قصيدة النثر : المفهوم والجماليات (3)
نقلاً عن الرابط التالي:
http://www.startimes.com/f.aspx?t=32810825
إشكالية الإيقاع في قصيدة النثر
ومما لاشك فيه إن من أهم عناصر البنية النصية في المفهوم الشعري سواء في قصائد الشعر الحديث والمعاصر أو الشعر القديم هو ما يمكن أن نطلق عليه (مصطلح نظام الأصوات) ليضم في نطاقه الوزن والإيقاع وضروب الترجيع والتكرار والوقفات والنبرات والتردد والإقدام والعلو والدنو .
إن كل ما من شأنه أن يحدث في النص تموجات وذبذبات باعتبارها جميعا إذا اتسقت وتناغمت ووظفت وجعلت في نسق أحدثت ضروبا من الموسيقى المقيسة على وفق النظام العروضي القديم أو على وفق أي نظام إيقاعي آخر جديد ينبع من إيقاع الحياة أو إيقاع العمل دون أن تكون له صورة مسبقة الصنع . وبذلك يشمل فهمنا هذا جميع أنواع الشعريات الصوتية التي تلتزم في صياغتها اسلوب الأداء الموسيقي في عنصرين رئيسيين : هما التناغم والانسجام . (2)
من المعلوم أن دراسة الظواهر الشعرية معزولة كدراسة الإيقاع أو الصورة أو الرؤيا لايمكن أن تخلق لها خصائصها وسماتها المتفردة التي تصلح معايير التفريق بين أنماطها بل إن ما علينا هو دراستها ضمن مفهوم شبكة العلاقات التي تشكل البنى الكلية .
لقد لاحظ ( كمال أبو ديب ) ملاحظة ذكية في هذا الصدد وهي انه كلما أمعنا في الشعر في الاعتماد على الصورة الفنية ابتعدنا عن التركيز على موسيقية الأداء والعكس صحيح .(3)
برغم التطور البطئ للإيقاع على المستويين النظري والعملي (( فأن دارسي الشعر الحديث في ضوء علاقته بالموسيقى والإيقاع مازالوا يبدءون من نقطة الصفر ، مازالوا يتحدثون عن مسائل الوزن والقافية والعروض الخليلي وغير الخليلي وطبيعة الشعر العربي وجوهر الإيقاع وماهيته وضرورته أو عدم ضرورته للنص الحديث .(4)
ولهذا فمن المسلم به أن الشعرية بصورة عامة لايمكن أن تهمل عنصر الإيقاع بسبب وجود علاقة بين الإيقاع وبين العصر لأنه جزء من حركة الحياة يتغير بتغيرها ويلبي حاجاتها ولوجود علاقة صميمية بين أشكال التعبير الشعري وبين تغيرات الإيقاع وتحولاته .
في اعتقادي – كما يعتقد الكثيرون – إن أولئك الذين يرون أن الإبداع الشعري لا يكون بالتحلل من التقاليد أو القيود ولا سيما الوزن والقافية ويحملون الرأي العام بأنه يطالب بشعر يطرب له ويصفق له حين يسمعه هم بالتأكيد واهمون لأن ذلك ببساطة يلغي فعل الزمن حين يجعل من الإبداع القديم النموذج الأسمى الذي يصبو إليه كل إبداع .
إذاً فإشكالية الإيقاع هي جزء من إشكالية الموقف في التراث . ولكن الأمر قد تطور كثيرا فحين بدأت نازك الملائكة في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر ) تؤسس لإيقاع التفعيلة معتمدة الأبحر الصافية ، نجد أنها ما لبثت أن أجازت استعمال الأبحر الممزوجة في مقدمة طبعته الرابعة .(5)
مما حدا بالناقد محمد النويهي في كتابه ( قضية الشعر الجديد )(6) لأن يلفت النظر إلى مسألة ( النبر ) ثم خطا كمال أبو ديب في كتابه ( البنية الإيقاعية في الشعر العربي ) إذ بين أن موسيقى الشعر ليست وقفا على عروض الخليل وان أبحره لا تمثل إلا وجهة نظر وحيدة الجانب في القضية . (7)
وإذا عدنا إلى التطبيق والنصوص الشعرية فسوف نراها قد تجاوزت ما اقترح لها من إيقاعات تجاوزت الوزن وتجاوزت حركة التجربة الشعورية التي هي أساس النص القائم على التفعيلية لتبني لها مع قصيدة الحداثة – قصيدة النثر – أنظمة صوتية مغايرة تعتمد على العين والمكان وإيقاع التأمل والتلقي : إلى درجة إن النص أصبح نصا يشاهد ويرى ويتأمل حلت فيه العين محل الأذن والصمت محل إيقاع الحركة ، حتى أصبح النص بمثابة تسجيل الحالة وليس التعبير عنها فقط وبمفهوم آخر برز في النص الشعري إيقاع الصورة بدلا من إيقاع الغناء وبسبب هذا الإيقاع اتجهت الكتابات الشعرية نحو التوزيع والمساحات البيضاء والإشارات والأسهم مما يذكرنا بان طريقة القول هي الأكثر أهمية مما يقال وبالتالي فهي الأكثر شعرية وهذا الرأي يذكرنا برأي الجاحظ الذي عرضه في ( البيان والتبيين ) من أن المعاني موجودة على قارعة الطريق وان العبرة بالصياغة وطريقة الأداء.
لابد أن هنالك هاجس تجريبي لشعراء قصيدة النثر ليراهنوا على قوة التأثير وهو التجريب في الشكل أو اللغة والسؤال هنا هو هل هنالك بلورة شكلية استقرت عليها قصيدة النثر يقول جمال جاسم أمين في كتابه ( أسئلة النقد ) إن مثل هذه المسألة تعود بنا إلى ضرورة التذكير بأن قضية الإشكال هي توصيفات نقدية مقترحة لتحقيق غاية الشعر الأمر الذي يجعل من الشعر بوصفه جوهرا هو المطلب الأساس وعلى الشاعر أن يتحرى هذا المطلب بأساليب .. على وفق ما تتطلبه ظروف تجربته الشعرية .
ويقول أيضا ( إن لغة النثر اقرب إلى التأملات الذهنية من نبرة الوزن ولعل هذه المسألة هي إحدى الطروحات التي اعتمدتها قصيدة النثر في تكريس مشروعها النظري ).(9)
على هذا الأساس فان المعرفية التي تنحاز إلى النثر هي على الضد من الإيقاع لأنها تؤدي إلى إضعافه ، إذ لايمكن فصل الحقيقة الشعرية عن تعبيرها ، لقد أدركت بعمق أن المشكلة الشعرية مرتبطة بمشكلة اللغة ارتباطا وثيقا . وحيث أن آلية الشعر الموزون المقفى أكثر دقة من الكلمات نفسها فان هذه الآلية تعلو على التوافق بين الصوت والمعنى وبين الفكرة والإيقاع فالتجربة الشعرية تترجمها اللغة .
ينبغي أن نطمح دائما إلى أهداف تتعدى أهداف النثر العادي الشائع وان نبتعد عن الصفات المجانية والغموض وان نتخلص من كل تزويق لفظي وزخرفة ترسمها العناصر المختلفة بأسلوب تنوع النبرات وعلاقاتها برسم الجملة الشعرية .
يبدو أن الانسجام العام في القصيدة هو الذي سوف يعطي لها ( نغمتها ) الخاصة بها لكي نحرص على وحدة الجو العام ونتلافى كل تنافر مقزز في الأصوات للحصول على بنية متوازنة لجسد القصيدة . علينا أن نستخدم النبرات الإيحائية لاغناء القصيدة .
نحن نستفيد الآن في قصيدة النثر من شكل حر جدا ، مفتوح لنستقبل فيه كل القياسات الموسيقية تلك التي تتعدى حدود التقرير المجرد .. ذلك أن الانطلاقة المفاجئة اللاهثة المبنية على أسس هندسية معمارية خلابة سوف تعطي للقصيدة روحا وجسدا ، وتكسبها وجودا أدبيا خاصا .
فقصيدة النثر نشاط ذهني حقيقي يحرر الفرد ويفترض فلسفة بأكملها عن العالم ، وقد أعطت زخما جديدا للشعر ، لأن هنالك عوالم مجهولة تفتحها وفجوات واسعة في العالم المرئي تحاول أن تقتحمها بعيدا عن الفردية المتحمسة ، ولأنها محاولة ناجحة لتخطي الامكانات الطبيعية للغة ، إنها تحاول تحفيز عدة عوامل في آن واحد كما هو الشأن في مقطوعة موسيقية ، فالأذن إذا كانت قادرة على سماع عدة أصوات في آن معا فان الذهن لا يستطيع متابعة أكثر من موضوع في وقت واحد إذ لابد من وجود مدة زمنية ليكون هنالك بعد فضائي للانسياب اللغوي . وبناءً على هذا لابد لقصيدة النثر أن تمارس ذلك الانسياب التزامني كي تبدو كأنها وميض مكثف جدا أكثر من كونها بناء في الزمان .
أن الإيقاع النثري هو خلق لغة شعرية جديدة أكثر مرونة وتنويعا يتكيف مع حركات الروح الغنائية وتموجات الخيال ورجفات الضمير ، حيث انه من الممكن إعطاء النثر إيقاعا وتناسقا في قصيدة جيدة الرصف وذلك بأحكام البناء الإيقاعي الخلاب من خلال الرغبة في إيجاد طرق صورية تعطي إيقاعا ملحوظا بهندسة محكمة .
يقول – اوليفيه – معرفا الإيقاع بأنه ( اجتماع أزمنة عديدة تحتفظ فيما بينها بنظام ما وببعض النسب )(10) في هذا التعريف نجد أن اوليفيه يشير إلى عنصرين رئيسيين هما ( نظام محدد ) و ( نسب ) وتعلق سوزان برنار قائلة ( بوسعنا القول إن الإيقاع سيولد حينما يكون نظاما محددا وعلاقات تناسب ملموسة في المجموعات الإيقاعية الطويلة تقريبا أو المتعددة التي تشكل وحدة من الدرجة الأولى ( بيت شعر ) أو من الدرجة الثانية ( مقطع ) لأن الجزء الإيقاعي – وهو ما يسميه الرمزيون ( التفعيل الإيقاعي ) تشكله كلمة آو مجموعة كلمات يكون المقطع الأخير فيها مشدداً . (11)
اذاً فنحن نبحث عن تأثيرات إيقاعية حيوية ومدهشة في قصيدة النثر ، وأيضا نبحث عن عناصر شعرية في النثر بطريقة الإيقاع النثري لنحصل على نتائج شعرية جديدة تماما ، وبناء على ذلك سيكون بمقدور النثر الإيقاعي أن يدخل ( الحدث ) في الشعر عن طريق المفردات وبناء الجملة الشعرية .
إن الإيقاع في قصيدة النثر ينبغي أن يخضع لقوانين غير القوانين التي تدير النثر الخطابي ليكون كيانا فنيا من أهم صفاته الوحدة العضوية والتركيز والشفافية المهمة لإثارة الهزة الشعرية .
إن نتاجا شعريا – أي نتاج – ينبغي أن تحكمه ( علاقات ) سواءاً على الصعيد الأفقي ( السياقات النغمية ) أو على الصعيد العمودي ( التناسقي ) بين مختلف الأصوات / الرنين – المعنى – الإيحاءات .
وأخيرا إن قصيدة النثر في أدبنا العربي الحديث – على الرغم من حداثة عهدها / قد أعطت نماذج رائعة وهي تتجه إلى صيغ أكثر حيوية ، وهي أداة شعرية جديدة ، إنها قبل كل شئ علم عروضي جديد مبني على الإيقاع وليس على البحر مما يمنحها خصوبة فهي ليست مجرد شكل انتقالي بقدر ماهي صيغة إيقاعية جديدة.
الهوامش :
1. سوزان برنار- قصيدة النثر
2. يوسف جابر- قضايا الأبداع في قصيدة النثر
3. كمال أبو ديب – الشعرية
4. نعيم اليافي – أطياف الوجه الواحد
5. نازك الملائكة- قضايا الشعر المعاصر
6. محمد النويهي – قضية الشعر الجديد
7. كمال ابو ديب – البنية الأيقاعية في الشعر العربي
8. جمال جاسم أمين – أسئلة النقد
9. 9- المصدر اعلاه
10. سوزان برنار – قصيدة النثر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق