الخميس، 20 نوفمبر 2014

الأدب المهجري المعاصر ( 2 )

الأدب المهجري المعاصر (  2 )


مقدمة عن الأدب العربي المهجري المعاصر
والمختارات الأدبية "أنثولوجيا"


 
الأستاذ لطفي الحداد
بقلم الكاتب: لطفي حداد


المراهنة على أدب المنفى:

كيف يمكن للأدب والفنون ـ أي الشعر والرواية والمسرح والموسيقى والرسم _ أن تنمو وتنضج في ظل الأنظمة العربية الحالية، التي لا تؤمن بالحوار والاختلاف!!
الثقافة تتطلب الحوار، والحوار ينمو في تربة الاختلاف، لذلك أرى أن المهاجر الأوربية والأمريكية هي خير بيئة لنمو الثقافة العربية المعاصرة وحصول حوار حقيقي، بسبب تعدد الثقافات وتنوعها واختلاف الآداب المجاورة للأدب العربي، بشكل يسمح بلقاء الآخر دون تسلّط واستبداد.
فالأدب العربي المنفي هو رسالة نبوية من أجل أدب عربي ناضج ومتدفق.
* * *
 الشرق الأوسط تفهمه في المهجر:

كذلك يحمل أدب المنفى رسالة نبوية لأنه يسعى إلى فهم الواقع العربي والتعبير عنه بلا خوف أو تردد، فالأدب في الداخل ما يزال مهددًا بالرقابة والسلطات الدينية والسياسية، كما أن فهم الوضع العربي يكون أكثر وضوحًا من الخارج.

إنّ الأدب المهجري الحالي ـ إذا وعى دوره ومسؤوليته ـ هو الذي يملك الإمكانيات والرؤيا لعمل ثورة في الأدب العربي كله.. لأنه يرى أفضل، ويفهم ويستوعب ويهضم، ويفسر عن بعد، دون أن يضيع في التفاصيل المضللة.
* * *
الأديب المنفي:

الكاتب لا يعيش في وطن، إنه يرتحل نحو وطن،
إنه يؤمن بأن السماء هي الآخرون، ويعيش الكلمة كوطن.. إنه يفهم الانتماء كحاجة طفولية ويتخطاه، لكنه يبقى يحب أن يعود إلى حارته يومًا ويسهر على عتبات بيته.
إنه يظن أن نبوة اللحظة الحاضرة هي الانفتاح على الثقافات المتعددة وقلوب الآخرين،
إنه يحلم بالحرية ليل نهار، ويسافر إلى أرض ميعاده في العيون الصادقة..
إنه الإنسان بضياعه وفرحه وصدقه ومغامرته وجبروته وهزيمته ولوعته وحضارته!!
هذه بعض هواجس الأديب المنفي!!
* * *
اللغة هي الوطن:

حين يكون كل شيء وكل شخص حولك غريباً، أو بالأحرى تكون أنت الغريب وسط كل شيء وكل حياة، تصير الكلمات رحمًا أخرى تدخلها لتطمئن قليلاً وتستدفئ لبعض الوقت!
بالنسبة للمنفي الشعر حياة ، والقصة تجسّدٌ للجوع الروحي، والرواية سفر في الماضي والوطن..

 الأدب المنفي ظاهرة عالمية يضم أدب المنفى العربي داخل جناحيه كأحد جراح، لأن الأدب الحقيقي هو الخارج عن الحدود، الناظر من بعيد لجمال القرية والشاطئ والمقهى، الباحث عن الحقيقة في كل اللغات والعيون والأمكنة، المتحرر من الجغرافيا.
إنه أدب المنفى بلا وطن لأن اللغة وطنه.. اللغة رحم!! اللغة ولادة!
* * *
التكفير وحرية التعبير:

ظاهرة التكفير واحدة من الأشياء المضحكة المبكية في وطننا.. ويبدو أنها تنتصر في معظم الأحوال على حرية التعبير.. فالكثير من الكتب الأدبية تمنع من الدخول إلى بلد عربي أو أكثر. وبالنسبة لأدب المهجر فإنني أتوقع أن معظم الكتب التي ألّفها أدباء عراقيون مثلاً لم تدخل كثيراً من البلاد العربية.. لكن الأدباء دائمًا يجدون الحيل لإيصال كلماتهم إلى الناس. فمن تلك الحيل إرسال كتاب واحد تُنسخ منه مئات أو آلاف النسخ، وتوزع أو تباع بأسعار زهيدة جدًا.. طبعًا كانت هذه الظاهرة واضحة جدًا في العراق قبل الحرب لأن كل أدب من الخارج محرّم..

يعاني أدباء الداخل من تحديد حرية التعبير أكثر بكثير من أدباء الخارج الذين يستطيعون طباعة كتبهم في لبنان (حيث الرقابة أقل من بقية الدول العربية) أو في إنكلترا وألمانيا (هناك العديد من الدور العربية للنشر). لكن الثالوث المحرّم (الجنس والدين والسياسة) ما يزال يضغط على الأقلام ويحدّد ما يجب أن يكتب وما يقع داخل دائرة التكفير. وتبقى مشاكل العرب الأساسية (جنون النفط، الأصولية السياسية، أو الديكتاتورية السلطوية) بعيدة عن التناول، وإن كُتبت عنها مادة أدبية، لا تصل إلى الجمهور المتعطش لحرية التعبير.


إن المنفى الأدبي ليس جديدًا تمامًا في الأدب العربي فقد شعر الكثير من الأدباء العرب عبر التاريخ بمعنى الاغتراب والبعد عن الوطن. واشتاقوا إلى الأمكنة التي تركوا ، والمنازل التي هجروا.. وهكذا صارت المقدمة الطللية (من الوقوف على الأطلال) نهجًا تقليديًا استهلت بها المعلقات، وكثير من القصائد العصماء المشهورة. فها هو امرؤ القيس يبتدئ معلقته قائلاً:

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ    بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وقوفًا بها صحبي عليّ مطيّهــم        يقولـون لا تهلك أسى وتجمّلِ
وإن شفائي عبرة مهــراقة           فهل عند رسم دارس من معوّلِ

ومن قصائد الحنين والغربة غير المعلقات نجد بعض الأبيات المشهورة للمتنبي، خاصة في بلاد فارس حيث يقول:

مغاني الشعب طيبًا في المغاني           بمنزلة الربيع من الزمانِ
ولكنّ الفتى العربيّ فيها                 غريبُ الوجهِ واليد واللسانِ

كذلك عبّر أبو تمام عن حنينه إلى أرضه وبيته وحبه الأول إذ يقول:

نقل فؤادك حين شئت من الهوى        ما الحب إلا للحبيب الأوّلِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى          وحنينه أبدًا لأوّلِ منزلِ

وحين يبتعد الشاعر عن أهله وأحبائه ووطنه لأنه في سجن أو أسر، فإن القصائد تخرج ملتهبة دامعة شديدة اللوعة. فها هو أبو فراس الحمداني يسمع هديل حمامة على شجرة عالية قرب سجنه في بلاد الروم فيتذكر الأهل والوطن ويقول:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة    أيا جارتا، لو تشعرين بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا     تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة    ويسكُت محزون ويندب سالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة    ولكن دمعي في الحوادث غالِ

وفي الأندلس، المهجر العربي القديم، نسمع الأمير عبد الرحمن الداخل من القرن الثامن يقول بعد أن نظر إلى نخلة فهاج شجنه وتذكر وطنه:

تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة   
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بيتي وعن أهلي

ولما عاد ابن عبد السلام الخشني إلى الأندلس ـ بعد غياب خمس وعشرين سنة (كما يحدث لكثير من الأدباء المهجرين المعاصرين) ـ شعر كأنه لم يرحل ولم يغب قط عنها لأنها بقيت في قلبه وضميره ليل نهار. يقول:

كأن لم يكن بينٌ ولم تكن فرقة      إذا كان من بعد الفراق تلاقِ
كأن لم تؤرق بالعراقين مقلتي      ولم تمر كفُّ الشوق ماء مآقي

وأختتم هذا المقطع بنونية ابن زيدون الذي اكتوى بنار الهجر والسجن والبعاد عن الوطن:

أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا        وناب عن طيب لقيانا تجافينا

بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا            شوقًا إليكم ولا جفّت مآقينا

نكاد حين تناجيكم ضمائرنا           يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

حالت لفقدكم أيامنا فغدت              سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا




لم تكن الهجرة الأدبية والفكرية إلى أميركا مقتصرة على اللبنانيين، فهناك جماعات سورية وفلسطينية أيضًا ومهاجر أخرى مثل كندا ودول أميركا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين وفنزويلا.
هناك تشابه واضح وجميل بين الأدب المهجري في العصر الحديث والأدب الأندلسي في القرن السابع الميلادي. لكن اختلافًا واضحًا أيضًا بين الأدبين يكمن في أسباب الهجرة. ففي الأول كان السبب العامل السياسي المتمثل في اضطهاد الحريات أيام الحكم العثماني بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية وضيق المعيشة. أما الأدب الأندلسي فقد نشأ من هجرة القبائل والجيوش العربية إلى بلاد إسبانيا بعد الفتح الإسلامي حيث لم يكن هناك اضطهاد سياسي ولا ضيق اقتصادي.

لقد بلغ عدد المهاجرين بين عامي1889ـ 1919 نحو ستين ألفًا، وكان أول مهاجر عربي هو أنطون البشعلاني اللبناني الذي هاجر عام  1854 إلى أميركا الشمالية ومات بعد سنتين من هجرته. أما أول أديب هاجر إلى الأرض الجديدة فكان ميخائيل رستم والد الشاعر أسعد رستم. وبلغت موجات الهجرة قمتها عام 1913.
* * *
الجماعات الأدبية العربية في المهجر بداية القرن العشرين:
* الرابطة القلمية: أنشئت هذه الرابطة في نيويورك في 3 نيسان عام 1920 بدعوة من الأديب عبد المسيح حداد (1890ـ1963) صاحب جريدة «السائح» ومؤلف كتاب «حكايات المهجر». وقد أصبحت جريدة السائح لسانها الناطق، فصدرت أعداد ممتازة منها تصور الحياة الأدبية في المهجر. كذلك يعتبر كتاب الغربال لمخائيل نعيمة الصادر عام 1923 ممثلاً لأفكار الرابطة وروحها التجديدية.

* العصبة الأندلسية: قامت في المهجر الأمريكي الجنوبي عام 1922، في البرازيل بمدينة سان باولو، وكان مؤسسها الشاعر القروي. وقد اتسمت هذه الحركة الأدبية بالهدوء والاتزان والتقليدية فلم تُنتقد كشقيقتها الرابطة القلمية المجدّدة والثورية.
أنشأت العصبة الأندلسية مجلة أدبية حملت اسمها وضمت الكثير من الشعراء والكتاب.
* رابطة منيرفا: أسسها الشاعر المصري المهجري د. أحمد زكي أبو شادي عام 1948 في نيويورك، وكان رئيسها، وانتهت بوفاته، وليس لها أثر كبير في الشعر المهجري.

* الرابطة الأدبية: أنشئت في الأرجنتين عام  1949على يد الشاعر جورج صيدح، واختفت بعد عامين إثر عودة صيدح إلى الوطن.
* * *
هواجس المهجريين:

في قصيدة المواكب لجبران نرى سعي الإنسان إلى السعادة والخلود في عوالم أخرى غير التي يقترحها الشاعر، وهي الغابة، حيث الانعتاق من المحدود ومعانقة المطلق في فرح الراعي على أنغام الناي التي تجسد وتجمع في ذاتها الكون كله.
وهكذا نجد أيضًا عند إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة هذا النوع من السعي إلى الخلود عن طريق الفلسفة الروحانية المعتمدة على البساطة والعيش في الطبيعة والاتحاد بنغمات الكون الأزلية..
لكن الجواب ليس واضحًا دائمًا فأبو ماضي يعيش اللا أدريّة في لحظات طويلة من حياته، كما أن نعيمة وعريضة يبحثان عن الإنسان ومعنى وحدته وضياع طريقه.
وتبقى الروح الصوفية والنزعة الإنسانية والطبيعة الشفافة لكل أعمال هؤلاء المهجرين واضحة ومشعة وموحية عبر الزمن. إنهم في بحثهم عن معنى الوجود خارج رحم الوطن، وتلمسهم قرارة العدم

واللا معنى، يصلون رويدًا رويدًا إلى حقيقة الصداقة والحب، حيث لا يعود الحنين هربًا إلى الماضي بل غذاءً روحيًا مخصبًا ودافعًا لطيفًا نحو الوطن الأكبر، قلب الإنسانية.

إن الأدب المهجري شكل مدرسة متكاملة رومانطيقية، أساتذتها هؤلاء الشعراء المتمردون المفتشون عن الحرية والمعنى، المغتربون في عالم آخر خارجي وعوالم كثيرة داخلية ، حيث السفر إلى العمق يتطلب جهدًا أكبر من العودة إلى الوطن الجغرافي، وحيث اكتشاف الذّات قد انطبع لديهم بنزعة صوفية وفلسفية متأثرة بالتيارات الفكرية المعاصرة لهم.
* * *
يقول توفيق الحكيم، الروائي المصري المعروف:

«أدبنا الحديث» أدب مراحل بل أدب موجات متداخلة، فالموجة الأولى سورية. قد اندفعت من سوريا ولبنان وهي موجة يمكن أن ندعوها بالكلاسيكية الجديدة، بعثت الحياة في الأدب عن طريق تلقيحها الأسلوب القديم ببعض الفكر الغربي، وهي موجة أنتجت الشدياق واليازجي وفرح أنطون. وأخرجت في مصر بعض شعراء الجيل الأسبق وكتابه. ولعل الرمز الأكمل هو تعريب البستاني للإلياذة.

والموجة الثانية أميركية وهي التي انطلقت من المهجر. ففي المهجر، للمرة الأولى في أدبنا الحديث، ولدت المدرسة الرومانتكية العربية وانبجس الشعر الغنائي والنثر الصوفي، حاملاً نسيم لبنان إلى الحضارة الأميركية ممثلاً في الريحاني وجبران ونعيمة وأبي ماضي.
وأضيف هنا إلى مقولة الحكيم:
«والموجة الثالثة عراقية خصوصًا في مجال الشعر وابتدأت في الستينات وحملت راية التجديد عبر العقود الماضية متمركزة بشكل خاص خارج العراق وأغلبها في المنافي الأوربية.»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق