قصيدة النثر : المفهوم والجماليات (2)
نقلاً عن الرابط التالي:
http://www.startimes.com/f.aspx?t=32810825
قصيدة النثر ما هي ؟
نقلاُ عن الأستاذ
عبدالقادر الجنابي
في مؤتمر قصيدة النثر الذي
انعقد في الجامعة الأمريكية في بيروت لثلاثة أيام في يوم السبت 20 آيار 2005
 |
عبد القادر الجنابي |
1- صحيح أن مصطلح قصيدة النثر
كان شائعا منذ القرن الثامن عشر. فوفقا لسوزان برنار أن أول من أستخدمه هو اليميرت
عام 1777، ووفقا لمونيك باران في دراستها عن الايقاع في شعر سان جون بيرس ،أن
المصطلح هذا يعود إلى شخص اسمه غارا في مقال له حول "خرائب" فونلي ،
وذلك عام 1791. وفي دراسة قيمة ، صدرت في باريس عام 1936 ،
حول "قصيدة النثر في
آداب القرن الثامن عشر الفرنسية"، يتضح أن المصطلح كان متداولا في النقاشات
الأدبية. على أن بودلير أحدث تغييرا في مصطلح قصيدة النثر، وأطلقها كجنس أدبي قائم
بذاته ،بل أول من أخرج المصطلح من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النص: الكتلة
المؤطرة ولم يكن اعتراف بودلير بمرجعية اليزيوس برتران في هذا المجال اعتباطيا أو
مجرد اعتراف بالجميل . وإنما كان تلميحا إلى "معجزة نثر شعري" كان يحلم
بانجازها. ذلك أن اليزيوس برتران ، هذا الشاعر الرومانتيكي ، قد ترك تعليمات إلى
العاملين على طبع كتابه "غاسبار الليل" ، أن يتركوا فراغا بين فقرة
وأخرى مشابها للفراغ المستعمل عادة في تصميمات كتب الشعر، وبهذا يكون أول من التفت
إلى تقديم نص نثري ملموم ومؤطر في شكل لم يُعرف من قبل.
كما أن بودلير كان واضحا
أنه يعني شيئا جديدا غير موجود ، وذلك عندما كتب في رسالته الشهيرة إلى هوسييه ،
"من منا لم يحلمْ في أيام الطموح بمعجزة نثرٍ شعري". إذن من الخطأ
الكبير أن نحاول العثور على أشكال لقصيدة النثر البودليرية في ماضي النثر الفرنسي
. ذلك أن بودلير في مشروعه نحو لغة شعرية تستطيع ان تتقاطب وما يتجدد مدينيا في
شوارع الحياة الحديثة ، جعل كل الشظايا والقِطَع التي كتبت قبله ، تنام كأشباح في
ليل النثر الفرنسي ؛
آثارا توحي ولا تُري أية
إمكانية نظرية تأسيسية.
2- من الخطأ الشائع اعتبار
قصيدة النثر تطورا للنثر الشعري الكلاسيكي الفرنسي وتكملةً له.
ذلك أن ما كان يُطلق عليه
قصيدة نثر هو أعمال روائية تتوسل محاسن البديع وتستعير إيقاعات النظم ، لكي ترتقي
إلى مصاف الأعمال الشعرية. بينما قصيدة النثر هي قصيدة أداتها النثر. وتجدر
الإشارة هنا إلى أن، أولا، السبب وراء الفكرة التي تقول أن ظهور قصيدة النثر كان
تصديا لطغيان العروض ، هو أن النثر، أداة قصيدة النثر، خال من كل قواعد عروضية
وبالتالي يمنح حرية أكبر للشاعر لكي يعبر عن انفعالاته الباطنة.
وثانيا : أن تصاعد
الرومانتيكية أعطى معنى جديدا لمفردة "الغنائية" lyrique. فبعد أن كانت تُطلق على
الشعر الذي يُنظم بقصدِ التغنّي به في موضوعات أو الرواية أو السرد القصصي على
أوتار القيثارة القديمة المسماة بالليرا أي القيثارة ، (وهذا يعني ان عنصر
الموسيقى جزء حاسم في صياغتها) ... صار لها معنى جديد اعتبارا من الربع الأول من
القرن التاسع عشر،
هو: الوظيفة المشاعرية
كالحسية المُعبَّر عنها بالصور، بالعاطفة الفردية وأحاسيس الفرد الداخلية ، وباتت
مصطلحا يطلق على كل عمل أدبي حتى النثر (وفقا لقاموس ليتريه) يعبر عن الوجدان
والعواطف ومتحرر كليا من مضمرات الموسيقى : واقترِحُ كلمة "الوجدانية"
كمقابل لـ
Lyrique لكي
يتضح هذا التغيير الانقلابي والحداثي في الحسية الشعرية التي مهدت الطريق لظهور
قصيدة النثر.
3- قصيدة النثر ولدت على
الورقة أي كتابيًّا وليس كالشعر على الشفاه أي شفويا. لم ترتبط بالموسيقى كالشعر
ولم يقترح كتابها أن تُغنّى ، ولا يمكن أن تُقرأ ملحميا أو بصوت جهوري
يحافظ على الوقفة
الإيقاعية القائمة بين بيت وآخر/ سطر وآخر كما في قصائد حركة
"النظم الحر" (وأقصد Vers Libre ،
لأن ترجمة هذا المصطلح بـ"شعر حر" يخلق سوء فهم مفاده أن الصراع بين
الشعر
Poésie والنثر، بينما في الحقيقة
الصراع هو بين النثر والنظم). إن غياب التقطيع أو التشطير في قصيدة النثر يشكل
علامتها الأساسية.ففي النظم الحر، في نهاية كل سطر / بيتٍ فراغ يسميه كلوديل
البياض.. وهذا البياض هو لحظة تنفس إيقاعي ضروري لجمالية القصيدة المشطّرة ،كما
يتغير فيها الإيقاع من شاعر إلى شاعر بسبب هذه الوقفة القطع في سير الإيقاع ،هذا
البياض يمنح القصيدة الحرة هيئتها الشعرية ، بينما قصيدة النثر تكتسب هيئتها
وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة... والبياض غير موجود (رغم وجود
الفواصل والعلامات فيها لأسباب يقتضيها بناء الجملة) إلا في نهاية الفقرة التي
تجعل القارئ مستمرا في القراءة حتى النهاية.
وألا ننسى أن أغلب قصائد
النثر تتكون من فقرة واحدة ، وبعضها من فقرتين. علينا ألا ننسى أيضا أن
"الشعر" كلمة عامة وشاملة يمكن أن تطلق على أي شيء ، بينما كلمة قصيدة
تدل على وجود مستقل، بناء لغوي قائم بذاته...
4- قصيدة النثر لا يختلف
بناؤها عن قصر المتاهة المذكور في الأساطير اليونانية. يمكن لشاعر قصيدة النثر أن
يبدأ من أي مدخل يشاء :
"كان يا ما كان...
""عندما كنا... ""ذات ليلة، عندما.... "
أو على طريقة الشاعر الصديق
عباس بيضون ، التي تختار الدخول على نحو مفاجئ :
"الأربعة النائمون على
الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة.."
المدخل إذن سهل جدا ، ما
هو صعب المنال في كتابة قصيدة النثر هو الخروج/ نهاية القصيدة.
لا يكفي أن تعرف كيف تبدأ
فحسب وإنما عليك أن تعرف كيف تخرج من ، أي تختم القصيدة ،
كما يقول روبرت بلاي.
5- شاعر قصيدة النثر يَعرفُ
مسبقا وذهنيا وإلى حد ما حجم الكتلة/ مساحة القَصر. ذلك أن قَصر المتاهة بناء مكون
من حيطان تتعاقب وتتقاطع؛ قصيدة النثر فقرة مكونة من جمل تتلاحق بحدةٍ شديدةٍ هبوطا
مما تدفع القارئ إلى أن "يستقرئ العواطف البعيدة أو يجسّ الرِعدات الدقيقة...
مستضيئا بالجملة اللاحقة ليُبصر السابقة"، كما قال بشر فارس في تلخيصه عن نوع
من القصة القصيرة دون أن يدري انه كان يعرف قصيدة النثر.
6- على أن هناك عنصرا مكونا
أساسيا الذي فقط من خلاله يمكننا أن نُميز قصيدة النثر عن باقي الكتل ، النصوص
والأشعار النثرية. إنه اللاغرضية (والبعض يترجم gratuité بالمجانية). وهو أشبه بالخيط الذي أعطته أريان
إلى ثيسيوس الذي بقي يتتبعه حتى عرف طريقه الى المخرج من المتاهة.
الاختصار brièvetéإذن ، هو نتيجة تقاطب عنصرين اساسيين يعملان داخل
قصيدة النثر،
كل وفق حركته ؛ قاعدته :
الحدّة
intensité حيث
السرد المتحرك المنقطع السلك بين حائط وآخر، جملة وأخرى ، يشدنا بسلسة واحدة من
البداية حتى النهاية دون أي تباطؤ.. واللاغرضية gratuité ، هو
سلك الخيط الذي يقود من المدخل / البداية إلى المخرج /الخاتمة وعلينا أن نتتبعها
وإلا سنضيع في متاهة نثر شعري له ألف رأس وألف ذيل ، بينما غايتنا كتلة "لا
رأس لها ولا ذيل" كما وضح بودلير..تكمن شعرية قصيدة النثر في هذه
اللاغرضية... المجانية. فالنثر بحد ذاته غير قادر على التخلص من وظيفة الوصف بغرضية
منطقية. فبفضل عنصر اللاغرضية، يتخلص السرد الذي هو سمة رئيسية في قصيدة النثر، من
جفوته، ومنطقيته النثرية، فهو هنا ليس وصف مخطط روائي يريد أن يصل إلى نتيجة ما ،
وإنما لغرض فني جمالي محض. عندما يبدأ أنسي الحاج قصيدة له بـ"ذلك العهد يدُ
ماموت لم تكن ظهرتْ..." "ذلك العهد" ليس هنا لغاية سياقية تاريخية
معلومة ، وإنما لخلق إيحاء جمالي لحدث غير موجود.
7- يجب ألا نخلط بين قصيدة
النثر والشظية الفلسفية كما عند نيتشه، ففي هذه الشظايا/ الكتل النثرية القصيرة،
ثمة قصد فلسفي وغرضية واضحة ، أو متسترة وراء موعظة ما.
قصيدة النثر هي النثر
قصيدةً : كتلة "يتأتى قصَرُها من نظامها الداخلي ، ومن كثافتها النوعية ومن
حدتها المتزنة". ليس لها أية غرضية، بل خالية من أي تلميح إلى مرجع شخصي :
كتلة قائمة بذاتها.. أو
كما كتب الشاعر الفرنسي ادموند جالو عام 1942،"قطعة نثر موجزة على نحو كاف،
منتظمة ومرصوصة مثل قطعة الكريستال يتلاعب فيها مائة انعكاس مختلف
... إبداع حر لا ضرورة أخرى له
سوى متعة المؤلف ، خارج أي تصميم ملفق مسبقا ، في بناء شيء متقلص، إيحاءاتُه بلا
نهاية، على غرار الهايكو الياباني"
8- "تنطوي
قصيدة النثر" النثر، كما تقول سوزان برنار، "في آن على قوة فوضوية،هدامة
تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وقوة منظِمة تهدف إلى بناء (كلٍّ) شعريٍّ؛ ومصطلح
قصيدة النثر نفسه يُظهرُ هذه الثنائية". في قصيدة النثر، إذن، توتر كامن يطيح
بأية إمكانية توازن بين نقيضين بقدر ما يحتضنهما. وهذا يعني أن قصيدة النثر، كما
تقول بربارة جونسن في دراستها الرائدة عن ثورة بودلير الثانية، تتسم بقوتين: إذا
الشعرُ هو عَرْضٌ ذو سمة بمواجهة النثر كعرض بلا سمة واضحة، فقصيدة النثر إذا،
تتميز بقوتين متعارضتين: حضور ضد غياب السمة و"إحالة الى قانون الشعر" ضد
"إحالة الى قانون النثر"... فقصيدة النثر لا هي نقيض ولا هي توليف، إنما
هي المجال الذي اعتبارا منه تبطل وظيفة الاستقطابية وبالتالي التناظر بين الحضور
والغياب، بين الشعر والنثر". ومن هنا يتفق معظم النقاد على أنهم أمام جنس
أدبي شاذ غرضه تهديم الأنواع genres . ناهيك من أن شكلها الوحيد الأوحد، ينطوي أيضا على بعد تهديمي بصري
وبالتالي مفهومي ، يقوم بنسف الأفكار المسبقة والعادات المفهومية لدى القارئ الذي
ما أن يرى أبياتا أو عبارات مقطعة حتى يصرخ أنها قصيدة، إذ في نظره ليست نثرا.
8- سيداتي سادتي : ما هي
قصيدة النثر؟ إنها كل هذا وليس.
لكن الشيءَ المؤكد هو انها
نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبي مطلبا واحدا مما أتفق جل النقاد
عليه، رغم كل الاختلافات بينهم، بشأن قصيدة النثر. هناك أنماط من قصيدة النثر:
البارناسية، الرمزية، التكعيبية، السوريالية، الظاهراتية، والأمريكية الغارقة بقضية
اللغة والسرد الغرائبي. لكن في كل هذه الأنماط، الشكل واحد أوحد: كتلة قوامها نثر
متواصل في جمل تجانس أي نثر آخر.
9- بطبيعة الحال يحق لكل شاعر
أن يكتبَ كلٌ وفق نبض أحاسيسه وصوته الخاص، وليسمّ مخلوقاتَهُ كما يشاء، فقط عليه
أن يَعرفَ إن مصداقية الشكل والمضمون هي عين ثقة الشاعر بما يقول. وقد يعترض شاعر
على أن التسمية ليست ضرورية، ربما، لكن لماذا يسمي "قصيدة نثر" عملا
اعتنى بتقطيعه موسيقيا متوسلا كل المحاسن البديعية التي ترفضها قصيدة النثر...
بل حتى شدد على وقفات
تُعتبر عاملَ بطءٍ إذا استخدمت في كتلة قصيدة النثر؟
أليس اعتباطا أن يسمّيَ
شاعرٌ يكتب عادةً أشعارا موزونة، كلّ قصيدة لا يتمكن من ضبطها عروضيا، قصيدة نثر
وليس شعرا فحسب! وكأن الشعرَ في نظره ليس سوى تفعيلات قُررت سلفا.
10- رفض الحدود المرسومة لا
يتم إلا عندما يعرف الشاعر ما هي هذه الحدود، وبماذا تتميز...حتى يكون لرفضه فضاؤه
هو، مُنقى من كل شوائب التسميات التي كانت من طبيعة تلك الحدود المرفوضة. لقد وقف
بروتون ضد فكرة الأجناس الأدبية، معتبرا أن الشعر تعبيرٌ عن استرداد المخيلة
البشرية لحقوقها، وليس جنسا أدبيا خاضعا لقوانين مدرسية.... ومن هنا لم يسمّ
كـُتـَلهُ النثرية قصائد نثرية رغم أن النقادَ يعتبرون بعضَها قصائدَ نثرٍ
بامتياز!إن الإصرار على تسمية عمل جوهرُه يتعارض ، شكلا ومضمونا، مع ما يتميز به
هذا الاسم، لهو في نظري، تعبيرٌ عن اعتباطية العمل نفسه.
لحظة في ظل القصيدة
النثرية المعاصرة للأديبة فاطمة الزهراء العلوي
{الشعرالمعاصرهو منعقد الأهوال في الثقافة العربية منذ الخمسينيات إلى الآن}
* محمد بنيس
ولعل أهم إشكال واجهته القصيدة ووقف عنده السؤال كثيرا هو " البيت
" كسكن للنص الشعري
فإذا كان الناقد القديم يعتبر البيت المفرد أساس بناء النص { والبيت من
الشعر كالبيت من الأبنية } *ابن رشيق ..
فان هذا البناء هو "سجن " مع البيت الجديد "البيت
الحر" ومن هنا جاءت التسمية ،وطالب رواد التحول البنيوي لشكل القصيدة في
ربطها ربطا عضويا دالا ومدلولا بالانطلاق والحرية إلى آفاق شكل يتلاءم ومستجدات
العصر حيث الشاعر مطالب إن يجد طرقا أخرى ليقول كل مواطن الحياة الجديدة
يقول يوري تينيانوف{ إن " البيت الجديد" كان حسنا ، لا لأنه
" أكثر موسيقية أو " جودة" ولكن لأنه كان يوجد حيوية في العلائق
بين مختلف العناصر .وهكذا فإن النمو الجدلي للشكل ،وهويعدل ارتباط مبدأالبناء
بالعوامل المتصلة به، ينقذ فيه الوظيفة البنائية }*بنيس
يذهب "أدونيس " قائلا في هذا الصدد وما يتلاءم معه{ ليس الشعر
استعادة بل شهوة.وكما أن الطفل يلعب لكي يبطل أن يكون طفلا ، كذلك الشاعر يكتب
ليكون مايشتهي وليمتلك حياته الحاضرة.فالشعر يضعنا دائما على عتبة زمن آخر،بدء
جديد لحياة مختلفة .إنه مغامرة ،لكنها مغامرة فرح ورجاء .وكل مغامرة تربطك
بالمستقبل}
{ما ورثته عن آبائك اكتسبه بغية امتلاكه ..} فالإقامة في القصيدة القديمة
والبيت القديم ليس معناه استنساخه حرفيا ولا الابتعاد عنه نهائيا بل مساءلة هذا
الإرث للإقامة فيه مع متطلبات المستجدات الحديثة
بمعنى ربط العلاقة العضوية مركزية ما بين الدال والمدلول في أعمق رباطهما
وخلفياتهما المتناصرة بقوة التركيب اللغوي
لأن { المعنى هو فعالية العلاقات التي ينتجها الكلام.يكون المعنى غنيا بقدر
نا تكون هذه العلاقات غنية. وفي هذا الحيز ، يمكن القول إن " الشكل " هو
المعنى .النقد ، في بعض وجوهه ، هو الكشف عن هذه الفعالية}أدونيس.
فهل إشكالية القصيدة اليوم هي إشكالية غياب نقد ؟؟؟
يجيب ألقاسمي وهو شاعر وفنان تشكيلي مغربي عن هذه العلاقة الوطيدة ما بين
الكتابة والقراءة لكشف خيط ماورائيات الكلمة في أوجهها المتعددة قائلا{ الكتابة هي
في الأخير نتاج تساؤلات حيث يلتقي التفكير بالكلام إلى جانب التفكير بالتركيب أو
إبداع رموز لتتحول جميعها إلى عمل بصري معين، او نص شعري معين ..}
وهنا العلاقة الجدلية ما بين القراءة والكتابة ما بين الدال والمدلول ..
{ القراءة التي لا تربط جدليا ما بين سؤال الإرجاع والواقع هي قراءة لا تنتج
} نجيب العوفي.
فالبيت الجديد سيأخذ هذا المعيار الثقيل في بنيوية هندسة القصيدة ، شكلا
ومضمونا قراءة وكتابة ، كلحظتين منفصلتين زمنا ، متصلتين قراءة
{ البيت الجديد هو مسكن لذات كاتبة جديدة لها مستلزماتها كما لها تاريخها
الخاص بها ، بيتا لكل الأزمنة ولا لكل الذوات } احد النقاد .
وكتجربة مقراة ما بين البيتين في الزمنين القصيدة القديمة والحديثة
المعاصرة لتبيان أهمية التداخل العضوي ما بين الدال والدوال في التجربة الجديدة ،
امرئ القيس وصلاح عبد الصبور والموضوع المرأة / الحبيبة لنقارن على سبيل التبيان
يقول عبد الصبور
جارتي مدت من الشرفة حبلا من
نغم
نغم قاس رتيب الضرب منزوف القرار
نغم يقلع من قلبي السكينة
نغم يورق في نفسي أدغالا حزينة
ويقول امرؤ القيس في نفس سياق الكلام عن المرأة
أفاطم مهلا بعد هذا التدلل
وإن كنت أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وانك مهما تآمري القلب يفعل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتل
في المقطع الأول مع شاعرنا عبد الصبور نلاحظ تجاوب المفردات { والمدركات
وتتجاوب والإحساسات ،فيغدو المسموع مرئيا والمرئي مسموعا والمحسوس معنويا والمعنوي
حسيا.والاستعارة المكنية الأساسية تتحول إلى استعارة مرشحة تتولد منها تشبيهات
واستعارات فرعية متداخلة ، موقعة توقيع تفعيلة الرمل /فاعلاتن/ / التي تتاو
بالمعنى الموزع على قافية ثنائية ترد على القافية الاستهلالية } د.جابر عصفور /
مجلة العربي.
بينما مع شاعرنا امرئ القيس فلغة الحب {هنا ماخوذة من لغة الحرب . والحب
هنا هو هو نفسه حرب:معركة- تخطيط ، هجوم على المكان الذي تتحصن فيه المرأة
المحبوبة ، حصار ...إلى أن تستلم..
لكن منذ أن تستسلم يسقط هو، الفاتح ، أسيرا بين يديها ..وتلك هي المفارقة
في معركة الحب .الأسر هنا معنوي ، يرمز له امرؤ القيس ببكائه قرب دار الحبيبة ،
وبالتوسل اليها ان تجمل ..} ادونيس
والدلالات التي توشحتها المدلولات ما بين المقطعين بينة وواضحة
فرغم اللحظة الحانية مع امرئ القيس وتوسلها فلم ترقى لغته إلى جوانيات
اللحظة الحانية مع صلاح عبد الصبور في المقطع الاول وعمق الصورة .. فهنا توحد
الرؤية العضوية ما بين الذات الكاتبة والمخاطبة الحبيبة مابين البراني والجواني ما
بين الشكل والمضمون ..
تقول خالدة سعيدة {أن تمتاز القصيدة بالوحدة العضوية ، يعني ان تكون نسيجا
حيا متناميا .وهذا مرتبط بصفة أخرى أظهرت في أواخر الخمسينيات.وكان السياب من بين
القائلين بها هذه الصفة – هي القصيدة – الرؤيا." النهر والموت" نموذج
للقصيدة الرؤيا } خالدة سعيد .حركية الإبداع .
إلا أن البناء الحر كمسكن للقصيدة ، للغة سينفجر مع الرومانسيين وهذا ما
اسماه "جبران خليل جبران" {الإبداع والابتكار} يقول في هذا الصدد {
...فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن – أو غير الكائن –
في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية .فإذا كان الفكر موجودا كان مستقبل اللغة
عظيما كماضيها ، وان كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتها السريانية
والعبرانية ..} جبران الأعمال الكاملة نقلا عن بنيس.
ففي الخطاب الشعري المعاصر تقوم شعرية الإيقاع على أسبقية الدال وربما{ كان
الإيقاع هو الدال الأكبر } لأنه ليس دليلا فهو يـُبـَنـْيـِنُ الخطاب كدال وبما ان
الخطاب { غير منفصل عن معناه فان الإيقاع غير منفصل عن معنى هذا الخطاب} ميشونيك .
النثر والقصيدة النثرية أعتقد بأن البداية كانت منذ امرئ القيس وبشار بن
برد منذ الأوائل....
ثم كبر السؤال مع الشاعر المعاصر وقبله الرومانسين ،عن بناء النص الشعري {
وتعدد أنماط بناء النص أساسا ثم التأملات والتحليلات النظرية المواكبة للمارسات
النصية تثبت التساؤل ، تنحته وتهبه شكلا متحركا لا يـَنـِي عن تغيير مكانه .أساس
التساؤل تولد عن الانشغال بتحديث الشعر العربي ثم تحول الى هم لدى الرومانسيين
العرب في بناء نص شعري له شجرة نسبه في القديم العربي " الموشحات" أو
" الحديث الأوروبي " السوناتة"}
إذن فالتغيير لا ينسلخ نهائيا من خيمة العطاء الخليلية فالموسيقى تحكم بنية
النص النثري ومن أساسياته الفنية
التساؤل أكبر من تحديث على مستوى الشكل هو في بعده الأنطلوجي علاقة ما بين
{ الإنسان واللغة والكون} هو "مسالة وجودية " بالدرجة الاولى
وأدونيس مثلا في استيعابه لوظيفة اللغة الشعرية أصبحت معه لغة مفارقة وبنية
معزولة عن الاعتيادية { لغة تحتمي بلعبتها الداخلية وهي تقيم احتفالا ل " كيمياء الشعور"
لقد انتقل الشاعر المعاصر ، من قيد الشكل الى مضمون النص وربطه هذه العلاقة
العضوية ما بين سؤال الإبداع وسؤال الإرجاع ،فتغيرت وفق ذلك وظيفة اللسان كمحرك
لآلية الكلام والتعبير .
فالشاعر لا يفكر { في القاعدة حين يكتب .اللغة فيه قبل القاعدة } حيث ينحت
كلماته من حضوره الواقعي ومن { سياق وجوده الثقافي – الإجتماعي ، من التموج اللغوي
– الحياتي الذي يتحرك داخله وينمو فيه .بل ان هذه الكلمات تفقد دلالاتها المعجمية
، حتى أننا نشعر ، فيما نقرؤها ، أننا لا نقرا كلمات ، وإنما نقرا أصداء حروف ، أو
نقرا شحنة نفسية وتخيلية وفكرية ، ترشح ُ من هذه الحروف وعلاقتها ن حتى لتبدو
الكلمات أفرغت كليا من معناها المعجمي أو مما وضعت له في الأصل اللغوي } ادونيس
وهنا المفارقة بين الشكلين البيت القديم والقصيدة اليوم.البيت الحر والسكن
الحر ..
ويضيف ادونيس في نفس المقام { أميز بين نوعين من الشعراء
الأول يمكن وصفه بأن اللغة هي التي تكتبه ن وهو من يكون قابلا ، يتبنى
الموروث بمفهوماته ، وطرائق تعبيره .لا يطرح حولها أي سؤال .ولا يبتكر أي اعتراض.
والثاني هو من يمكن القول عنه بأنه يغير طرق الكتابة ن ويمارسها في الوقت
نفسه قراءة مغايرة لنتاج الماضي.وهو في ذلك، يغير الرؤية السائدة للعالم عبر الشعر
.وهنا ينحصر الدور التعبيري للشعر:فيما يغير الشاعر إشكال التعبير ، يغير طرق
الإدراك والرؤية في العلاقة بالأشياء والزمن ..}
أن الأسس النظرية لحداثة الشعر المعاصر { يستحيل اختزالها في عنصر أو نسق
أو محور.وانفتاح مغامرة ، هذا الشعر ، بحثا عن حريته وحداثته، لم تأت دفعة واحدة ،
ولا خارج الواقعي والكوني ...} محمد بنيس .
ومع ذلك فتجربة الشعر المعاصر سمة المختبر الشعري { لقد أعطت للفردي
والكوني ان يتجانسا في الفضاء النصي } يضيف بنيس قائلا دائما
ولا يزال السؤال مفتوحا على كل منافذ العطاء في القصيدة الشعرية اليوم وعبر
تجلياتها من خلال الانفتاح على كل قضايا المجتمع .
.. / ..
يتبع