الخميس، 25 ديسمبر 2014

مساومات على مفرق التواطؤ قراءة في ديوان "الرياح أهدرت حقها في المجئ" للشاعر أحمد حنفي

مساومات على مفرق التواطؤ

قراءة في ديوان "الرياح أهدرت حقها في المجئ"

للشاعر أحمد حنفي

بقلم / صالح أحمد


لواحدٍ من جيل 2000 الذي مازال يتخلق، يأتي هذا الديوان للشاعر أحمد حنفي(1)، بمثابة سعي إلى قصيدة تتخلى عن هذيان ذات لا ترى خارج نفسها، نحو نضوج يعي الذات والعالم محورين في دراما صراع لا ينتهي.وكذلك قصيدة تتخلص من أصوات الآباء الشعريين باحثة عن كتابة حميمية تخصها بصدق.

في هذا العمل الشعريّ،  تحشد الذاتُ نفسها في مواجهة الخارج، وعدوانه اليوميّ على استقلاليتها. فالصراع الداخلي قليل في هذا الديوان بالمقارنة مع مقارعة الخارج. وليس من الغريب أن تيمة "المساومة" هي الأكثر تردداً في النصوص، وسيطرة على ذهن الكاتب. حيث الضغط الماديّ مستمر، ليُـفقِد المرءَ قيمة بعد أخرى من إنسانيته، وصولاً إلى التواطؤ العام مع ما هو سلطويّ مهيمن، والتماهي مع خطابه الأيديولوجي الزائف. "ربما .. علقوني عليه بليلٍ تواطأ في خلسة الطيبين !".

قسّم الشاعر كتابه إلى ثلاثة أقسام (كراسات كما سماها)، وذلك على أساس من وحدة المضمون. القسم الأول (على قارعة السماء) يرصد تحولات العلاقة مع ما يرمز له دال "السماء". والثالث(ذاكرتي في رأسكَ أنت) مخصص لنصوص ثلاثة تنظر إلى الخلف، صوب الطفولة ومملكة الذاكرة. أما الثاني(هكذا أتحدث) فيشمل كل ما لا يقع تحت مضمون القسمين السالفين حيث "أتحدث" تشي بما يمكن أن يحويه حديث الشخص من أغراض شتى.

                     ********

ملامح عامة


ظاهرٌ في النصوص منحاها الواقعيّ، غير أنها ليست واقعية رواد التفعيلة (السياب – عبد الصبور – حجازي ..)، فقد استفادت من قصيدة الصورة ونموذج تفجير اللغة (جيلي السبعينات والثمانينات) عبر سرد الحدث (الأحداث) بواسطة صور تقدّم الشيء الواقعيّ مشعاً بطاقات الخيال(2)، وكذلك مارست النصوص ترميز العالم لتقدم الشيء الحقيقيّ مكتنـَفاً بالمجاز.

استخدم الكاتب التناص في بعض نصوصه مع شخصيتيْ المسيح وأبي فراس الحمداني. وقد تفاعلت ذات الشاعر مع الشخصية منتجة ذاتاً ثالثة، هي الفاعلة في النص، عن طريقها يشف كل من الذات والمتناصّ معه، كلٌّ عن الآخر. واهتمت النصوص بظروف كل شخصية تناصّت معها، مستفيدة من زمان وقوعها ومكانه والشخصيات التي لعبت دورا في قصتها (يهوذا مع المسيح – وسيف الدولة مع أبي فراس).
الشاعر / أحمد حنفي

على قارعة السماء


يستعر في هذا الجزء من الديوان صراع عنيف. بين الفرد المعاصر ومفاهيم موروثة عن الميتافيزيقا.

(بلاد من الموت تجثو
ولستُ من الماء غير مزاحٍ
تفرّغ من قهقهة الغانيات
ولستُ من الراحلين إلى لحيته.)

بين طموح إنساني وإرادة فوقية متعالية

(السماء تشيّع أوجهها المستعارة
تطهو بنصف عباءتها
وجبة للكساءِ
على حافة المطر المستطيرِ
تدلّي بقيتها في المساءِ
كما نعهد المطر الموسميّ
كما نعهد البحر في وجبة الموتِ
متشحاً بالصرامة.)

بين انجذاب باطنيّ إلى المطلق ذي طابع صوفيّ، وجملة من التعارضات تطرد العقل بعيداً "يبرر ابتعاده بالتوعك .."

(من غير قلبي..
يقدم كأس النجومِ؟
لمن أنبتت ذقنه شعرة من دمائي ؟
ومن غير قلبي ..
يردد وِرد الصباح بصوت المدائن ؟
لا قلب إلاك
أنت الذي لم يزل يرشف الودّ
من أوجه العابرين بنظرته السابحة.)

بين مسلك أرضيّ يدفعه المجتمع(الرفاق يضحكون ساخرين- النساء تشتهيني – الفاتحين بلادا من الفتيات ..)في تعاريجه، ومسلك سماويّ يدلّ إليه الماضي

(غير أنّ رفاقي يعضون أنفسهم ضحكاً
فاصبغيني بلونك
حين تنوء النساء بصبغي
وقصي عليهن قصتنا..
كيف كنا..
نمارس فرحتنا في الميادين
في برد ديسمبر المستحيل
وكيف نبدل أرواحنا في المساءِ
لماذا تمنيتُ..
أن استحيل إلاهاً على البحر ..
كي نلتقي
واغرق كل السفينِ
وأصبح عوناً لسحبكِ
تمسين عوناً لمائي.)

في هذه القصائد الخمس، نحن أمام مشروع شعري وليس قصائد متفرقة. فالنصوص متمحورة حول عدد من الرموز، كل نص يضئ جانباً منها، رموز لم تـُتخذ عرضاً بل هي من الأصالة بحيث تمثل ثوابتَ في وعي الكاتب بنفسه وبالعالم.

الرمز المركزيّ في هذا المشروع هو "السماء"، وهي مهبط ما ينزله الـله إلى الأرض ،ومن ثمّ جهة للإلهيّ، وفي سياقاتها اللغوية يحيط بها معنى العلوّ المفارق للحياة الأرضية.هذا المركز أثر على الموجودات القريبة منه فجعلها رموزاً هي الأخرى (النجوم – البحر "بوصفه المسطح المائي الذي يتقابل مع السماء في نقطة انتهاء الأفق،مما جعل الكاتب ينظر إليه كسلم إلى السماء"- وكذلك ظرفا الزمان: الصباح والمساء). والكاتب يتوسل التعبير بهذه الرموز في كل تجربة له مع السماء.

أما الخارج فقد انقسم إلى قسمين (الوليّ الصوفي والجد)من جهة يدعوان إليها، و(الفتيات-النساء –الرفاق) من جهة أخرى ينئون وينهون عنها. والعلاقة مترددة بين جفاء واتصال.
  
نكتشف خارج هذا المشروع أن مفردتيْ "الصباح" و"السماء" استخدمتا بنفس طاقة الترميز الحاصلة هنا في قصيدتين أخريين، "الصباح" في قصيدة "مشهد معتاد لي..غير معتاد له" :

(ينثني تبجيلا مزيفا
به ملمحُ الصباح)

و"السماء" في قصيدة "لم أخف أن تشاهد أمي حماقتنا" :

( أنني اعتدت أنفاسك اللاهثات عليّ
ونبضك حين يدثرني
وسيوفك ..
حين تبارز وجه السماء لكي لا تساومني.)

مما يؤشر على مدى تجذر وأصالة هذه الرموز في وعي الكاتب، كما أسلفت.

الزمن/ الإطار الفعال


ليس الزمن في قصائد أحمد حنفي شيئاً يمر، ولا هيئة جامدة يتلبسها الكون في الفصول الأربعة والليل والنهار. بل نقابل في النصوص زمناَ أشبه بالزمن الروائي لدى كُتـّاب الرواية الواقعية(3). الزمن بوصفه الظرف الموضوعي ذا التأثير على  حيوات الناس وأوضاعهم ومن ثم أمكن وصفُ مظاهره كعنصر حيّ وفعال من التجربة المرصودة .

في قصيدة (ليلة في أوائل الربيع) ،حيث الأنا فيه ناتجة من التفاعل بين شخصية الكاتب وشخصية المسيح المتناصّ معها، يأتي طقس الربيع بخماسينه وفراشاته المنجذبة إلى نارها، بنية تحتية لتجربة الصلب وتجلياً لمعناها الكوني.

المعالجة نفسها للزمن نجدها في قصيدة(ليلة شتوية). ولا يغيب عنا ما أوردناه من دور المساء والصباح الرمزي في كراسة "على قارعة السماء".

الاسمية


تغلب في قصائد الديوان العناصر الاسمية (مصدر-المعارف بأنواعها-اسم المرة...) على العناصر الفعلية التي تشير إلى زمن ماضي أو مضارع أو مستقبل. ويرجع إلى ذلك مظهر الخشونة والتصلب البادي في بنية القصائد.

ولنأخذ مثلا على ذلك المقطع الثاني من قصيدة من (الشواء يأكل الشواء)، وعدد كلماته 80 كلمة، ولا يتجاوز صفحة ونصف الصفحة من المطبوع. جاء فيه ستة مصادر [ امتداد – انتظار – صبر – انتشاء(مرتان)- قطف ] .تعرّف كتب الصرف المصدر كالآتي :" الفعل ما دل على حدوث شئ والزمن جزء منه، أما المصدر فيدل على حدث مجرد من الزمان." وعليه فإن الكاتب يجفف الحدث من زمنيته، مفضلا تشكيل النص من لوحات سكونية، لا حركة فيها. وهذا ناتجُ ذهنيةٍ نشطة، تمثلت التجربة وجزأتها إلى هذه الوحدات الجامدة، لتعيد عرضها في الوسيط اللغوي بعد ذلك.

وجاء فيه من اسم المرة أربعة [ دورة – نظرة – جلوة – وطأة ]. واسم المرة يقوم بعملية توقيف Stoppingلديمومة الحدث، من حيث أنه يكتفي بمرة واحدة من فعله الجاري. والكاتب إذ يكثر من هذه الصيغة الاسمية، يستعيض عن الحركة الدائبة في طبيعة التجربة قيد الوصف بعينات Samples من كل فعل.

وإن كانت فلسفة الجمال منذ أرسطو (فن الخطابة) حتى حداثة القرن التاسع عشر، تصر على أن "المحاكاة" هي عمل الفنان إزاء الطبيعة. فإن أحمد حنفي لا يفتأ يرينا عمل عقله على هذه الطبيعة. ففي نصوصه العالم معروض بعد تدخلات مضنية من تجزئة وتثبيت ونمذجة. إنه يشبه وعيَه بالعالم أكثر مما يتشبهُ بالعالم نفسه.

تتفاوت نسبة العناصر الاسمية من نص لآخر في الديوان، غير أنها قي العموم مرتفعة بشكل ملحوظ. وتجدر الإشارة هنا إلى قصيدة (ارتعاشات الصبار) وقد مثلت اختلافا بارزاً على شيوع الاسمية. فقد احتوت واحداً وأربعين فعلاً بنسبة 20% من كلمات النص. والقصيدة ينتظمها تدفق غنائي، ساعد على إبرازه أنها مكتوبة بضمير المخاطبة المؤنثة (أنتِ)، مما قرب السطر الشعريّ من المنطوق الشفاهي الذي تغلـّبَ على حيل الكتابة وتعسفها تجاه اللغة.

******

لا أذكر لمن  هي مقولة " إنّ الشاعر في كل ما يعمل، إنما يبحث عن الشبه "  لكن قصيدتان من كراسة "هكذا أتحدث" استدعت عندي هذه المقولة.

"معانقات عند سفح علاقة متهرئة" و "انبثاقات فردية من أنشودة الرحيل" قصيدتان طويلتان، يلفت الانتباه أنهما انتهتا في نفس التاريخ (10 ابريل 2000) ،وأن لهما نفس التكنيك، إذ يعمد الشاعر، تحت ضغط بحثه المحموم عن الشبه، إلى مطلق الإحساس "بالرحيل" و "المعانقة التي تكون عند اهتراء العلاقة"، متمثلاً مشاهد تثير في ذروتها مطلق الشعور الذي دخل النص مدفوعاً للتعبير عنه.

وعنوان القصيدة الثانية دال على هذا، إذ القصيدة مقاطع تمثل كلّ منها انبثاقة فردية : مقطع عن رحيل بين حبيبين ،مقطع في رحيل ولد عن أمه الثكلى.. وهكذا.
هذه المقاطع / "الانبثاقات" استـُخرجتْ من المقطع الأول "أنشودة الرحيل" الذي قام فيه الشاعر بإثارة معنى الرحيل مجرداً ومطلقاً. التقنية نفسها تتكرر في نص "معانقات..." وهو ثلاثة مشاهد، كل واحد منها مونولوج تراجيدي، يتقمص ..يتمثل.. يحمل الشحنة الوجدانية، عن تجربة العلاقة المهترئة التي يعيشها الشاعر.

******

يسري في هذه الكتابة تيارٌ من "السادوماسوشية" ، تتجلى في صورٍ تحتفي بالعنف والقسوة.

·   أفقأ عيني من على نهدٍ
يساوم الرموش غفوة الضجيجِ .

·   حين أصمت راحلاً في عينك العوراءِ
- من نظري إليها -

·   كان يشهد أسرارنا
لم يبح للمساء بها
حين نطفئ في وجهه التبغَ
هذا الذي نشتريه مناصفة

·   أذبحها
وتقبض النقود عند حاتيَ المدينة
وتصدق الأنباء :
"من الشواءِ .. يأكل الشواء"

وقد أراحنا الكاتب من بلورة هذه الاستشهادات المتناثرة في قوله :
"وتعجبني.. فظاظتك الأثيرة ."

******

على مدار خمس وعشرين قصيدة، السطر الأخير ينتهي بتقفية مع سطر سابق عليه، إلا ثلاث قصائد ،ليست من أفضل المكتوب، هذا بالإضافة إلى أن المقاطع كلها تنتهي بقافية على الأغلب. والحق أن هذه القوافي غير مجلوبة ،فهي ذات ارتباط عضويّ بالمعنى في نفس الوقت الذي تؤدي فيه دورها الموسيقي. بيد أن تكرار القالب يورث الرتابة ويشي بجمود شكل، يفتقد المرونة  الكافية لاحتواء مضمون، التغير الدائم هو قانونه.

ومن ثـَمّ نأمل من بعد هذا أن لا يضع الشاعر مختلف تجاربه في قالب واحد. في "رسالة الرائي" الرسالة الأشهر لـ"آرتور رامبو" يقول :
( الشاعر هو سارق النار بالفعل. يجب أن يحس ويلمس ويسمع اختراعاته. لو أن هذا الذي يعيده من هناك شكلٌ فليعطه شكلاً، لو أنه ليس بشكل فليعطه اللاشكل .. اعـثـروا على لغة ).(4)


صالح أحمد
الإسكندرية
نوفمبر 2007





هـوامـش



(1)    ديوان "الرياح أهدرت حقها في المجئ"- سلسلة إبداعات العدد234– الهيئة العامة لقصور الثقافة 2006


(2)    يفرق "د.مراد عبد الرحمن مبروك" بين الصورة الوصفية وهى التي "تصف الفعل في لحظة سكونه دون تتابعه واستمراريته. مع عدم تتابع المكان". وبين الصورة السردية وهى التي "تصف الفعل في لحظة تحركه مع تتابع الزمان والمكان". والشاهد من هذا أن أحمد حنفي يروي الحدث بما سُمّي هنا "الصور السردية". وعن طريقها يتحد الواقع الموضوعي بالخيال الذي هو من انتاج الذات، في وحدة تمثل قوام النص.
انظر (الظواهر الفنية في القصة القصيرة المعاصرة) ص95 – الهيئة العامة للكتاب طبعة 1989.


(3)    تعرّف "د. سيزا قاسم" الزمن في الرواية بالآتي : "الزمن حقيقة مجردة سائلة لا تظهر إلا من خلال مفعولها على العناصر الأخرى. الزمن هو القصة وهي تتشكل ، وهو الإيقاع."
(بناء الرواية) ص38 – مكتبة الأسرة 2004.


(4)    (السريالية في مصر) – سمير غريب – ص82 – الهيئة العامة للكتاب 1998.

هناك تعليق واحد:

  1. لواحدٍ من جيل 2000 الذي مازال يتخلق، يأتي هذا الديوان للشاعر أحمد حنفي(1)، بمثابة سعي إلى قصيدة تتخلى عن هذيان ذات لا ترى خارج نفسها، نحو نضوج يعي الذات والعالم محورين في دراما صراع لا ينتهي.وكذلك قصيدة تتخلص من أصوات الآباء الشعريين باحثة عن كتابة حميمية تخصها بصدق.

    في هذا العمل الشعريّ، تحشد الذاتُ نفسها في مواجهة الخارج، وعدوانه اليوميّ على استقلاليتها.

    ردحذف