الأحد، 15 أبريل 2018

لهيب العناد.. في سيرة الجواد قراءة في ديوان (من سيرة الجواد المعاند)


لهيب العناد.. في سيرة الجواد
قراءة في ديوان (من سيرة الجواد المعاند)
للشاعر/ د. فوزي خضر


بقلم الشاعر والناقد/ عاطف الحناوي

ترك ديوان "من سيرة الجواد المعاند" في نفسي أثرا عميقا، لكني تذكرت قول الدكتور "عبد الله سرور" في ندوة بقصر ثقافة مصطفى كامل حيث قال : (إن النقد هو دراسة الشئ و ليس أثر الشئ، فالأثر نسبي باختلاف المكان و الزمان و الأشخاص، و الشئ واحد لا محالة) لهذا سأحاول تحري الأمانة العلمية و الموضوعية بقدر الإمكان ...
يبدأ فوزي خضر ديوانه قائلا :
الجواد المعاند يدخل الشمس، تدخل فيه ..
و تخرج منه : صهيلا و حمحمة،
تتناثر – تحت سنابكه – شعل من شظايا النجوم
كأن الشاعر هنا يشعل شرارة البدء و يضيع يديه على سر أعظم يجعل النجوم تتفجر تحت قدمي الجواد و تتناثر شظاياها و هذا السر هو العناد !! ...
و ها هو يقول :
السباق طويل
تتشاجر أنفاس كل الخيول و صدر الهواء
و تلكم أرجلها الأرض
لكن هذا الجواد المعاند فاق الجياد
تنقطع أنفاس كل الخيول
و تنظر للأرض عاتبة
و الجواد المعاند منطلقا
عينه للنهاية ناظرة كالرياح العتية مازال منطلقا ...
لعلنا في كل قصيدة من قصائد هذا الديوان نشعر بنبضة قوية من نبضات الحلم – من نبضات العناد – و لعل الشاعر هنا يؤمن أنه لا سبيل للسعادة إلا من خلال طرق ثلاثة – الإيمان، الفن، الحب – على حد تعبير يحيى حقي في مقدمة أعماله الكاملة .
و ها هنا الشاعر يؤمن بالعناد كفلسفة، و نجده يتفنن في صوره و ألفاظه السهلة المعبرة، و لعل الفن و الإيمان يولّدان، و ربما يولدان من الحب ..
نلاحظ الأفعال المضارعة المتعددة التي تدل  - تقريبا – على إيمان الشاعر بقدرته على الفعل و تحريك سواكن الكون مثل : ( يدخل – يشرب – يجيد – يعرف – يحلم – لا يفلت من بين يديه الركض .... )
لعل شاعرنا فيلسوف إذ صوّر اللهب المحرك للإنسان – الجواد – في تداخل الإنسان مع الشمس و دخوله فيها بل و دخولها فيه أيضا، فيكونا شيئا واحدا – لهبا واحدا – " مع العلم بأن الشمس هي مصدر كل الطاقات على سطح الأرض "
و تكرارا نلاحظ جملة " يدخل في الشمس، تدخل فيه " في عدة مواضع من الديوان ..
إذ يقول :
ملتهبا يتخاصم و الأرض
يدخل في الشمس، تدخل فيه
تخاصم شاعرنا و الأرض إذ أنها باردة و ميتة، أما الشمس فهي الحليف القوي و هي اللهب و الحركة ..
و يقول أيضا :
.... تميل إليك الغصون
فتضحك ملء الرياح و تمضي
فتدخل في الشمس
تدخل فيك
تلونها بالصهيل
فتمنحك اللهب الأبدي
لتطلق ركضك عبر الحياة
يصبغ الشاعر الشمس – شمسه الخاصة – بالصهيل و بعدم الصمت و بالعناد، فتمده الشمس باللهب و الحياة و الطاقة، و هو هكذا قد صرح لنا عن معنى الشمس بالنسبة له .
و ركض الجواد ليس هباءً، و ليس ركضا لمجرد الركض، بل يركض تجاه شئ محدد سلفا و هكذا يقول :
و الجواد شعلة من عناد
رغم أن دماه على أرضه
-         تحرق الرمل، تحرق حتى قلوب الحصى –
لم يزل ساعيا
مؤمنا أنه .. و
لا ينال المراد ..
بغير الجهاد
و سيظل يركض حتى الموت، و كما يقول الإمام " أبو حامد الغزالي " – رحمه الله : " إن الشئ الوحيد الأكيد في حياتنا هو الموت، فالحياة في ذاتها شئ مشكوك فيه، أما الموت فواقع لا يغيب "
إذن فواجبنا أن نركض – نعاند و نصهل و ننتج حتى الموت – رغم علمنا بذهابنا نحو الموت بهذا الركض .. يقول :
خارجا للبراري
حالفا لا يعود
سيركض .. يصعد هذي الجبال
و ينزل هذي السهول
و يركض..
يركض..
يركض..
حتى يموت
و في معنى مثل ذلك قال شاعر مغمور :
إن لم تذهب للموت فلن تحيا ..
إن لم تصرخ في وجه الخوف فلن تحيا ..
إن لم تصدق
لن تبقى
وسوف تموت
نلمح جمال التصوير مع سهولته و عمقه عند فوزي خضر حيث يقول :
لم يزل في العروق بصيص عناد
لم تزل في عيون الجواد
نظرة من لهيب ...
تضئ بلاد
أي نظرة تلك و أي لهيب – مع العلم بأن الشباب الذي مضى لا يستعاد – أعتقد أنه العناد ... العناد الذي يعطي الحياة دفعة فوقية تجعلها تتصاعد لذروة الانفعال و اللهيب ... !
نلمح كذلك أن الشاعر يوجه حديثه لصورة الأنثى في بعض قصائد المجموعة، و لعل تلك الأنثى هو الوطن أو المحبوبة أو لعلها محض فلسفة عليا تراود الشاعر و يراودها فنجده يقول مثلا :
... أجيئك طفلا يشاغب عينيك
فيضا من العبث المشتهى...
في ليالي الشتاء ...
إلى أن يقول :
أعلن موتي فيكِ
أستطيع الآن أن أقول ... هو الحب يفعل فينا ما يشاء و هو أيضا العناد و التحدي – الحب منبع للعناد .
د. فوزي خضر

و نجد الشاعر يداخل بين شعر التفعيلة و العمودي في نظام دقيق لا يجعلك تضطرب للنغمة أو تتابع التفعيلات أو القوافي كما نجد مداخلة – تضفيرا – بين الفصحى و العامية حينما يحكي قصة المهر الصغير المريض، يحكي قصة الحلم الجميل الذي سقط فجأة و انهار و يتمدد الزمن عنده فيقول :
كم عاما مرت ..
منذ الشهر الماضي ...
حتى الآن ؟؟
فنجده من فرط شوقه لوطنه يعود – رغم جمال " سِرْت " ..
رغم جمالك يا (سِرْت)
إلا أن الأحلام
أكبر من قسماتكْ
و الركض الثائر في صدري
يبغي ساحات أوسع من ساحاتك
و نلمح حكاية الابن المشابه لأبيه  - ابن الوز عوام – فيقول :
مرت أعوام بعد الأعولم
كان المهر بطول الأرض،
بعرض الأرض
فتيا ...
لا يفلت من بين يديه الركض
تعلم من أيام أبيه .. فصار عنيدا
و تألق عبر الأيام ...
ثم نجد الشاعر يقع في الحسرة و الحزن و يدخلنا معه في هذا الشعور بقوله :
فجأة :
سقط المهر مريضا ...
لكننا بما عرفنا عن الجواد فإنه قد قام من مرض سابق و لم ينكسر فيقول :
الجواد المعاند قام
فاستعاد الخطى من جديد
سيمشي قليلا
يهرول ..
ثم إذا ما استعاد لهيب الشموس
سيركض ..سيركض
لن يتوقف عن ركضه
ساعة من نهار
لكن ها هو الجواد في حالة سقوط المهر يتحول لإنسان بكل المقاييس – برغم العناد:
اقترب الموعد في يوم راجف
المهر سيكوى بالنار
فرس تخنقها جدران الدار
و جواد واقف يخشى أن ينهار
و من أفضل ما يمكن أن نختم به هذا التحليل السريع قول الشاعر في المقطع الأول من القصيدة رقم 15 :
لم يزل في العروق بصيص عناد
لم تزل في عيون الجواد
نظرة من لهيب تضئ بلاد
رغم أن الشباب الذي قد هوى منه لا يستعاد
لم يزل في العروق .. بصيص عناد .
هذا هو الشاعر / الجواد المعاند، لا يتخلى عن العناد، و إذا خفتت جمرته تعود للاشتعال مرة أخرى، عارضا ذلك من خلال 37 قصيدة يضمها ديوان " من سيرة الجواد المعاند " الذي يقدم تجربة شعرية فريدة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق