التناص
استراتيجيةُ
الذَّاتِ في التَّخفي والبوح
قراءة في ديوان "من غير دوبلير" للشاعر / تامر أنور
بقلم / أحمد حنفي
[1]
ربما يعتقدُ البعضُ أنَّ الشعرَ محضُ هوايةٍ يشبعها صاحبُها في أوقاتِ فراغِه
.. أو متى سنحت له الفرصة .. بيدَ أنَّ الحقيقةَ خلاف ما يعتقده هؤلاء ..كذا تختلف
عمن يظنونَ الشعرَ وسيلةً للتعبيرِ عن مكنونِ النَّفسِ و أزماتِ الذَّاتِ .. لكنه
نمط حياةٍ و غاية.
الشعرُ قطعاً نمطُ حياةٍ .. ننامُ و نصحى به .. لا يفارقنا .. و لا
تُقاطعنا ربَّتُه لتُملي علينا بيتاً أو بيتين .. إنه يسري بدماءِ صاحبه .. و
يتملَّكُ عليه قلبَه .. و يدفعه ليغذي عقلَه بكلِّ جديدٍ و طريفٍ .. تخيَّل معنى
أن تحيا شاعراً .. ساعتها ستدركُ أنَّ الشعرَ وحده غايةٌ لا وسيلةٌ ..و إذا أردت
أن تتعرَّفَ على شعراءٍ يكون لديهم الشعر نمط حياةٍ فلابد أن يكون أحدهم هو
"تامر أنور" .. بالفعل .. إنه يحيا كشاعرٍ .. هيئته تدلُّ على ذلك ..
تصرفاته لا ينفكُّ خضوعها لسُلطةٍ غير معلنةٍ من الوهلة الأولى .. و سرعان ما
تكتشفها إذا ما حدَّثك لبضع دقائق .. عينُه تلك الكاميرا اللاقطة التي تعملُ على
إعادةِ إنتاج كل ما يراه طبقاً لرؤيته و تحقيقاً لرغباتِ تلك السلطة للدرجةِ التي
تجعلهُ يعيدُ قراءةَ ابتسامةٍ كانت تنتمي له في الماضي ..
"صورك بتزيف ضحكة
و الذكرى ..
ماكنتش سعيدة ..
مكسورة في إزاز براويزك
الخوف م الجاي
بيشد الماضي فـــ الحاضر" [1]
كذا فإنه قلقٌ دوماً .. مضطربُ الشخصيةِ .. حائرٌ .. يبحثُ طول الوقتِ عن
حلولٍ .. و عن حلم .. يقولُ عن نفسه:
![]() |
الشاعر / تامر أنور |
"النبض طبيعي
و حرارته 37
و عينيه بتبحلق في السقف
خرطوم النفس المقطوع
بيخبي الصوت ،
بيهلوس ،
و جهاز كشف الأحلام
بيشاور ..
صفر" [2]
إنه يمارس الجنون في القصيدة / الحياة .. لعلَّ من ذلك الجنون أنَّه أرادَ
منك و أنت تقرأ قصيدتَه أن تسمعها أيضاً، أو بالأحرى أراد ذلك الشعور النَّفسيَّ
المتولِّد من تلك الخلفيَّةِ الصوتيةِ التي ينشئها في بعض نصوصه ليصيرَ ذلك الصوت
-اللا شئ معجميّاً- دالةً صوتيَّةً ذات معنىً واشتغالٍ دلاليٍّ يُولِّدُ مدلولاتٍ
متباينةَ القوَّةِ والأثرِ حسب الاستعدادِ الذهنيِّلكلِّ قارئٍ على حدة، من ذلك
مثلاً ..
"ورقة بتقطَّع من قلبك
شخابيط
أفكار بتعفن
دبانة بتعف عليك
ززززز" [3]
ليس الغريب أن يكتبَ حرف الزاي مكرراً ليصدر صوتاً طويلاً مزعجاً، لكن ما
يُخلِّفه من أثرٍ نفسيٍّ يعمِّقُ المعنى هو الغريب حقاً، هو ما يشعرك بتعفُّنِ تلك
الأفكارِ .. وقدمها .. وربما ألمحَ إلى محاولاتٍ دؤوب من الذَّاتِ للبحثِ عن
أفكارٍ جديدةٍ .. طازجةٍ .. تساعدها على التَّخلُّصِ من ذلك الصَّوتِ المثيرِ
للجنون.
إنَّه يعبِّرُ عن أزمةٍ بينه وبين الكتابة، إنها لحظة لا يطاوعه فيها شيطان
الشعرِ .. أصابه الخرس للدرجةِ التي دفعته لشنق نفسه، ليتكرر ذات الصوتِ كدلالةٍ
مباشرةٍ على تعمُّقِ الأزمةِ وازديادها ..
"مروحتك في جحيم السقف
بتلف الجدران حواليك
وشيطانك الأخرس
مشنوق بالديل
بيدور ..
ومعاه دبَّانة عنيدة
ززززز"
ألم أقل لكم أنه شاعر يعتبرُ الشعرَ نمط حياةٍ ..؟ إنه يموتُ في اليومِ
الذي لا يكتبُ فيه ..
"فــ عروق القلم المركون
الصهد بيجري ..
مروحتك
بتشدَّك فوق،
بتقرَّب
بتــــــ ...
واللون الاحمر بيطرطش
على وش الحيطة
ززززز"
وهكذا تحوَّلَ الصوت من مصدرٍ للإزعاج وإثارةِ النَّفسِ ومؤشِّرٍ على
الفشلِ في الإتيانِ بجديدٍ - تحوَّلَ إلى صوتٍ يدلُّ على السكونِ والموتِ، في
إشارةٍ لانتصاره على الذاتِ؛ حيثُ انسحبت بينما هو ظلَّ. وبالتالي فتلك الدَّالة
الصوتية المصاحبة لنا من بداية النص لنهايتها نستطيعُ أن نعتبرها قامت مقام
الموسيقى التصويرية في الدراما المصوَّرة. بيد أن المدهشَ بتلك الدالة الصوتية
أنها جاءت بإيقاعٍ مختلفٍ في نهايةِ النص .. إيقاعٌ ذو سكونٍ يتوقَّفُ معه الكادرُ
بالفعلِ .. أستطيعُ أن أشعرَ بذلك وأجزم به.
لاحظ معي أيضاً أنَّ تحقُّـقَ وجوده مرتبطٌ بالشعرِ، بل إنَّه يكونُ في
أكثر لحظاته بريقاً وألقاً حين يقفُ خلف "الميكروفون" ملقياً قصيدة ..
"اللحظة اللي بتحلم بيها
طول عمرك
وانت بتتجمَّع قدام الميكروفون
وتتشكِّل
على هيئة نجم
وشعورك الطاغي بإنَّك
أشعر شعراء الأرض "قاطبةً"
أخيراً
انتصرت على الشعر اللي ضربك زمان
بالألم
واتهمك بإنك لقيط" [4]
إنَّه يتحدَّى الشعرَ وينتصرُ عليه، لكنه انتصارٌ مشروطٌ بلحظةٍ يتحقَّــقُ
فيها كشاعرٍ خلف "الميكروفون" وشعوره – مجرد شعوره – أنه أشعر شعراء
الأرض يمثِّــلُ لديه لحظة انتصارٍ حاسمٍ على الخصم الصديق / الشعر.
يبدو أن الشاعرَ تتعاقبُ عليه الأزماتُ، والمطالعُ لديوانه يراه ممتلئاً
بها، الذاتُ لا تجدُ تحقُّـــقها إلا في الشعر، الشعر وحده هو ما يخرجُ منه غير
خالي الوفاضِ، هناك أنثى – وربما أكثر – رأت في الذاتِ نموذجاً غير محقَّـــقٍ
لتتجه الذاتُ بشدةٍ نحو الكتابةِ والشعرِ لتمثِّـــلَ تلك الكتابة جسراً لعبورِ
الهزائمِ نحو واقعٍ بديلٍ تتموقعُ فيه لتعلنَ تحققها.
[2]
(2-1)
لعلَّ نصَّ "هنومة" هو النص الأبرز في الديوان والذي يعرضُ أزمةَ
الذاتِ التي لا يشعرُ الآخرون بقيمتها، الذات الغارقة في أتونِ مشاكلها لا تبارحه
.. الذات الفاقدة ثقتَها .. الباحثة عما يربطها بمجتمعٍ يلفظها، النصُّ بلورةٌ
لمفهومٍ سائدٍ في الديوان ويسري في كل قصائده، مفاده أنَّ الذاتَ الشاعرةَ تحيا
معاناةً يوميَّةً تكابدها بالنفي والتهميش ولا تجد (البديل / الدوبلير) الذي
يتكبَّدُ نيابةً عنها لطمات المجتمع .. دعونا نُكملُ بعد قراءةِ النصِّ ..
هنومة
"وانت
بتتفرج على فيلم (باب الحديد)
متاثر بيوسف شاهين
وقلبك بيعرج
وعنيك بتمارس العاده السريه ع الجردل
المليان
بذكريات كتير عن هنومه
اللي انتَ معلق صورها فـ كل حته ع
الحيطه
الكل كان بيسأل:
انتَ ليه اخترت الدور ده ؟
مع إنك لو ابو سريع
كنت حتعمل كل اللي فـ نفسك
_طبعاً_
حتقول إن انتَ اخترت الدور الاصعب
ثم قناوي.. هو بطل الفيلم
_والحقيقة_
هنومه هيَّ اللى بتوزع الأدوار
ماهو مش معقول حتسيب فريد.. وتحبَّك
مع إنَّك مديها الكردان والديوان
اللي ورثتهم عن مشاعرك اللي ماتت
واضح جدا
إن البنات اللى اسمها بيبتدى
بحرف ال هه
بيكون وجودهم مرتبط
بالمصايب
هنومة, هند رستم,....
حتى هيلين فى الإلياذة
كات سبب الحرب
"ليت هنداً أنجزتنا ما تعد"
ده اللى انت بتكتشفه
مع كل مرة بتشوف فيها
مشهد المخزن
اللقطة الـ masterscene
للقطر اللى بيدهس أحلامك
و أبو سريع اللى
بيتغيَّر ف كل مرَّة
بيكون المفاجأة !!
و لإنك زهقت من كتر المفاجات
)و من البدلة اللى بتلبسها ف كل مرة..
يا عريس(
من غير قطط
قررت إنك تحط حد للمهزلة دى
إما إنك تقتل هنومة
بس ساعتها مش حيكون لوجودك معنى
أو تتخلص من عم مدبولي
اللي دايماً بيلبسك البدلة
أو تطفي الفيلم" [5]
(2-2)
الكتابةُ ليست شرطاً من شروطِ النصيَّةِ، وبالتالي تعتبرُ الذكرياتُ نصاً
في انتظارِ الكتابةِ، القراءاتُ السابقةُ نصوصاً تحتلُّ مكاناً بذاكرتك، كذا
الخبراتُ الحياتيةُ، كما أنَّ "اقتراض النصِّ الشعريِّ هيئاتٍ وكيفياتٍ من
فنونٍ مجاورةٍ، كالحواريات التي تسلَّلت من ظهور السينما وما تركته من حريةٍ
للانتقالاتِ الزمنيةِ والمكانيةِ تبعاً لقيمةِ الصورةِ فنيّاً" [6] يُعدُّ
تناصاً، مما يجيزُ لنا اعتبار فيلم (باب الحديد) نصاً يشتبكُ بدلالاته وإيحاءاته
مع النص موضوع الدراسة.
هناك تناص إذن بين النصين، واشتراطاتُ التناص الثلاثةِ محققةٌ؛ هناك تقاطعٌ
نصِّيٌّ بين (باب الحديد) و(هنومة)، كما أنَّ التتابعَ الزمنيَّ موجودٌ (باب
الحديد / سابق) و(هنومة / لاحق)، ويوجد بينهما (تفاعلٌ / تأثيرٌ) كمُنَ في قيامِ
النصِّ اللاحقِ بإعادةِ إنتاجِ النصِّ السابقِ مع الاحتفاظ بالفارقِ الزمنيِّ بينهما،
أو بالأحرى ليس ثمَّة تطابق تام بين (الذاتِ الشاعرةِ) وشخصية (قناوي)؛ لأنَّ ذلك
النصَّ اللاحق إنما يُمثِّــلُ السياجَ الفاصلَ بين الشخصيتينِ أكثر مما
يُمثِّــلُ تطابقهما.
وحقيقةٌ أنَّ التناصَ موكولٌ بتوليدِ المعنى الجديدِ في ذهنِ القارئِ
باعتباره (المنتج للمعنى) وعلى هذا فتامر أنور باعتباره قارئاً لنصِّ (باب الحديد)
فقد أعادَ إنتاجَ المعنى حينَ أعادَ إنتاجَ ذاتِه داخل النصِّ الجديدِ (هنومة).
وهكذا يستحيلُ التناصُ حيلةً تلجأُ إليها الذَّاتُ للتعبيرِعما تشعر، ربما
لأنَّ شخصية (قناوي) قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء، تلك الخطوط التي عرقلت الذاتَ
في نصوصٍ أخرى بالديوان، وبذلك فقد قامت شخصية (قناوي) بدور القناعِ الذي تُخفي
خلفه الذاتُ قبحَها وإخفاقَها.
و"من المؤكدِ أن اختيارَ الشاعرِ لشخصيةٍ ما أو استدعاءَه لتجربةٍ
تخصُّ الآخرَ، إنما هو نوعٌ من الانحيازِ العاطفي، حيثُ إنَّ الاختيارَ لا يمكنُ
أن يتمَّ بشكلٍ عشوائيٍّ" [7] فقد عمدَ "تامر أنور" إلى استخدام
التناص (الإرادي / الواعي) حيث استخدمَ نصَّ (بابِ الحديد) بكاملِ رصيدِه الدلالي
بعدَ أن جرَّدَه من الرَّمزِ التاريخي ليربطه برمزِه هو (مدلوله الشخصي)، فحسب
تصوُّر (جيني) عن التناص فإنَّ نصَّ (هنومة) [النص المركزي / الحاضر] قامَ بتحويلِ
وتمثيلِ نصِّ (باب الحديد) [النص اللامركزي / الحال] – وربما نصوص أخرى – مع
الاحتفاظ بالزيادةِ في المعنى، في استثمارٍ واضحٍ ومباشرٍ للتأثيرِ الناتجِ عن
الرَّصيدِ التاريخي والعاطفي للنصِّ (المستدعَى / اللامركزي / السابق / الحال /
باب الحديد) ولبيانِ تلك الزيادةِ في المعنى والمتمثِّلة في المدلولِ الشخصيِّ
للذاتِ نوضِّحها في الجدولِ التالي:
قناوي
|
الذات
|
المدلول الشخصي للذات
|
المخرج قام بتجسيد الشخصية (اختيار)
|
الذات هي البطل (مصير)
|
تورط الذات بالحدث دون إرادتها
|
عاهة العرج (تشوُّه جسماني)
|
"قلبك بيعرج" (تشوُّه نفسي)
|
انسحاب الأثر نحو الداخل
|
ممارسة العادة السرية
|
"عنيك بتمارس العادة السرية"
|
اختباء الذات خلف قناع (قناوي)
|
المخرج قام بتوزيع الأدوار
|
"هنومة هي اللي بتوزع الأدوار"
|
الأنثى محور أساسي لتألم الذات على مدار الديوان
(سلطوية مطلقة تمارسها هنومة على الذات)
|
أعطاها الكردان
|
"مع إنك مديها الكردان والديوان"
|
تركيز الذات على قيمتها المضافة كذاتٍ شاعرة
|
(عم مدبولي) رمز التعمية
والخديعة، يلبسه (البدلة) مرة واحدة بالفيلم
|
(عم مدبولي) يمارس دوره بتعمية الذات وخداعها مراراً
وتكراراً
|
تكرار الحدث يؤدي لتكرار الألم
|
يقرر حل الأزمة بقتل (هنومة)
|
يقرر حل الأزمة بطريقة من ثلاث:
1- قتل هنومة
2- قتل مدبولي (باعتباره رمزاً للخديعة)
3- "أو تطفي الفيلم" في إشارة إلى الموت / الانتحار
|
* قتل (هنومة) بالأساس لأنها منحت الذات دور (قناوي)
* قتل (مدبولي) وبذلك يقتل فيه كل من يقوم بتعمية
الذات وتضليلها
* إطفاء الفيلم معادل للموت، وهو الدالة المنتشرة
بكثافة في الديوان
|
يتضحُ من الجدولِ السابقِ أنَّ المدلولَ الشخصيَّ للذاتِ اشتبكَ بجدليته مع
مدلولاتِ نص (باب الحديد) من خلالِ استثمارِ العلاقاتِ غير النصيَّة للنصِّ السابق
المتمثلة في الرصيدِ التاريخي والعاطفي له في نفسِ القارئِ وإحلال الذاتِ محل
(القناع / قناوي) تارةً والتخفي خلفه تارةً أخرى.
وعلى ما سبق فليس التناصُ مجلوباً لإثباتِ التطابق الحرفي بين (قناوي)
و(الذات)، بل تمايزت الذاتُ وبَدَت مسلوبةَ الإرادةِ، تملكُ وجعاً داخلياً،
منسحبةً خلف قناعٍ، تُمثِّــــلُ الأنثى المحورَ الأساسي لتألمها بما لديها من
سلطويَّةٍ مطلقةٍ من حيثُ قبول أو رفض الذَّات – وربما كانت تلك الأنثى النموذج
المصغر للعالم ككل - ، الذاتُ تكتبُ شعراً لإصلاحِ وضعها أمام (الأنثى / المجتمع)،
يتكررُ الألمُ مراراً لا نهائية، الذاتُ أمام طرقٍ ثلاثة؛ إما قتل (الأنثى /
المجتمع) والنتيجة الحتمية هي وحدة الذات وعذابها السرمدي، وإما قتل (عم مدبولي /
رمز الخديعة والتضليل) والنتيجة الحتمية هي الفشل؛ حيث أنه ينجح كل مرةٍ في خداع
الذاتِ وتعميتها، وإما التوقف عن (مشاهدة الفيلم / الحياة) وبالتالي موت الذات
والتي وسيلتها لأن تبقى على قيد الحياةِ هي أن تكتبَ شعراً.
وهكذا فإنَّ "النص الشعري الجديد لا يقيم علاقته بسواه على سبيلِ
المباراة معه أو محاكاته والوقوع تحت سلطته، كما في المعارضاتِ الشعريةِ
التقليديةِ مثلاً، بل يوسع مدى المأخوذِ، ويلقيه في مصهر النصِّ الجديدِ؛ ليذوبَ
في تضاعيف عناصره الأخرى دون أن يفقد أثره؛ لأنَّ مستوى النصِّ المتحققِ يتيحُ
للقارئِ متعةَ اكتشافِ ذلك النوع من العلاقة" [8]
(2-3)
وعلى ما سبق فقد أصبحَ "التناصُ" قناعاً للذاتِ ترتديه ليكون
وسيلتها في التنكرِ والتخفي وبالتالي البوح بحريةٍ أكبر ويزيدُ من قدرتها على تجاوز
الخطوط الحمراء التي تفسدُ عليها متعتها بالبوحِ.
حيلةٌ أخرى اتخذتها الذاتُ لتمعنَ في ذلك التخفي حين لجأ الشاعرُ إلى ضميرِ
المخاطبِ من بدايةِ النَّصِّ ليوجَّه خطابَه إلى آخرٍ يعلِّقُ عليه كل أزماتِه
النفسية والاجتماعية كحيلةٍ دفاعيةٍ للأنا اصطلح على تسميتها بالإسقاط.
ولا نستطيع أن ننفي عن نصِّ (هنومة) شبهة التأثيرِ أو التأثر بنصوصٍ أخرى،
فكما قال "رولان بارت": "النص جيولوجيا كتابات"، وبقليلٍ من
الحفرِ والتنقيبِ في بنيةِ النص نجدُ أنَّ ثمة تعالق يربطه مع نصٍّ آخر بالديوان،
يقول "تامر أنور" في قصيدة (قمر الموت 2):
"مفيش قدامك دلوقتي
غير إنك تستحضر بنت الجيران وهي بتنشر
والقنوات الفضائية إياها
وتبص للقمر وتعوي
أهي أي حاجة تحسسك بوجودك وخلاص
قبل القمر ما يخفي" [9]
مـثَّـــلَ المقطعُ السابقُ نهاية نص (قمر الموت 2) وهي نهاية شكَّلتها
الذاتُ بعفويةِ من يحاولُ إثبات أنه كائن حي .. موجود .. وهي ذات العفويةِ التي
دفعت (الهو / الغرائز المكبوتة) لأن تعلنَ عن نفسِها بممارسةِ العادةِ السريةِ في
انتصارٍ مؤقتٍ على (الأنا الأعلى / الضمير) والذي لم تكن حججه مقنعةً لتبرير الظرف
الاجتماعي القاسي الذي تمر به الذات، كما أنَّ (ماء الحياةِ) الناتج عن ممارسةِ
العادةِ السريةِ يقدِّمُ دليلاً دامغاً على حقيقةِ وجودها، وهو نفس الدوافعِ
المستمدةِ من الظرفين الاجتماعي والنفسي والتي أدت إلى ممارسة نفس الفعل بنص
(هنومة) ..
"وعنيك بتمارس العادة السرية ع الجردل المليان"
وهكذا يمتدُّ أثر نص (باب الحديد) على نصوصٍ أخرى بالديوانِ، أو ربما صار
نص (هنومة) نصاً لامركزياً وحالاً في (قمر الموت 2) أو العكس، لكنَّ الأكيد
والثابت أنَّ الذاتَ فطنت إلى قيمة (التناص) كاستراتيجيةٍ للتخفي والبوحِ بآن.
[3]
اعتمدَ الشاعرُ على إجراءٍ آخر كان مصاحباً لاستراتيجيةِ التناص ساهمَ في
تعميقها وإبرازها بشكلٍ جماليٍّ؛ حيثُ تتخلَّلُ النصَّ ثلاثةُ مونولوجاتٍ داخليةٍ
ألقت بظلالها عليه. والمعروفُ أنَّ (المونولوج الداخلي) أحد أبرز تكنيكات الوعي؛
إذ أنه يهتمُّ بمحتوى الوعي الداخلي ـــ المحتوى النفسي للشخصية ـــ وعلى هذا فقد جرى تعريفه على أنَّه "تصوير
لأفكارٍ اتخذت من قبلُ شكلاً لفظياً في ذهنِ الشخصيةِ، هو المحاكاة المباشرة
لكلامِ المرءِ لنفسِه" [10] أو بعبارةٍ أخرى هو "الأفكار المصاغة
لغويّاً". وبالتالي يمثل (المونولوج الداخلي) قطعاً في السياقِ، إنه أشبه
بالجملةِ الاعتراضيةِ المُبيِّنةِ الكاشفةِ لا الجملة الاعتراضية البدليةِ
الشارحةِ، ليس مطلوباً منه أن يفسِّرَ سياقاً، بل أن يصوِّرَ لنا لقطةً (كادراً)
نفسياً مصاغاً لغويّاً "يُحدثُ نوعاً من المباغتةِ الدلاليةِ، التي تمنحُ
جمالياتِ القصيدةِ قيمةً مضافةً" [11]
حدثت تلك المباغتةُ الدلاليةُ حين فاجأنا الشاعرُ بمونولوجه الأول ..
( واضح جدا
إن البنات اللى اسمها بيبتدى
بحرف الــ .. هه
بيكون وجودهم مرتبط
بالمصايب
هنومة، هند رستم....،
حتى هيلين فى الإلياذة
كات سبب الحرب
"ليت هنداً أنجزتنا ما تعد") [12]
مونولوج تقريري لا يؤشِّر إلى حالةٍ شعريةٍ وإنما يقومُ بدورِ
المحركِ لجدليةٍ تقومُ أساساً على تبريرِ الذاتِ لإخفاقها أو بالأحرى طرح الفشلِ
بعيداً عنها، الذاتُ تدركُ جيداً أنَّ (هنومةَ) لن تبادلها الحب ..
"ماهو مش معقول حتسيب فريد .. وتحبك"
وهو ما يُضافُ إلى رصيدِ إخفاقاتها .. وبالتالي بحثتْ عن
مبرِّرٍ ـــ حيلةٍ دفاعيةٍ ـــ تُلقي باللائمةِ خارج دائرتِها .. كما أنَّ نبرتَه
التأكيديةِ تقرِّرُ تلك الفرضيةَ؛ فقد بدأ مونولوجه بجملةِ "واضح جداً"
وكأنَّ كارثةَ الذاتِ تكمنُ في حرفِ الهاءِ من (هنومة)!!
تلك الفكرة ـــ اللامعقولة ـــ والتي ظلت تتقافزُ في ذهنِ
الشاعرِ إنما مثلت القطع الأول للسياقِ أو بالأحرى الاعتراض الأوَّل لتيار الوعي،
حدث ذلك مرتين ثانيتين حينما قررت الذاتُ أن تضعَ حداً لنزيفِ مشاعرها عن طريقِ
اختيارِ سيناريو من ثلاثٍ ..
" إما إنك تقتل
هنومة
(بس ساعتها مش حيكون لوجودك معنى)
أو تتخلص من عم مدبولي
(اللي دايماً بيلبسك البدلة)
أو تطفي الفيلم"
المونولوجان الثاني والثالث أليق بهما أن يكونا تعليقين منتميـين
إلى مستوياتِ ما قبل الكلامِ من الوعي أكثر من أن يكونا شرحاً للنتائجِ المترتبةِ
جرَّاء اختيارِ حلٍّ من الحلولِ الثلاثة.
وبالتالي فالوعي يكشفُ عن التوجهِ النفسي للذاتِ في الاختيارِ؛
ذلك أن قتلَ (هنومة) سينفي عن الحياةِ أهميتها، وعدم التعليقِ على إنهاءِ الفيلم
يدلُ على رغبةِ الذاتِ في الوجودِ، أما (عم مدبولي) فالتخلص منه لن يضرَّ الذاتَ
بل على العكسِ، ولذا حين يطرحُ هذا الحل نرى الذاتَ (متمثلةً في الوعي) تقدم
المبررَ الكافي لقتله (اللي دايماً بيلبسك البدلة) .. لتبقى الجدلية بين الذاتِ
وبين الحلولِ الثلاثةِ قائمةً لا تنتهي بانتهاءِ النص. ليصبح إجراء (المونولوج
الداخلي) تقنيةً فنيَّةً ساعدت على إبرازِ استراتيجيةِ التناصِ التي اعتمدَ عليها
الشاعرُ منذُ العتبةِ الأولى لنصه.
الهوامش
[1] ديوان "من غير
دوبلير" ، للشاعر تامر أنور ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، سلسلة إبداعات –
295 ، قصيدة "الأمر" ص 29&30
[2] الديوان، قصيدة "غيبوبة"،
ص77
[3] الديوان، قصيدة
"دبانة"، ص11&12
[4] الديوان، قصيدة
"قاطبة"، ص95
[5] الديوان، قصيدة
"هنومة"، ص91&93
[6] من مقالٍ بعنوان
"آباء النص الشعري"، حاتم الصكَر، مجلة (عبقر)، العددان 13&14،
يناير – يونيو 2014، ص426&427
[7] الرؤية والعبارة –
مدخلٌ إلى فهم الشعر، عبد العزيز موافي، ص114
[8] آباء النص الشعري، حاتم
الصكَر، مجلة (عبقر)، ص426
[9] الديوان، ص39
[10] الرؤية والعبارة –
مدخلٌ إلى فهم الشعر، عبد العزيز موافي، ص113
[11] السابق، ص118
[12] الديوان، ص92
أحمد حنفي - الإسكندرية
4 مارس 2015
أحسنت يا احمد .. تسلم ويسلم وعيك ورؤيتك
ردحذفشكراً جزيلاً شاعرنا وناقدنا وأستاذنا الكبير
حذف