الأحد، 1 أبريل 2018

حينما يتحوَّلُ المُهمَّشونَ إلى متنٍ سرديٍّ



حينما يتحوَّلُ المُهمَّشونَ إلى متنٍ سرديٍّ
قراءة في كتاب "إشكاليات الهامش.. تجلِّيات النص"
للأديب والناقد/ محمد عطية محمود

كتبَ: أحمد حنفي

هل اكتفى الروائيون من مناقشة القضايا الوجودية الكبرى التي لطالما شغَلَت الفلاسفة على مرِّ القرون كقضايا الموت والحياة وعِلَّة الوجود الإنساني، أم تراهم وجدوا في الفرد المُهمَّشِ موضوعًا لا يقلُّ خطورةً عن تلك القضايا الوجودية الكبرى باعتبار الفرد هو ذاته القضية الوجودية الأعلى، وبالتالي تحوَّلت النَّظرةُ إلى الداخل بعد أن كانت تدور في فلك البحثِ عن غائيةِ الوجودِ وتفسير الموت والحياة؟
يبدو السؤال السابق بطرحيه/ بشقَّيه سؤالاً غائمًا يحتاجُ إلى دراساتٍ تطبيقيَّةٍ عميقةٍ تستقرئُ الإبداعَ الروائي المعاصرَ وتستنطق سطورَه في محاولة البحثِ عن إجابةٍ، تكونُ تلك الإجابة من الأهميةِ بمكانٍ بحيثُ إنها تجيبُ عن تساؤل التحوُّل الإبداعي في النظرةِ إلى الموضوع؛ أهو الكون أم الفرد/ العام أم الخاص؟ وفي ذات الوقت ترصدُ التحوُّلات المجتمعية في ضوء الظرف السياسي والظرف الاقتصادي والظرف الثقافي كعوامل رئيسة في الحراك الاجتماعي المضطرب والذي يصنعُ يوميًا آلاف المهمَّشين، ومن ثمَّ صار البحثُ في ذلك الموضوع مهمةً شاقةً ومغامرةً محفوفةً بالمخاطر؛ إذ أنَّ الناقدَ الذي سيتصدى لهذا الموضوع لا بدَّ أن يمتلكَ إلى جانب مهاراتِه النقدية وإلمامه بتاريخ الرواية وتطورها وضرورة الفن- لا بدَّ أن يمتلك مهاراتِ المحلل النفسي، ودأبَ الباحث الاجتماعي، وصبرَ الصياد الخبير حتى يحظى بصيد سمين/ ثمين، وهو ما فعله الأديب والناقد (محمد عطية محمود) في كتابه النقدي الأحدث (إشكاليات الهامش.. تجليات النص- في نماذج من الرواية الإسكندرية) والصادر عن سلسلة (الفائزون) عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- 2017 والحاصل على المركز الأول بالمسابقة الأدبية المركزية لنفس العام.

والكتابُ ليس المنجز النقدي الأول لصاحبه، فقد سبق وأن صدر لعطية كتابه النقديَّ الأوَّلَ (تجليات سرد الحياة) عن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ عن سلسلة كتابات نقدية التابعة لهيئة قصور الثقافة عام 2015، كما صدرَ له كتابًا بعنوان (ملامح روائية) عن وكالة الصحافة العربية عام 2017، فضلاً عن كتاباته الإبداعية في الرواية والقصة القصيرة والتي كان آخرها مجموعة (عيون بيضاء) والصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2016 والتي شاركتُ في مناقشتها في العام الذي صدرت فيه، وقد اجتمعت في عطية عدة ميزات أهَّلته لأن يتصدَّى لذلك المشروع النقدي الصعب؛ ففضلاً عن كونه مبدعًا مجيدًا من جيل الوسط الذي اتصل برواد الحركة الروائية السكندرية وتتلمذ على أيدي العديد منهم فهو أيضًا ناقدٌ مُتمرِّسٌ صاحب تجاربٍ نقديةٍ سابقةٍ، وهو بحكم العمل الوظيفي قريب الصلة بالحركة الإبداعية السكندرية المعاصرة إبداعًا ونقدًا وأحد المشاركين في الفعل الثقافي بالإسكندرية، وجميعها مؤهلات تشي أننا بإزاء كتابٍ نقديٍّ يجيبُ عن التساؤل الذي طرحته في أول المقال والذي لطالما دار بخلدي عدة سنوات.
وقد اتَّبعَ عطية في بحثه منهجًا علميًا؛ حيثُ توقَّفَ عند مفهومِ المُهمَّشينَ كمدخلٍ تمهيديٍّ لبحثِهِ، ولم يشأ أن يطرحَ تعريفًا اجتهاديًا طالما أنَّ التعريفَ موجودٌ وكائنٌ بالفعلِ في الأوساطِ العلميَّةِ، أي أنَّه فطنَ إلى أهميةِ البناء التراكمي للمعرفةِ وإلى ضرورةِ عدم شَغلِ القارئِ بتعريفاتٍ لا تُقدِّمُ إضافاتٍ إبستمولوجيةً جديدةً إلى حقلِها، بل نراهُ تبنَّى تعريفَ د. محمود إسماعيل للمهمَّشين المصريين في كتابه (المهمَّشون في التاريخ المصري) على أنَّهم "المبعدون عن الصورةِ المضيئة. هؤلاء الذين ساهموا في إشعالِ جذوةِ الحضارةِ المصريةِ في مختلف عقودِها ومراحلِها وهم يقفون في الصفوفِ الخلفيَّةِ.. جموع العامة.. الفلاحون.. المزارعون.. البسطاء.. جماهير الشعب التي تعملُ في صمتٍ ودون جلبةٍ أو ضوضاءٍ.. المصريون الطيبون الذين أسقطَهم التاريخُ من دفاترِه وأوراقِه" [إشكاليات الهامش، محمد عطية، المقدمة ص7]
ومن خلالِ التعريفِ السابقِ للمهمَّشِ والمرتبطُ بمجتمعٍ مُعينٍ –المهمَّش المصري- ينطلقُ عطية في بيانِ نظرتِهِ للإبداع الأدبيِّ عمومًا والروائيِّ بصفةٍ خاصةٍ على اعتبارِ أنَّه "المرآة التي يستطيعُ العالمُ من خلالِها أن يرى نفسَهُ، ومن ثمَّ الدخول في دائرة التحليلِ وسبرِ الغورِ، واستشراف معادلات الوجودِ التي تلحُّ وتُطرحُ من خلالِ الأسئلةِ" [المقدمة ص7] ومن هنا تحوَّلَ المهمَّشون إلى مادةٍ أدبيةٍ خصبةٍ تتجلَّى أوجهها في قضايا كالغربةِ المكانية وكالاغترابِ المجتمعي وكالصراعِ مع الزمنِ الضاغطِ على الفردِ لينتجَ عن ذلك أنواع عدَّة من التهميشِ القسري للفردِ، كالتهميشِ النفسي والتهميشِ الثقافي والتهميشِ التاريخي والتهميشِ الوجودي للمرأةِ ودورِها في المجتمعِ.
وقد لاحظَ عطية من خلالِ فصولِ كتابِهِ ارتباطَ الأنماطِ السرديةِ -المختارةِ للدراسةِ- بالمجتمع، وهو ارتباطٌ فرضته تجليَّاتُ الحالةِ النَّصِّيَّةِ أو سلطةُ النصِّ مما دفعه للحكمِ على نماذجِهِ الروائيةِ بأنَّها حاملة لسماتِ هذا الواقعِ الاجتماعي الجديدِ المتجددِ وهو ما يطرحُ على الناقدِ سبلَ التعاملِ مع هذا النصِّ الروائي "المتغيِّر الجديدِ الذي يفرضُ سماتِهِ وطقوسَ إبداعِهِ من داخلِهِ" [المقدمة ص10] في إشارةٍ إلى تبنيه مبدأ سُلطةِ النَّصِّ لأهميته في العمليةِ النَّقديةِ؛ إذ ينطلقُ بمنهجٍ استقرائيٍّ لبيانِ قدرةِ النصِّ على البوح بمعطياتِهِ وتقديمِ مفاتيحه وشفرته الخاصة ومن ثمَّ وجبَ على الناقدِ "تطويع الحالة النقدية لصالحِ النصِّ لا لصالحِ المعطى النقدي أو النظرية النقدية" [المقدمة ص12] وبالتالي فقد تحرَّر عطية من كافة الآليات النقدية التي قد يتعسَّفُ الناقدُ في استخدامِها من أجل الانتصار لاتجاهٍ نقديٍّ على آخر.
الأديب والناقد/ محمد عطية محمود

تنوَّعت تجليَّات الهامشِ في الكتابِ تبعًا لتنوع المنظور الروائي للكُتَّابِ أنفسِهم، فتحدَّثَ عن هامش المرأة/ الجسد كما تجلَّى في رواية "أشلاء بؤرة العشاق" للأديب الراحل أحمد حميدة، كما تناول هامشَ الاغترابِ وإشكالية وجود الآخر كما تجلَّى في رواية "بساط من وجوه وجباه" للأديب محمد محمود الفخراني، كما تناول أيضًا الهامشَ التاريخي كما تجلَّى في رواية "موجيتوس" للأديب منير عتيبة، وتجليات عديدة أخرى كالهامشِ السياسيِّ والاجتماعي والثقافي عند مجموعة من الروائيين السكندريين المعاصريين والذين يمثلون أجيالاً متقاربةً.
الكتابُ مكوَّنٌ من عشرة فصولٍ تنتمي بالأساسِ إلى النقدِ التطبيقيِّ الذي يسعى من خلاله الناقدُ إلى استنطاقِ النَّصِّ الروائي، ولكن من زاويةٍ أخرى ومن خلالِ القراءةِ المتأنِّيةِ نكتشفُ أننا بإزاء كتابٍ ينتمي إلى حقلِ الدراساتِ الأدبيَّةِ التي تسعى إلى رصدِ الظاهرةِ وتجلِّياتِها في النصوصِ الأدبيةِ ولكن من خلال عدة أبحاثٍ طوليةٍ تُشكِّلُ في مجموعها صورةً عامةً للظاهرةِ وتجلِّياتِها.
كما يؤشِّرُ الكتابُ من طرف خفيٍّ إلى تحوُّل الروائيين عن تقمُّصِ دور الفيلسوف إلى دور الباحثِ الاجتماعي، ذلك الباحث الذي يُعرِّي ما تحاولُ المجتمعات ستره، وينفضُ الغبارَ عن شخوصٍ سقطوا في حراكٍ اجتماعي يتَّسمُ بالعشوائية في ظلِّ ظروفٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ مضطربة، ولا أدلّ على اضطرابها من اتساع رقعة الهامش حتى كادت أن تكون متنًا، وبمعنى آخر، استطاعت الرواية المعاصرة -السكندرية خصوصًا- أن تستوعب التحولات المجتمعية وأثرها على الفرد، وهو ما تقف أمامه فصول الكتابِ رصدًا وتسجيلاً وتحليلاً.
ولم يكتفِ محمد عطية بالوقوف على الظاهرة ورصدها أو تسجيلها، بل نراه قد تخطى الرصد والتسجيل إلى التحليل الهاديء المتعمق لنماذجه الروائية التي اختارها لتمثيل الظاهرة، ذلك التحليل الذي عالج جوانبَ عديدةً كالبنية السردية وجماليات النص وصولاً للرؤية التي يطرحها كل نص روائي على حدة والتي تمثل تجليًا من تجليات مفهوم الهامش الذي عالجه في مقدمة الكتاب ليصير الفصل الواحد/ التجلِّي الواحد لبنةً تُضاف إلى ما قبلها وتُمهِّدُ إلى ما بعدها لنجدنا في النهاية أمام بناءٍ/ نسقٍ محكم يعالج الظاهرة من كافة زواياها التي طرحتها الرواية السكندرية المعاصرة حتى ليمكننا القول أنَّ الكتاب يُعدُّ ورقةً بحثيةً أمينةً ومرجعًا موثوقًا لمن يريد أن يتعرَّف على الرواية السكندرية واتجاهاتها وأعلامها في العقدين المنصرمين، وتلك أهمية أخرى يُكرِّسها المؤلف بشكلٍ غير مباشر بين تضاعيف كتابه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق