تعليقاً على شخصية (عوَّاد النَّصَّاب)
بقلم / أحمد حنفي
يروى عن سقراط أنه قال في دفاعه أمام القضاة
الذين اقترعت أثينا على انتخابهم لمحاكمته: "كنتُ أبحثُ عن الحكمةِ ،
فاستعرضتُ الناسَ الذين عُرفوا بها ، فأخلفوا ظنِّي ، حتى إذا بلغت إلى الشعراءِ
عرضتُ أشعارهم أمامي ، و درستها بعنايةٍ فائقة ، و حملتها بيدي إليهم ، أسألهم
عمَّا عَنوا بها ، و إنِّي أخجلُ أن أقُصَّ عليكم الحقيقةَ ، و لكني مكرهٌ على
القولِ إنَّه لم يكن منهم من استطاع أن يُحققَ رغبتي ، و صدِّقوني إذا قُلتُ لكم
إنَّ أيّ واحدٍ في قاعةِ هذه المحكمةِ يفقهُ معاني هذه الأشعار و يستطيعُ
التَّحدُّثَ عنها أكثرَ من الشعراءِ أنفسهم"
هكذا يرانا الفيلسوف الأوَّل - بل قل الفيلسوف البدائي - يرانا نكتبُ ما لا نفهم ، ننشغلُ
بالمجازِ و الإبهارِ أكثر مما ننشغل بالمعنى ، لا يهمُّ ماذا نكتبُ أو نقول لكن المهم هو ذلك الأثر الذي تتركه القصيدة في نفس قارئها ، و بذلك نستطيعُ القول - و ربما على سبيل الدعابة - أنَّ الرمزيةَ قد تجاوزت نشأتها "بودلير" و "مالارميه" ، بل أحسبه كان يعني بشعرائه هؤلاء الذين تخطوا فكرةَ "بودلير" الذي رأى عرض المعنى بصورةٍ مبرقعةٍ - أي: من خلفِ حجابٍ شفيفٍ - و تمادوا كما تمادى
"مالارميه"
حين رسم للشعر الرمزي مسارا جديدا رأى فيه أن الشعر يمكن أن
ينتج أثرا جماليا يصل به التجريد إلى أن يكون الفهم معطلاً تقريباً بينما يقوم السياق الصوتي بكل العمل ، فبعد أن كان المعنى يتطلب من الشاعر
عرضه بصورة مبرقعة انتقل عند "مالارميه" نحو التجريد ،
أي
: تدمير المعنى بشكل نهائي و تجاوز مفهوم الإيحاء إلى مفهوم خلق الحالة.
![]() |
سقراط |
![]() |
مالارميه |
لا أعرفُ لماذا يرانا "سقراط" و كأنَّنا نمارسُ الشعوذةَ و السحر ..
السحر ..! نعم .. إنه السحر الذي مثَّلَ العتبة الأولى من تطور العقل البشري على حسب رأي "جيمس فريزر" صاحب كتاب "الغصن الذهبي" ، و من ثَمَّ الدين و من ثَمَّ العلم ..
الشعرُ باعتباره سحراً أقدم من العلم ، الشعرُ باعتبار تاريخية نشأته أقدم من العلم ، و كذا الشعرُ باعتبار أعلامه و رموزه أقدم من العلم ؛ فلماذا إذن يريدونَ أن يخضعوه تحت معيار العلم و حدوده العقلانية و إحصاءاته و قوانينه ..
![]() |
جيمس فريزر |
الشعر فن جميل .. بل أجمل مما يتصورون و أجملُ مما يتصور الشعراء أنفسهم ..
ليس الشاعرُ دجالاً ..
أمَّا هؤلاء الذين يدَّعونَ أنهم شعراء ، و يرصصون كلماتٍ لا يوجد بينها علاقة سوى علاقة التجاور ، و يظلون في ذات الفلك لا يغادرونه عقوداً ، فهؤلاء و أمثالهم ممَّن ينتسبون خطأً للشعرِ هم مَن يُفسدون صورةَ الفن الجميل ..
هكذا كنت أعني في مقالتي السابقة "عوَّاد النصاب" .. تلك الشخصية التي ادعت أن تعزفَ سيمفونيات "بيتهوفن" على عودٍ مُثقَّبٍ من شظايا الفحم و هو يدخنُ معشوقته (الشيشة) ..
بالطبع فهو يمارسُ الدجلَ و النصبَ مثله تماماً مثل شعراء "سقراط" ..
إنَّ شخصيةً مثل "عواد النصاب" تمتلئُ بها حياتنا الثقافية .. إنها مديةٌ على عنق الإبداع تحزُّه ببرودٍ و لا تشعر سوى بذاتها الشائهةِ فقط لتظُنَّ أنَّها موجودة محققة.
يروى عن سقراط أنه قال في دفاعه أمام القضاة الذين اقترعت أثينا على انتخابهم لمحاكمته: "كنتُ أبحثُ عن الحكمةِ ، فاستعرضتُ الناسَ الذين عُرفوا بها ، فأخلفوا ظنِّي ، حتى إذا بلغت إلى الشعراءِ عرضتُ أشعارهم أمامي ، و درستها بعنايةٍ فائقة ، و حملتها بيدي إليهم ، أسألهم عمَّا عَنوا بها ، و إنِّي أخجلُ أن أقُصَّ عليكم الحقيقةَ ، و لكني مكرهٌ على القولِ إنَّه لم يكن منهم من استطاع أن يُحققَ رغبتي ، و صدِّقوني إذا قُلتُ لكم إنَّ أيّ واحدٍ في قاعةِ هذه المحكمةِ يفقهُ معاني هذه الأشعار و يستطيعُ التَّحدُّثَ عنها أكثرَ من الشعراءِ أنفسهم"
ردحذف