الرجل
الوطن وحلم الأنثى بالوجود
قراءة في ديوان (لست مؤهلة للعشق)
للدكتورة/ نجاة صادق الجشعمي
بقلم/
أحمد حنفي
بداية،
لستُ ممَّن يتوسَّعون في تعريف مصطلح (الأدب النِّسْوي) على أنَّهُ كل ما أنتجته
المرأةُ مِن شعرٍ وقصةٍ وروايةٍ ومسرحٍ ..إلخ؛ فالأدبُ النِّسْويِّ موضوعٌ أكثر
مِن كونِهِ تصنيفا لجنس الكاتبِ، وإلا لطالعتنا كتب النقد في تضاعيفِها بما
يُقابلُ ذلك المصطلحَ كالأدبِ الذكوريِّ مثلاً، وكما أنَّ أدبَ الطفلِ لا يكتبه
الطفل وإنما مكتوبٌ له، كذا الأدب النِّسْوي مكتوبٌ للمرأةِ في تعريفٍ أوَّليٍّ
بسيط.
وليس
المقامُ الآنَ يسمحُ بالبحثِ في قضيةِ المصطلح؛ إذ أنَّنا بصددِ التقديمِ لديوانٍ
شعريٍّ نستطيعُ وصفَهُ بالدَّافيء، ذلك الدفء الناتج عن صدقِ التجربةِ التي
اشتمَلَت على مرارةِ فقدِ الوطنِ وفقدِ الابنِ، وضياعِ القوميَّةِ، كما اشتمَلَت
أيضًا على حلاوةِ ودفء الرَّجلِ الوطنِ، الرَّجلِ الحبِّ. ولذا سنحاولُ أن
نتلمَّسَ ملامحَ الأدبِ النِّسْويِّ في ديوان الشاعرةِ العراقيةِ د. نجاة صادق الجشعمي،
وكيف أنَّهُ كانَ مرآةً صادقةً تنعكسُ عليه أدقُّ تفاصيلِ المرأةِ وأحلامِها
وطموحِها وانفعالاتِها المتباينةِ.
العنوانُ
يطرحُ في ثناياه تساؤلاً، لمَ تنفي الشاعرةُ أهليَّتَها للعشقِ؟ تُرى أيُّ أسبابٍ
دفعتها لهذا الاعتراف الخطير؟
إن
عنوانًا كالذي نحنُ بصددِه يدخلُ ضاربًا بقوَّةٍ في عمقِ التجربةِ الأنثويَّةِ
والتي تتركَّزُ في احتياجِ المرأةِ للعشقِ - بمفهومه الأوسعِ والأشملِ- ذلك العشقُ
الذي يكونُ بين طرفينِ، ويكونُ قائمًا على التراسلِ بينهما غير موقوفٍ مِن طرفٍ
على حسابِ الآخرِ، كعشقِ الإنسان للوطنِ، وعشقِ الأمِ لأبنائها، وعشقِ المرأةِ
للرَّجلِ الذي يمنحُها دفئًا وأمنًا وسكينةً. فهل فقدَت د. نجاة الجشعمي كل تلك
الأطراف مجتمعةً لتقولَ: (لستُ مؤهَّلة للعشقِ)؟
سندعُ
الديوان يتحدَّثُ عن نفسِهِ لنستخلصَ منهُ الإجابة، تقولُ الشاعرةُ في نصِّها
المعنون بـ (احتلال أم استقلال):
"أحبك يا
عراقي
رغم أنك نبذتني
لكن حبك
بدمي
أنا
أنا امرأة
عراقية
بصرية الملامح"
ها هي تبثُّ شكواها للوطنِ مغلفًا بالحبِّ، الحبُّ يسبق
الشكوى، ربما لأنَّ الوطنَ لم ينبذها بإرادتِهِ، ذلك العراقُ العربيُّ النبيلُ
الذي يرزحُ تحتَ وطأةِ الحروبِ والفتنِ والاحتلالِ وسلبِ ثرواتِهِ ونهبِ خيراتِهِ
والسيطرةِ على مُقدَّراتِهِ، وإنَّها كامرأةٍ عراقيَّةٍ تحملُ ملامحَ البصرةِ
بتاريخِها ورمزها في الضميرِ العربيِّ تلتمسُ للوطنِ ألفَ ألفِ عذرٍ.
وهي في ذلك النَّصِّ وإن كانت في مقامِ البعدِ إلا
أنَّهُ لم يتخطَّ البعدَ المكانيَّ لأنَّها تحملُ الوطنَ داخلها، تقول:
"ستبقى
عراقي الأعلى والأغلى
وأظل أضم
حروف اسمك
وألوان رايتك
كل ليلة
فى حضني
كوردة
كوسادة
كجملة
وهم سيظلون على حافة مقبرة
ملطخة أيديهم بالدماء
آه .. آه
يا عراق العز
والمجد
يا بلد الأقوياء"
ونراها في نص (بطاقة ميلاد) وقد استعرَت بداخلِها
الأوجاعِ، ووطأتها الغربةُ بالوجدِ، وسحقتها آلامُ الفراقِ، لتتساءلَ في عفويةٍ
وبراءةٍ، وفي اندهاشٍ واستغرابٍ بالوقتِ ذاتِه، تقول:
"هل ولدتُ بلا وطنٍ؟
هل فقدت
هويتي
وشهادة ميلادي؟
ليس عندي إلا
القلم
وورق
وصور فساتيني
وألعاب طفولتي"
فحينما لا يتبقَّى من الوطنِ إلا القلم والأوراق وبعض
الصور والألعاب التي تنتمي لزمنِ الطفولةِ فنعلمُ وقتَها أيُّ ألمٍ يعتصرُ فؤادَ
الشاعرةِ ليجعلها ليست مؤهَّلةً للعشقِ. لينتهي النَّصُّ بتساؤلٍ أليم، تقول:
"من..؟ يسترجع لي
وطني
وفرحي
وفستاني
وضحكات أطفالي
.."
وتدور معظم قصائدِ الديوانِ حولَ تلكَ المشاعر التي تنفطرُ
لها القلوبُ لفقدِ الأوطانِ وهو ما يذكِّرُني بتلكَ القصائدِ التي عزفَت على وترِ
الوجعِ العربيِّ القديمِ بضياعِ الأندلسِ، فأينَ الآنَ عراقُ الحضارةِ والعزَّةِ؟
أين عراقُ الرشيدِ والمعتصمِ؟ إنَّ الشاعرة د. نجاة الجشعمي ألَّبَت بداخلنا
الأوجاعَ كما هيَّجَها أبو البقاءِ الرُّنديّ حينما كتبَ عن ضياعِ أندلُسِهِ:
لكلِّ
شيءٍ إذا
ما تمَّ نقصانُ فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي
الأمورُ كمــا
شاهدتُها دولٌ مَن سرَّهُ
زمنٌ، ساءتهُ أزمانُ
وما زالت د. نجاة تبثُّ أوجاعَها في نصوصِها المتفجرةِ
بالحزنِ، فها هي تسردُ لحظةً أخرى مِن لحظاتِ الفقدِ، وإنَّها للحظة مأساوية بحق،
تلك اللحظة التي أخبروها باستشهادِ ابنِها وسام، لم تقف على أسبابِ وطريقةِ
وملابساتِ استشهادِهِ، إنما وقفت على تلك اللحظةِ التي توقَّفَ فيها الزَّمَن،
تقولُ في نصِّها (في العاشرةِ مساءً):
"في العاشرة مساءً
يوم إجازتك
أنتظرك ..
جهزت لك
حلاوة التمر وعشاءك
المفضل
وقمصيك البرتقالي
المقلم
في العاشرة مساءً
انتظرتك ..
وقرآني ومسبحتي
وكأس الماء بيدي
وإبريق الشاي على
الفحم"
وكأنَّ الزَّمنَ توقَّفَ بها في الساعةِ العاشرةِ مساءً
وهي تستعدُّ لاستقبالِهِ في ميعادِ إجازتِهِ حيثُ تُجهِّزُ له ما يحبُّ من طعامٍ
وثياب، لكنَّها تتلقى خبرَ استشهادِهِ بذهول جعل دمعاتِها تتعثَّر، ربما إلى
الآن..
"في العاشرة مساءً
دخل أبي
نظر لي
نظرة حائرة
متسائلة
ناطقة
فقال
وسام .. وسام
لن يأتي ولن
يعود
فتعثرت دمعتي"
لينتظمَ فقدُ الوطنِ مع فقدِ الابنِ في سلكِ الغربةِ
والتيهِ لتصيرَ الشاعرة غيرَ مؤهلةٍ للعشق.
لكنَّ للعشقِ عند الأنثى وجهٌ آخر غير عشقِ الوطنِ
والأبناء، إنه الرجل الذي يملأ فراغاتِ القلبِ، ويثبرُ أغوارَ الروحِ، ويلئم
الجراحاتِ، ليصرَ هو الوطنُ والأبُ والابنُ والأخُ والزوجُ والحبيبُ، ذلك الرجلُ
الذي احتوى وصارَ وطنًا بذاتِهِ. رأينا كيف صارت المرأةُ في شعرِ درويش معادلاً
للوطنِ، الآنَ نجدُ في شعر د. نجاة الجشعمي صورة للرَّجلِ الوطنِ، تقول في نصِّ
(كؤوس ورق):
"مضيت دون
قلمي وحلمي
وهناك عند
قاموس اللغة
وجدتك ووجدتني
فتلقفتني
رسمتني في قاموسك
فبهرتني وأذبتني على
كؤوس الورق
وتركتني
أدغدغ حرفي
الصبي وحلمي
الندي
فنهضت قصيدةً في.،
ألف ألف بيت
وشددت بك قامتي"
إنَّها تؤكدُ أنَّ الرجلَ لديها تخطى دورَهُ التقليديَّ
كحبيبٍ، تخطَّاهُ إلى أفقٍ أرحبَ، تنهضُ به ويشدُّ قامتَها، ولأنَّها تدركُ أنَّ
الرَّجل بالنسبةِ لها وطنٌ مكتملٌ فقد طلبت منه ذلك في نصِّها (مات اسمي)، تقول:
"امنحني حبًا
فلا تظمأ روحي بعده
أبدا
وانثرها
على وجه الأرض
نثرًا
امنحني ترنيمة
وتذوق
شوق
الفرات
امنحني صورة
لأعلقها على
حائط غرفتي
وعلى صدر دجلة
في المساء
امنحني حلمًا
لأمتلك
قلبك بدلاً
من قبضة
فضة أو ذهب
أنا
ما زلت لا أملك
إلا اسمى
الذى مات على عتبات
مدن غربتي
وتغرب فى أمواج
البحر
امنحني ذلك
الحب الكوني
واسمًا جديدًا"
 |
صورة من ندوة مناقشة الديوان بقصر ثقافة الأنفوشي بالإسكندرية |
وهكذا نجدُ أنَّ الشاعرةَ د. نجاة صادق الجشعمي قد عالجَت
في ديوانِها (لست مؤهلة للعشق) كلَّ آلامِ وأتراحِ المرأةِ العربيةِ، كما عالجَت
أحلامَها وطموحاتِها وتطلُّعاتِها نحو رجلٍ يصيرُ لها وطنًا كاملاً، ومرتعًا
للطمأنينةِ، وتصيرُ معه أنثى جديدةً باسمٍ جديدٍ لا ينتمي لسواه، لحظتها ستصيرُ
مؤهلة للعشق.