي اعتقدنا أننا تجاوزناها أو كبتناها، ظهورها في سياقٍ مكانيٍّ وزمانيٍّ غير مألوفٍ لظهورها، كأن نجدَ الذكرياتِ مثلاً في هيئةٍ بشرية (مؤنسنة) تتجمع خلف باب رأسه إذا طرقه، يقول في قصيدة (بيانو):
طرقتُ بابَ رأسي ثلاثَ طرقاتٍ
فتجمَّعت الذكريات خلف البابِ
وفتَحَت إحداهن وهي تسألُ: مَن؟
وهو يصنِّفُ ذكرياتِه صنفين، سعيدة وسيئة، وعلى الرغمِ من أنَّ الذكرياتِ أشياءٌ مألوفة لدينا إلا أنها بدت في النص قادرة على الكلام والفعل وقيادة السيارات، لديها مشاعر تماماً مثلنا تسعد وتفرح، تحبط وتحتج، تُحاكُ لها المؤامرات للتخلص من السيء منها، تموت وتتفحم جثثُها، وتنشر الجرائد نبأ موتها، أي: أنها تجلَّت في القصيدة كشيء غير مألوف في محيطٍ مألوف.
حتى الذكريات الجميلة يرى ضرورة التخلص منها..
فلو انحشرَت في أسنان الحاضر...
لو لم يتبرَّزْها القلبُ
لتحوَّلَت إلى تسوُّسٍ كبير ومغصٍ مؤلم (الذكريات الجميلة ص18)
وقد أفاد المعنى كثيراً من ظهور الذكريات بتلك الصورة غير المألوفة في سياقٍ مألوف، إنه يخلصُ إلى نتيجة مفادها أنَّ (أصابع البيانو البيضاء/ الذكريات الجميلة) وحدها لا تصنعُ لحناً جميلاً.

وقد يتحول الشاعرُ إلى شارعٍ مهجورٍ لا قيمة له؛ إذ لم يعبره إنسانٌ ولم تجتزه سيارة، هو عاطلٌ إذن، فيحضر لديه الشعرُ ويعيد ترتيبَ حروفه إلى شاعر ويسندُ إليه مهمةَ إيقاف الحرب! فما كان منهُ إلا أن قال: ص39
لكني نمتُ على البلاط
كي لا تقصمَ القصائدُ الثقيلةُ ظهرَ السريرِ
ونزفتُ عندما زالت المسافةُ بين رقبتي وسكينِ القصيدةِ
وظهور المألوف الشارع المهجور/ الإنسانُ العاطلُ/ الشاعر الذي اعتكف بداخله ينظر إلى القلم وينظر القلم إليه، في سياقٍ غير مألوف (القدرة على التحول من شارع مهجور لشاعر يفشل في إيقاف الحرب إلى شارع مرة أخرى)، أو بعبارة أخرى فالشارع والشاعر كلاهما مألوف لكن أن يتحول أحدهما للآخر هو سياق غير مألوف، وبالتالي كان على المهمة الأسمى الموكولة للشاعر بإحلال السلام على المجتمع أن تفشل ليعود أدراجَه كشارع مهجور عاطل في إشارةٍ إلى تعطُّلِ دور الشاعر في مجتمعه.

والبحرُ ذلك المألوف بهيئته، عندما يرى فتاةً يقعُ في حبها، فتحدث عدة سياقات غير مألوفة للبحر، حيث يترك مكانه ويمشي وراءها ويبكي ويتكلم مع الناس ويحتالون له ليظفر بها فيرتدي قميصاً وبنطالاً وباروكة شَعر ويتزوج ويجامعُ.

ثم في نموذج آخر لظهور المألوف في سياق غير مألوف أن يضع سباكٌ في رأسك ماسورة صرفٍ لتتخلصَ من كل الأحداث السيئة التي مرَّت بك أثناء اليوم، فالمألوف هو الإنسان والسياق غير المألوف أن تضع في رأسك ماسورة صرف، كما أن المألوف أن تحيا بمجتمعٍ لا يضاجع الأبُ فيه ابنتَه ولا أن يسبَ ابنٌ أمَّهُ ولا يعتصرُ رجل غريب صدرَ جارتِك في مدخل العمارة، لكنَّ هذا يحدثُ في المجتمع، أي: أن السلوكيات غير المألوفة بالمجتمع صارت مألوفة يُجاهَرُ بها، فكانت طريقة القلِّيني للتعبير عن غرابة المجتمع بإنتاجِه قصيدةً تتركُ في نفسك كمتلقٍ إحساساً بالغرابةِ.

وأن تتخذَ الأيامُ المنصرمةُ/ الماضي/ الأمس من الحاناتِ مكاناً لها فهو أمر لا يخلو من غرابةٍ، يقول في قصيدة 20/ 4/ 1983 ص122:
كانت الساعةُ تشيرُ إلى الواحدةِ صباحاً
حين سألتكِ يا أمي: أينَ ذهبَ الأمسُ
بعد أن لملمَ أغراضَهُ
وسلَّم مهامَ عملِهِ إلى اليومِ الجديد؟
قلتِ: أمس يتعكَّزُ الآن على دقائقه المنقضيةِ
ليذهبَ إلى حانةٍ رخيصةٍ ويلتقي زملاءَه الذين سبقوه!
من المألوفِ أن يتأثر الإنسانُ من وطأةِ الأحداث، لكن أن تتأثرَ الأيامُ/ الزمنُ فهذه الغرابة تعظِّمُ من وطأة وأثر الأحداث على الفرد وثقلِها.. والتي لن تنتهي بالتعودِ، وهو ما دفعه أن ينهي قصيدته قائلاً:
لكنَّكِ رحلتِ دون أن تخبريني
في أيِّ حانة يسهرُ اليومُ الذي ولدتِني فيه
أخبريني لأقتلَهُ
فربما بهذا أختفي فجأةً من هذه الحياة القاسية.

الصورة أثناء تقديمي لندوة مناقشة الديوان بمركز الإبداع بالإسكندرية أبريل 2018
شارك بالمناقشة د. شوكت المصري، د. محمد مخيمر

ثانياً: ازدواج الذات
القليني شاعرٌ مرتبطٌ بقضايا عصره ومجتمعه، ناقدٌ لسلوكيات الفرد، لا تلك السلوكيات التي تدور في إطار الذات فحسب وإنما أيضاً تلك السلوكيات المرتبطة بالمجتمع، الديوان على امتداده يعالج قضايا من شاكلة اتساع الهوة بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، التَّفسخ الأسري وعلاقته على الفرد، الفساد السياسي وضياع المحكومين، وكل تلك القضايا تؤثر بشكل مباشر على الهوية، ومن ثمَّ كانت وسيلته في التعبير عن ضياع الهوية وذوبانها تحت وطأة وقسوة المجتمع أنه أظهرها منقسمة، أي أنَّ ثمةَ ازدواجاً للذات، وذلك كخطوة في سبيل تفككها.
ووفقاً لما قاله كارل ميلر في كتابه (القرين) "فإن الازدواجية إنما تشير إلى تلك الحياة المزدوجةِ الخاصة بالفرد، والتي يمكن ملاحظتها وتسجيلها، كما أنها تشير إلى ذلك القرين المتخيل"
تماما كما فعل القليني في قصيدته (ثماني ساعات ص117) حيثُ سجَّلَ لنا تلك الازدواجية التي تحياها الذات، ذاتٌ لا تغادر المنزلَ تحيا مع الذكريات وتلوِّح للموتى الذين يطيرون أمام النافذة (في تجلٍ آخر للغرابة حيث حضور الموتِ في الحياة) وتُمشطُ شعر الماضي، وذات أخرى تذهب للعمل وتعود بعد ثماني ساعاتٍ لتخبرَ نصفها الأولِ بالمنغصات اليومية التي حدثت بالعمل من تعنيف المدير ودلق الشاي على أصابعه واحتكاك جارته المتزوجة به على السلم.
ويفاجئنا بالنهاية أن كل ما حدث للذات الثانية هو كلُّ ما فعلته الذات الأولى..
ثم أسمعني أتنهَّدُ
وأقولُ لي: لم يحدثْ شيءٌ آخرُ ذو بالٍ
اطمئنَّ.. هذا كلُّ ما فعلتَهُ أنتَ حينما كنتَ غيرَ موجودٍ ص119
في إشارةٍ شديدةِ الحضورِ على أنه لم ينفصلُ جسدياً ولم يصبْ بذهانٍ ولكنه يدركُ أنه يحيا بذاتٍ مزدوجةٍ قد تقوده يوماً إلى الانهيار والتفكك.

ثالثاً: صناعة الأسطورة:
لجأ القليني إلى صناعة الأسطورة كما في قصيدة البحر ص72، وقد اتخذ من روح الحكي الشعبي سمتاً لها وبدأها بأشهر الأفعال المرتبطة بالحكي (كانت الفتاة- كان البحر) ويُنشىء علاقةً تبادلية بين البحر والفتاة، لأول مرة يجدُ البحر من يغسله بعد أن كان يغسلُ أرواح وهموم الآلاف كل يوم.
ذلك البحر الذي يشاهد الأحبة مُتجمِّعين على شاطئه يتأبطون أحلامهم، صار لديه حبيبة. تمرَّد على دورِه، هجر المصيفين وباعة الفريسكا وعمال الشماسي، هجر رماله التي يؤنسها الأطفالُ ببيوتهم الرملية، وبعد أن احتالَ الناسُ للبحر كي يظفر بحبيبته وتزوجها بعد أن صار ثلجاً كي لا تغرق، وأعطوه ملابسَ ونقوداً وباروكة شَعر، وبعد أن ترك بداخلها نطفةً.. هربَ قبل ذوبانِه من لحمها الساخن، عادَ حزيناً، بينما فرح المصيفون والباعة وأصحاب الشماسي والرمال.
هذه الأسطورة المصاغة بحبكةٍ سردية تامة البناء والأركان، تجسدُ تلك العلاقة بين الحب والتضحية في زمن يُلامُ فيه المرء على كرمه، والشاعر/ الراوي كابنٍ للبحرِ يعتذر لحبيبته عن كرمه الذي ورثه من البحر وصار خلقاً غريباً على المجتمع.

والباحثُ عن تجليات الغرابة في الديوان يستطيع تلمُّسَها في كافةِ أرجائه، وقد اعتمدَ القليني عدة تكنيكات لبيانِها على الشكل الذي بدت عليه، لعلَّ أبرزها مرتكنٌ إلى الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجي) حيث يُعبِّرُ عن الأشياء كما يدركها وليس كما هي معروفة لدينا، أي أنه يعيدُ تسمية الأشياء وتعريفها حسب إدراكه بها:
(خلق الله الذاكرة على شكل بيانو)، (الشاعر الحزين كمركب قديم مسجون في ورشة نجارة)، (الأدراج هي البيوت التي تعيش فيها الأسرار)، (الجسد بيت تعيش فيه الذكريات)، (الأمهات الفقيرات يلدن لوحاتِ إعلاناتٍ ويلدن ديوكًا بمناقيرَ حادةٍ ويلدن حباتِ سوداني)، (أصابع الشاعر لا تفقد الذاكرة أبداً)، (الأغنياء قصيدة عمودية)، (الفقراء قصيدة نثر)، (أنا مجرد طبخة يريدون طبخها سريعًا) ..إلخ
وأثر تلك الغرابة المفهومية/ التعريفية للأشياء والتي وصفها لنا من خلال إدراكه لها لا من خلال حقيقتها ووعينا بها أنه كسر لدينا فكرة الإيهام أثناء التلقي، إنه لا يريد أن يشحن وجدانَنا وإنما يريد أن يثير دهشتنا عن طريق هذه المفاهيم الجديدة التي تمثل عوائق في التلقي الوجداني، وهو أقرب ما يكون لفكرة الإبعاد أو التغريب التي ابتدعها برتولت بريشت.
كما أن جعل الأشياء غير مألوفة كما ذكر (فيكتور شكلوفسكي) يزيد من صعوبة وإطالة أمد إدراكها، وذلك لأن عملية الإدراك في جوهرها عملية ذات غاية جمالية في ذاتها؛ ومن ثمَّ فإنها ينبغي أن تكون طويلة الأمد. وهو ما فعله القليني حيث لم تصبح قصائده -على سهولة وسلاسة مفرداتها وألفاظها- لم تصبح عادية ومألوفة وتقليدية في معانيها ورؤيتها ودلالاتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق