الوصف و الرمز و الإسقاط السياسي في قصة ( سمراء ) .. للأديب / ضياء الشرقاوي
بقلم / أحمد حنفي
أ ـ القصة..
سمراء
صباح مشرق ونسيم رقراق يحومان حولها .... سمراء باهرة الجمال يعرف بقدومها اهل الحارة في قعقعة قدميها ....... رواد المقهي متصلبون كل يطلق سهام نظراته في عشق ورغبة..... متلفلفة " بملائتها " فتحكم عند خصرها وتمسكها بيد عند وجنتها ..... يتواري وجهها المستديرفي حياء وخجل خلف خيوط من حرير متشابكة .... تستقر ب...ه لؤلؤتان بينهما قطعة ذهبية .... كالريع في الغاب يتربص بها الصياد لينال منها ..... ويبيت محبوبها ارقا وقلقا ليحميها .... كبرياء وغرور وتلويح بقوة السلطان تقدم " صول القسم " لينالها ..... واشطاط غيظا وانتفخت اوداجه حين نازعه غيره .....أضمر في نفسه مكيدة تجعله سيد لها..... بيتها تأكله الناررسالة لها اما الطاعة واما العذاب .....
ب ـ الوصف و أسلوب الكادرات المتلاحقة ..
اعتمد الأديب ضياء الشرقاوي في وصفه السردي على أسلوب يمكن أن نسميه بالكادرات المتلاحقة ، تلك الكادرات التي حين نجمعها مع بعضها البعض نستطيع رؤية المشهد بكل وضوح و من كافة جوانبه دون أن نشعر بملل في السرد أو خلل في البناء الناتج عن الإطالة .. و هو ما يتميز به ذلك النوع من الوصف .
لكن ما هو ( الكادر الوصفي ) .. ؟
حقيقة كان ذلك الأسلوب في السرد يشغلني دائما و يضعني أمام لحظات طويلة من التأمل لأتعجب بعدها و أتسائل كيف استطاع السارد أن يضمن كل تلك المعاني اللا نهائية في جمل بسيطة ؟ .. و كيف لتلك المشهدية أن تتجزأ لوحدات بنائية أصغر .. بشرط أن تكون تلك الوحدة الأصغر مكتملة البناء في ذاتها ، صالحة لأن تصير سردية مستقلة إذا ما انتزعت من سياقها ، و أن تكون في جملة واحدة لا تعدوها ..
بل إن أكثر ما أدهشني في تلك التأملات هو تراتبية تلك الوحدات البنائية الأصغر من المشهد الكلي ؛ إذ من الممكن تغيير ترتيب تلك ( الجمل / الكادرات ) ليتغير معها ما يمكننا تسميته بـ ( ظل المعنى )
و على ما سبق يمكن أن أعرف لكم ( الكادر الوصفي ) بأنه .. << أصغر وحدة مكونة للمشهد السردي تمثل لقطة تصويرية مكتملة البناء مصاغة في جملة واحدة >>
و يمكن لهذا الكادر أن يحمل بعدا نفسيا أو زمنيا أو مكانيا أو وصفا حسيا أو تجسيدا لمعنوي أو أنسنة لشئ معين .... إلخ
و لعل قصتنا التي بين أيدينا تمثل أنموذجا لا بأس به ؛ إذ اعتمد السارد هنا على أسلوب الكادرات الوصفية لتصدير حالة السردية إلى ذهن المتلقي بشكل مباشر دون اللجوء للجمل السردية المطنبة و دون الإسهاب الزائد ..
و لقد صدر قصته بذلك الكادر الوصفي (( صباح مشرق ونسيم رقراق يحومان حولها ....))
و هو في حقيقة الأمر كادر ملغز ؛ إذ أنه يصف حالة الصباح ذلك المشرق الدافئ الذي يبعث على النشاط و الحيوية و التفاؤل .. و إلى غير ذلك من دلالات تنفتح عليها دالتي الصباح و الإشراق ، و يصف كذلك حالة الجو الرائعة و النسيم العليل المنعش .. و قد عمد على أنسنة الصباح و النسيم و جعلهما يتحركان حوالي تلك التي يعود عليها ضمير الغائبة في قوله ( حولها ) ..
و بذلك الكادر الوصفي استطاع ضياء الشرقاوي أن يجذب انتباهنا و يعصف بأذهاننا لنتساءل عن ماهية تلك الأنثى التى يغازلها الصباح و يداعب محياها النسيم و هو ما يشي بجمالها الأمر الذي يعد توطئة من السارد ليصف ذلك الجمال في كادر وصفي لاحق مما ينم عن وعي و إدراك متلازمين امتلك ضياء الشرقاوي ناصيتيهما أثناء ممارسته للكتابة .
و هكذا انتقل الشرقاوي إلى الكادر الثاني في خفة و رشاقة و قد أفاد من الكادر الأول حيث أن تلك الأنثى التي مثلت لغزا أصبحت هي بطلة ذلك الكادر ـ بل بطلة القصة أيضا ـ و راح يعرفنا بها معللا من طرف خفي ما أقدم عليه الصباح و النسيم نحوها .. يقول :
(( سمراء باهرة الجمال يعرف بقدومها اهل الحارة في قعقعة قدميها .......))
الحقيقة أن ذلك الكادر على بساطته قد استطاع تقديم الكثير من المعلومات عن تلك الأنثى فهي سمراء اللون مما يشي بمصريتها المتعمقة بها حتى النخاع ، جميلة ، غنوج في مشيتها ، معلومة للجميع لا يجهلها أحد .. و بالتالي فقد أنشأ الشرقاوي علاقة بين سمرائه و أهل حارتها لكنها علاقة سلبية من طرف واحد فقط .
من هذه العلاقة ينطلق بثالث كادراته واصفا رواد المقهى حين تقع عيونهم عليها .. يقول :
(( رواد المقهي متصلبون كل يطلق سهام نظراته في عشق ورغبة....))
و هى لقطة تؤكد على تلك العلاقة السلبية ؛ إذ أنهم يرغبونها بينما هى لا تكترث .
و تتتابع الكادرات التي يصف فيها السارد سمرائه حينا و يصف رد فعلها نحو نظراتهم حينا و يعود ليصفها حينا آخر في كادرات سريعة و متتابعة و متلاحقة تتسم بالرشاقة في العرض و الجمال في التصوير مستفيدة من الصورة الفولكلورية لبنت البلد المصرية مما يجعل الصورة أقرب لذهن القارئ .
لكن الحال لم يكن ليسير على ذات المنوال ، فسرعان ما فاجأنا السارد بكادر يمثل نقطة التحول في المسار السردى ؛ و ذلك حين دخل ( صول الشرطة ) في دائرة مغرميها الأمر الذي قلب كفة ميزان القوة لصالحه اعتمادا على بطش الشرطة و ظلمهم للعامة و استغلال النفوذ لفرض السيطرة و إملاء الشروط .. يقول :
(( كبرياء وغرور وتلويح بقوة السلطان تقدم " صول القسم " لينالها .....))
و كما استطاع الشرقاوي تصوير سمرائه ببراعة استطاع كذلك أخذ لقطة قريبة CLOSE بعدسة قلمه لذلك الصول الظالم الغاشم المتكبر بسلطته المغرور بجبروت ساداته ، كما كان موفقا إلى حد بعيد في اختيار لفظة ( ينالها ) فهى تنم عن أخذ الشئ بالقوة و لو أنه قال مثلا ( ليخطبها ) لكان ذلك غير ملائم لكبريائه و غروره لأن طلب خطبته لها يحتمل الرفض أما أن ينالها فقد نفي تماما أي خيار لها سواء بالقبول أو الرفض .
و تتجلى براعة السرد في إعمال الشرقاوي لآلته التصويرية في أكثر من زاوية .. فها هو يصف غضبه حين نازعه أحدهم على قلبها .. و يصف مكره و كيده و خداعه ( وصف داخلي لنفسيته ) حين حاك مؤامرته ليخضعها له .. يقول :
(( و اشطاط غيظا وانتفخت اوداجه حين نازعه غيره .....أضمر في نفسه مكيدة تجعله سيد لها.....))
و الكادر الأخير هو اللقطة التي حدثت فيها المؤامرة .. ليضع الشرقاوي الخيارين بين أيدينا إما الطاعة و إما العذاب ..
و نلاحظ تلك النقلة الزمكانية في ذلك الكادر الأخير ؛ حيث نقلنا فجأة أمام منزلها لحظة التهام ألسنة النار له في ضراوة ليست بغريبة على قلب صول السلطة الغاشم ليحقق عنصر المفاجأة لنا مما يجعلنا واقفين على نفس الجانب الذي تقف فيه سمرائه مندهشين غير مصدقين يملأنا إحساس هو مزيج من انفعالات الدهشة و الخوف و الغضب و الكراهية و الانتقام .
وهكذا استطاع الشرقاوي استخدام أسلوب أطلقنا عليه ( الكادرات الوصفية ) و التي مثلت لقطات مستقلة مصاغة في جمل مستقلة لا يوجد بينهم رابط لفظي تنتج في مجملها مشهدية متعددة الزوايا و الأبعاد ..
ج ـ الرمز و الإسقاط السياسي ..
يمكننا القول أن الأدب مرآة لهموم الوطن .. و رغم إيماني الراسخ بأن جودة العمل الأدبي لا يشترط فيها التزام الأديب بقضايا عصره و هموم أمته ، إلا أنني أستمتع كثيرا بذلك النوع من الأدب الذي يناقش همومي و قضاياي مستخدما الرمز طريقه لذلك و الإسقاط السياسي منهجا ومسارا .
و بالرغم من أن الإسقاط السياسي يلجأ إليه الأديب خوفا من السلطة الغاشمة إذ يحمل الرمز دلالات يمكن خلعها على الواقع تلميحا دون التصريح ، إلا أن الشرقاوي لجأ إليه ليعبر عن أزمة الوطن السياسية و التي نحياها بدء من ثورة 25 يناير حتى بدايات الربع الثاني من عام 2012 .
و نحن الآن نعيش عصرا من الحرية لم نعتده من قبل ـ على الأقل حتى لحظة كتابة هذه السطور ـ يستطيع أي فرد قول ما يحلو له بحرية و صراحة و انتقاد من يريد أن ينتقد .. لذا يطل علينا سؤال برأسه .. لم لجأ الشرقاوي للإسقاط السياسي في الوقت الذي يمكن أن يقول فيه رأيه بصراحة دون أن تمس منه شعرة واحدة ..؟!!!
لعل الإجابة تكمن بكل بساطة في كلمتين اثنتين .. إنه الفن !
أليست هذه السمراء بنت البلد هى ( مصر ) ؟ .. و هؤلاء الذين ينظرون إليها بحب و إعجاب و رغبة هم ( الطامعون الطامحون للسلطة و السيطرة عليها ) ؟ .. و ذلك الصول الغاشم المتمتع بالنفوذ الممتلك لأساليب الترغيب و الترهيب هو ( كل من يحاول وأد ثورتها و تسيير شعبها بالقوة و التخويف ) ؟ .. أو ربما قصد ( المجلس العسكري ) أو ( عمر سليمان ) أو ( الفلول ) .. إلى آخر هذه النماذج السلبية ..
الفن هو من جعله يلجأ للتلميح و المواربة دون التصريح ليحتفظ النص بطزاجته على مر الأيام .. و لكي يطلق لقلمه العنان ليحلق في فضاءات التصوير و يبحر في خضم الدلالات .
إنه الفن الذي امتلك الشرقاوي مفتاحه توا و ولج داخله باحثا عن مساحات نفوذ خاصة به أراه و قد بدأ يتحسسها قبل أن يتربع على رباها مطلقا لقلمه العنان ..
و الله الموفق ..
الإسكندرية – 13 نيسان 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق