قصدية الغموض من النشأة حتى الرمزية المتجاوزة
عرض و تقديم / أحمد حنفي
كثيراً ما دار نقاشٌ بيني و بين أصدقائي من الشعراء حول نصوصهم و كيف أن إفراطهم في التعبير عن المعنى يأخذ من النص و لا يعطيه ، و أن على الشاعر أن يعمد إلى الغموض .. و هو ما أساء البعض فهمه ؛ فلم أكن أقصد أبداً أن ينتج الشاعر قصيدةً ضبابيةً غير مفهومة أو أن تكون كتاباته أقرب للظاهرة الصوتية منها إلى الشعر .. لكن المعنى المقدم من خلف حجابٍ شفيفٍ .. و المحاط بمفاتيح فك شفرته يكون للفن أقرب .. و لذا رأيت أنه من المفيد أن أعرض بشكلٍ موجز كيف نشأت ظاهرة (قصدية الغموض) من بدايتها عند الرومانتيكيين مروراً بالرمزيين خاصةً (بودلير) و هو الذي أتبنى مفهومه عن تلك الظاهرة .. و الجدير بالذكر أنني أقف موقفاً شديد التحفظ من الكثير من آراء (مالارميه) / و الرمزية المتجاوزة عموماً
و قد قمت بتلخيص ذلك كله من كتاب الرؤية و العبارة لعبد العزيز موافي ..
و إليكم النقاط السريعة التي تشرح و تعرض لتاريخية مفهوم (قصدية الغموض) آملاً أن يتضح المبدأ لتعم الفائدة ..
I. الغموض في القصيدة الحديثة ضرورة
فنية و الشاعر يتعامل مع ظاهرة الغموض بنوع من " سبق الإصرار ".
II. نشأت تلك القصدية مع ظهور الشعر
الرومانتيكي حيث كان الخيال يقوم بطمس الواقع داخل ذلك النموذج الجديد فأدى ذلك
إلى نشوء قطيعة بينه و بين الذاكرة الكلاسيكية و التي كانت تمزج بين الخيال و
الواقع.
III. و انتشر الغموض مع ظهور
الاتجاهات الرمزية حتى أصبح قيمة في حد ذاته.
IV. و لقد أشار "بودلير"
إلى أن الشعر يتطلب مقدارا من الغموض , و يرى أن الشعر الزائف هو الذي يتضمن
إفراطا في التعبير عن المعنى , بدلا من عرضه بصورة مبرقعة , أي : من خلف
حجاب شفيف ، ذلك الإفراط هو ما يحيل الشاعر باتجاه المجانية ( الشعر الزائف
).
V. و بذلك فإن "بودلير"
انتقل بالقصيدة من مجرد عرض المعنى إلى الإيحاء.
VI. و تمادى "مالارميه"
حين رسم للشعر الرمزي مسارا جديدا رأى فيه أن الشعر يمكن أن ينتج أثرا جماليا
يصل به التجريد إلى أن يكون الفهم معطلا تقريبا بينما يقوم السياق
الصوتي بكل العمل ، فبعد أن كان المعنى يتطلب من الشاعر عرضه بصورة مبرقعة
انتقل عند "مالارميه" نحو التجريد ، أي : تدمير المعنى بشكل
نهائي و تجاوز مفهوم الإيحاء إلى مفهوم خلق الحالة.
VII. و يقوم الرمزيون (الرمزية
المتجاوزة) بخلق الحالة عن طريق عدة آليات :
i.
التغلب على تلقائية اللغة (و هو عرض المعنى بصورة
مبرقعة).
ii.
تعطيل كل قيمة دلالية تحد من حرية الإيحاء الصوتي في
الكلمات.
iii.
تجريد السياق اللغوي من علاقاته التركيبية ؛ و ذلك عن
طريق جمع الكلمات عن طريق الإحساس لا عن طريق المنطق ؛ و ذلك لإبراز خاطرا
أدركه الشاعر وحده ، و بالتالي إنتاج قصيدة شخصانية لا تنتمي رموزها لأحد
آخر غير كاتبها كما يقول "لانسون" بينما ابتعدوا عن القصيدة الشخصية
لأنهم بالضرورة ضد الغنائية.
VIII. و بالتالي أصبحت القصيدة
الرمزية إنشائية توحي و لا تقرر ، و تخلق حالة مستقبلة أكثر مما ترصد حقيقة
واقعة. (راجع: الرمز و الرمزية في الشعر العربي المعاصر ، د. محمد فتوح أحمد ص 122
و ما بعدها – دار المعارف).
IX. و بالرغم من أن قصدية
الغموض أصبحت سمة مهمة في القصيدة الحديثة إلا أنها تظل مشروطة بوجود الآخر
(المتلقي) ؛ فالقصيدة بمثابة رسالة بين طرفين (مرسل و متلق) مما يضطرها قابلة
للفهم ، ذلك الفهم الذي لا يعني استقبال تصور واضح للقصيدة و إلا كنا انتقلنا من
الشعر إلى التقرير ، و لكن الفهم هنا هو تفاعل عاطفي بين النص و قارئه من
(كشف و إيحاء و خلق حالة) ليصير الفهم نوعا من الاستبصار من جانب القارئ ،
ذلك الاستبصار ماله أن يكون إلا إذا قدم النص مفتاح شفرته (المبرقع) جزئيا حتى لا
تتحول القصيدة من الغموض إلى الإبهام ، فإذا كان الوضوح ضد طبيعة الشعر العظيم فإن
الإبهام أيضا مناقض له.
( راجع : الرؤية و العبارة لعبد العزيز موافي ص 314 و ما بعدها )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق